أينما ذهبت من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب يشد انتباهك طغيان النزعة المادية والإغراق في الشهوات والزهد عن الروحانيات، ولكن يكفي التأمل جيداً لتلاحظ الوجه الآخر لأوج الدهرية ممثلاً في عودة نزعة التدين في كل المجتمعات البشرية على المستوى العالمي.
قد تبدو العودة إلى التدين من مفارقات هذا الزمن، ولكنها قد تكون تحمل في طياتها رد فعل على هذا الإفراط أو الغلو في “الفساد في الأرض” وطغيان النزعة المادية، عملاً بالقاعدة “إذا وصل الأمر إلى الحد انقلب إلى الضد”، وقد تأخذ نزعة التدين أشكالاً منحرفة، ولكن الثابت من خلال أحداث الواقع أن مسار التدين في خط تصاعدي، وهو ما يعني أن النزعة الروحانية وفطرة الدين في الإنسان لن يغالبهما أحد إلا غُلب وانهزم.
بداية العد التنازلي للدهرية
الدهرية هذا المصطلح القرآني الذي يتحدث فيه عن الدهريين شعارهم “وما يهلكنا إلا الدهر”، وهي فلسفة تقوم على اعتبار أن الوجود الإنساني مرتبط بهذه الحياة ولا وجود لحياة أخرى بعد الموت، وبالتالي فإن هذه الدنيا هي الفرصة الوحيدة أمام الإنسان للتمتع بكل شهواته ونزواته ورغباته المادية.
وجاءت كل الأديان أو الشرائع السماوية لتصحح هذا المفهوم، وتعطي تصوراً مغايراً يعتبر الحياة الدنيا دار عمل، وهي مطية لحياة أخروية هي دار خلود؛ وبالتالي فإن الموت ليس سوى انتقال من محطة إلى محطة أخرى.
النزعة الروحانية وفطرة الدين في الإنسان لن يغالبهما أحد إلا انهزم
ولكن الإنسان كما وصفه القرآن الكريم “لكنود”، “وإنه لحب الخير لشديد”، ولا ينفك يعاند ويجادل، في هذا السياق، لم تتوقف دعوات الدهريين للإغراق في المادية والابتعاد عن أي مرجعية دينية.
وفي العصور الحديثة، برزت تيارات عدة تتمحور دعواتها حول المتعة الجسدية والتكالب على المادة، وسحب المرجعية الدينية بكل أشكالها من الحياة العامة، وعلى رأسها الماركسية التي تقوم على فلسفة الجدلية المادية، والشيوعية التي تعتبر الدين أفيون الشعوب، والفرودية (الجنس هو الدافع وراء السلوك الإنساني، والقيم والعقائد حواجز أمام الإشباع الجنسي مما يورث عقماً وأمراضاً نفسية)، والداروينية (نظرية النشوء والارتقاء تقول بأن الإنسان أصله خلية تطورت عبر مراحل منها مرحلة القرد انتهاء بالإنسان، وتنسف الفكرة الدينية بأن آدم أب البشرية)، والوجودية (الإنسان هو المركز وله إرادة مطلقة ولا يحتاج إلى موجّه خارج ذاته وعليه أن يحطم كل الضوابط الدينية وغيرها)، والحداثة والعلمانية التي تسعى إلى فصل الدين عن الدولة والحياة السياسية وفي أفضل الحالات توظيفه سياسياً ليكون مجرد قيمة رمزية ومعنوية.
ونتيجة لكل هذه المذاهب والتيارات، غرقت البشرية في بحر الظلمات، ولا تنفك تخرج من أزمة لتجد نفسها تدخل في أزمة جديدة، حيث (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ) (الروم: 41)، والأمثلة عديدة مثل الاحتباس الحراري وانتشار الأمراض الخطيرة مثل جنون البقر والإيدز وجدري القردة، والتفاوت الكبير بين فئة الفقراء مقابل فئة المترفين، وتصاعد الظلم والتكبر والعنصرية، والتضخم في الأسعار وغلاء المعيشة، وسباق التسلح، والتهديد النووي، وتراجع القيم والأخلاق والآداب في علاقة الرجل بالمرأة والصغير بالكبير والطالب بالأستاذ وعلى مستوى العلاقات الأسرية والمجتمعية.
