على الرغم من أن تونس كانت تمثل أفضل الآمال لإرساء الديمقراطية بالمنطقة العربية، بعد ثورة الياسمين، إلا أنها منذ عام تشهد انقلابًا بطيئًا، من خلال ممارسات الرئيس قيس سعيد، الذي أغلق البرلمان بالدبابات، وعلّق العمل بالدستور الذي وُضع بأغلبية كبيرة، وتوافق شعبي في العام 2014م، وحلّ مجلس القضاء الأعلى، وذلك لتعزيز قبضته على البلاد منذ منح نفسه صلاحيات واسعة، وسيطرته على مختلف السلطات بداية من 25 يوليو/تموز 2021م.
ويستخدم سعيد، على الرغم من انتخابه بشكل شرعي في عام 2019م، سلطته لتقويض المؤسسات السياسية التي كانت واعدة في البلاد، والتي تأسست في أعقاب ثورة 2011م ضد الدكتاتورية.
دستور سعيد للانفراد بالحكم
يُشكّل الدستور الجديد الذي تم الاستفتاء عليه الإثنين، 25 يوليو/ تموز 2022م، بنسبة 29.7٪، حسب النتائج الرسمية، قطيعة مع دستور الثورة الذي أُقِرّ في 2014م وأسّس لنظام برلماني معدّل.
فبعد شهرين من بدء تحركاته في 25 يوليو/تموز 2021م؛ أصدر سعيد سلسلة من المراسيم التي ألغت معظم بنود دستور 2014م، ومنح نفسه سلطة الحكم بمراسيم، وهي خطوة قال إنها دستورية، لكن عارضها فقهاء القانون.
وأجرى سعيد استبيانًا افتراضيًا متعدد الاختيارات كنوع من المشاورة حول ما يريده التونسيون لنظامهم السياسي، لكنه شهد مشاركة ضعيفة، ووصف منتقدون الاستبيان بأنه مصمم لتحقيق النتائج التي يسعى إليها سعيد.
والغريب أن سعيد كلَّف الصادق بلعيد أستاذ القانون ليكون رئيسًا للهيئة الاستشارية التي قامت بصياغة دستور البلاد الجديد، ومع ذلك برزت اختلافات بين المشروعين، حيث وصف بلعيد المشروع الرئاسي للدستور بالخطير في مقابلة مع صحيفة (لوموند) الفرنسية، وأنه توجد مسافة كبيرة بين النصين، وأن مشروع سعيد يُكرِّس للاستبداد بالسلطة، ويعيد الجدل غير المجدي بشأن الهوية الوطنية.
ويُقر الدستور الجديد الذي تم الاستفتاء عليه بشكل واضح النظام الرئاسي، ولم تعد فقط للرئيس فيه صلاحيات الدفاع والخارجية كما نص عليها دستور 2014، بل توسّعت لتشمل أبعد من ذلك، اختصاصات تعيين القضاة، إثر تقديم ترشحاتهم من جانب المجلس الأعلى للقضاء، وتقليص النفوذ السابق للبرلمان.
كما أصبح لرئيس الجمهورية حق تعيين رئيس الحكومة، وبقية أعضائها باقتراح من رئيس الحكومة، كما يُخوّل له الدستور إقالتها دون أن يكون للبرلمان دور في ذلك. الفيديومدة الفيديو 02:
كما أن للرئيس، القائد الأعلى للقوات المسلحة، صلاحيات ضبط السياسة العامة للدولة، وتحديد اختياراتها الأساسية، ولمشاريعه القانونية “أولوية النظر” من جانب نواب البرلمان.
فضلاً عن ذلك، انقسمت الوظيفة التشريعية بين “مجلس نواب الشعب” الذي ينتخب نوابه باقتراع مباشر لمدة 5 سنوات و”المجلس الوطني للجهات” ويضم ممثلين منتخبين عن كل منطقة، على أن يصدر لاحقًا قانون يحدد مهماته.
ويندرج إرساء هذا المجلس في إطار تصور الرئيس قيس سعيّد بلا مركزية القرار وأن الحلول للمناطق المهمشة، والتي تفتقد للتنمية يجب أن تُطرح من جانب الأهالي.
إضافة إلى ذلك، يقبل الرئيس استقالة الحكومة إثر تقديم لائحة لوم مُصادق عليها بغالبية الثلثين للمجلسين مجتمعين، وهذا من الصعب تحقيقه ويفسح له المجال ليكون المقرّر الأول لمصير أي حكومة.
ولم يتضمن الدستور بنودًا لإقالة الرئيس، خلافًا لما جاء في دستور عام 2014، وفي المقابل يمنح له الحق في حل البرلمان، والمجلس الوطني للجهات.
ويقول سعيد إنه يهدف إلى إنقاذ بلد كان غارقًا في شلل سياسي، وأزمة اقتصادية من خلال إعادة تشكيل نظام الحكم وإصلاح دستور 2014، فيما يتهمه خصومه بالانقلاب.
إجراءات سعيد للسيطرة على مؤسسات الدولة
مرت تونس بمحطات سياسية عديدة مثيرة للجدل والانقسام منذ أن بدأ قيس سعيد بفرض إجراءات استثنائية في 25 يوليو/ تموز 2021. هذه الإجراءات شملت إقالة الحكومة، وتعيين أخرى، وحل كل من مجلس القضاء الأعلى، والبرلمان، وإصدار تشريعات بمراسيم رئاسية. حيث استند سعيد إلى المادة 80 من الدستور لإقالة رئيس الحكومة هشام المشيشي، الذي عيّنه بنفسه، ولم يستشر رئيس البرلمان راشد الغنوشي في هذه الخطوة طبقًا للدستور.
وبعد شهرين عيّن سعيد حكومة جديدة برئاسة نجلاء بودن، لكن دون السعي للحصول على دعم البرلمان المطلوب بموجب الدستور. وقوضت هذه التحركات الدور المحوري للبرلمان في تشكيل الحكومة، والمنصوص عليه في دستور 2014. ولم تكن بودن تصرح بأشياء كثيرة علنًا، وفي الأغلب كان لقيس سعيد اختيار وزراء حكومتها، وأصدر قرارًا بأن يقدموا التقارير إليه وليس لرئيسة الوزراء.
سعيد يواجه البرلمان والقضاء
بعد تجميد البرلمان قال سعيد إنه لا رجوع إلى الوراء، وأمر الجيش بتطويق البرلمان، وأوقف رواتب النواب، ورفع الحصانة عنهم، وقال خبراء في القانون إن هذه الخطوة ليس لها أساس دستوري. ومنذ ذلك الحين قضت محكمة عسكرية بسجن العديد من النواب بتهمة الاعتداء على الشرطة.
وفي مارس/آذار 2022 تحدى أغلبية النواب سعيد من خلال عقد جلسة افتراضية لرفض جميع تحركاته، وبعد ذلك حل الرئيس البرلمان، وهي خطوة أخرى قال خبراء في القانون إنها تفتقر إلى الأساس الدستوري.
وطالب سعيد بالتحقيق مع النواب الذين شاركوا في الاجتماع عبر الإنترنت، متهمًا إياهم بالانقلاب، وقال إنه يريد إجراء انتخابات برلمانية جديدة قبل نهاية العام. seco
كما عبَّر سعيد عن انزعاجه من القضاء مع تعثر مساعيه المتكررة في المحاكم لتوجيه تهم فساد ضد سياسيين، ورجال أعمال بارزين، فيما شكك قضاة كبار في شرعية تعديلاته الدستورية.
وفي مارس/آذار 2022 عيّن سعيد أعضاء جددًا بالمجلس الأعلى للقضاء، وهو هيئة مستقلة مكلفة بتعيين القضاة أو عزلهم، وفي يونيو/حزيران الماضي عزل 57 قاضيًا، بمن فيهم الرئيس السابق للمجلس.
تدخله المباشر في الانتخابات والمناصب العامة
مثّلت ثورة الياسمين نقلة نوعية في إجراءات الانتخابات، ونالت تونس إشادة دولية باعتبار الانتخابات حرة ونزيهة، بالمقارنة لما كان يحدث قبل الثورة.
ولكن الرئيس قيس سعيد كان له رأي آخر حيث استعاض في أبريل/نيسان الماضي عن لجنة الانتخابية المستقلة، التي أبلت بلاء حسنًا في سبعة انتخابات سابقة، بأشخاص اختارهم بنفسه ينفذون له كل ما يريد، وهي خطوة يُنظر إليها على نطاق واسع على أنها تقوض نزاهة التصويت في المستقبل.
كما أصدر مرسومًا بتغييرات في نظام التصويت، قائلاً إن الانتخابات البرلمانية ستُجرى على جولتين بدلاً من واحدة، مع اختيار الناخبين أفرادًا بدلاً من القوائم، مما يقوض الأحزاب السياسية.
كما استبدل سعيد العديد من المسؤولين العموميين على جميع مستويات الدولة خلال الأشهر الـ 12 الماضية، في تغيير يقول محللون إنه استهدف أشخاصًا مرتبطين بالنهضة، وتمت الاستعاضة عن كبار المسؤولين الأمنيين والمدنيين المحليين بآخرين يفضلهم سعيد.
وفي الختام
أقول إن لم تتوحد القوى والأحزاب السياسية في مواجهة ديكتاتورية سعيد، باستراتيجيات واضحة، وتحرك فوري، فسوف يستمر الرجل في طريقه الذي يُعيد تونس إلى المربع الأول أيام بورقيبة، وبن علي، وسيمضي لإجراء انتخابات برلمانية جديدة في 17 ديسمبر القادم، وهلمّ جرّا.
ومن ثمَّ ستقع الكارثة الحقيقية، وهي انتقال تونس من نموذج استثنائي ناجح للربيع العربي إلى حالة فجّة ومكشوفة تُضاف إلى سلسلة الملَكيات الجمهورية في المنطقة، وطبقًا لما ورد في الدستور الجديد، سيصبح الرئيس قيس سعيد ملكًا متوّجًا على تونس بصلاحيات مطلقة لا حدود لها.
وفي ظل هذا المشهد المعقد، ينتظر تونس مستقبلًا يشهد صراعًا محتدمًا بين الرئيس ومعارضيه، يمكن أن يأخذ أشكالاً مختلفة، ومن شأنه أن يضع استقرار البلاد على المحكّ، وقد يدفعها إلى التهلكة، خصوصًا أن خصوم الرئيس باتوا على قناعة تامة بأنّ الرجل بكل إجراءاته يتحرّك بمنطق البديل لا بمنطق الشريك، وبالتالي فإن نتائج المسار الذي يسلكه بالتدريج لن تقف عند حدود فرض نظام سياسي ودستوري جديد، بل سيتعدّاه إلى تغيير هيئة الدولة ومنظومة الحكم ككل، بما في ذلك تهميش دور الأحزاب والمجتمع المدني، وصولاً إلى تكريس الحكم الفردي التام، بعيدًا عن أي شكل ديمقراطي. وكما يقولون: السلطة المطلقة مفسدة مطلقة.
ومن ثمَّ على الشعب التونسي التحرك لإنقاذ مكتسباته، وعدم العودة مرة أخرى للديكتاتورية، وأن يستحضر قول الإمام الشافعي: ما حكّ جلدك مثل ظفرك فتول أنت جميع أمرك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نقلاً عن “عربي بوست”.