موجة من التدين لا ينكرها إلا جاحد
أمام هذا الوضع وتعقد الأزمات وعجز النخبة الفكرية والسياسية عن تقديم حلول مُرْضِية، بدأت تتشكل دعوات وتيارات وحركات تنادي بالعودة إلى الدين وإلى الروحانيات لعلها تُخرج البشرية من الأزمة العميقة، وهكذا أخذ مسار العودة إلى التدين خطاً تصاعدياً، وهو ما نلاحظه في كل المجتمعات البشرية على مختلف أديانها، ولدى أصحاب الأديان السماوية إلى أصحاب العقائد الوثنية والشركية مثل الهندوس وغيرهم، هناك موجة من التدين لا ينكرها إلا جاحد، واللافت للنظر أنها اتخذت أشكالاً مختلفة ومقاربات متناقضة أحياناً، بين التشدد أو التسيب من ناحية، وبين الاعتدال والوسطية من ناحية أخرى.
فهناك من يزعم كونه يمتلك الحقيقة والحل السحري فيسعى إلى فرضه وإلزام الآخرين به قولاً وفعلاً، ويصل الأمر به إلى إرهاب المخالفين ونصب العداء لهم، وهناك من يرى الحل في عملية توفيقية تلفيقية بين الدين وما يسمى بالحداثة بشكل يصبح التدين مساحيق خارجية لا أثر له في الواقع، وهناك من اختصر التدين في مشاعر باطنية وجدانية في منحى رهبنة وعزلة عن الواقع، وهناك فئة تجتهد في التدين في إطار عملية تفاعلية متوازنة بين الدين ومتطلبات الواقع.
تيارات عدة أغرقت البشرية في بحر الظلمات ولا تنفك تخرج من أزمة لتجد نفسها تدخل في أخرى جديدة
وتستغل أطراف ذات توجهات علمانية متطرفة أو إلحادية هذه المقاربات المتناقضة في التعاطي مع مسألة التدين لتؤكد أن الدين مصدر المشكلات والخصومات والصراعات والإرهاب، ولتثبت بأن المرجعية الدينية لا يمكن أن تكون صالحة اليوم لإنقاذ البشرية من أوحال أزماتها المتعددة، والحل هو الهروب إلى الأمام والإغراق في المادية، في هذا السياق، تُبذل كل الجهود من أجل إلهاء الناس وحصر تفكيرهم في أنواع من اللهو واللهث وراء اللذات والربح السريع (اليانصيب وغيره) والسّبح في الخيال عبر المسلسلات والأفلام.
الحسد الديني
بيد أن المتأمل في الخط التصاعدي لهذا التدين تشده ظاهرة عالمية، وهي أن الإسلام هو الدين الوحيد الذي يعرف صحوة عميقة الأثر منذ سبعينيات القرن العشرين على نطاق واسع تجاوز العالم الإسلامي إلى الأقليات المنتشرة شرقاً وغرباً، وتحديداً في البلاد الغربية التي تشهد عودة للتدين في صفوف أبناء المسلمين، بالإضافة إلى حركة اعتناق للدين الإسلامي عن طواعية بالرغم من كل الشبهات والتهجمات على المسلمين والإسلام، وهو الأمر الذي حير العقول وأوجد نوعاً من “الحسد الديني” في المجتمعات الأوروبية الغربية التي ترى في الصحوة الإسلامية “نوعاً من التهديد لهويتها المسيحية”، لهذا تتصاعد موجة الشعبوية المطالبة بالتصدي لما أسمته بـ”الأسلمة التدريجية للمجتمعات الغربية”.
وفي الواقع، فإن استهداف الصحوة الإسلامية -في كل مكان حيث برزت- من خلال استغلال المظاهر السلبية التي صحبتها (تشدد وغلو..) يعكس عجزاً عن تقديم بدائل لأزمات العالم، وشعوراً بالقلق إزاء بروز الإسلام كمنقذ من خلال أطروحات الحاملين لفكرة الوسطية والاجتهادات لتنزيل مقاصد الدين في ظل متطلبات الواقع مع القناعة بأن العالم يتهيأ لدورة حضارية إسلامية جديدة.