كان قد تعدى ما اصطلح على تسميته بمنتصف العمر بسنوات وجيزة، استغفر الله وهل للعمر من سقف حتى يكون له منتصف؟ ذاك بعض استخفافه بقواعد العلم بخاصة الغربي منها، وبوجه أدق ما يتعلق بالعلوم الإنسانية، بل رؤيته بأن الحياة لا تحتمل مثل هذه الفلسفة، لعله جزء من منظومة ساقته حتى هناك.
في مفتتح العمر ظن السعادة في النجاح في جمع المال، ولكنه ما إن كانت تصل إلى يديه نقود حتى ينفقها، يلومه القاصي والداني، ويحدثونه عن الادخار، ووجوبه لكي يستطيع بناء بيت، طوبة من قليل وأخرى من كثير، ولكنه كان يبحث عن لحظة الهناء الخالصة الصافية، يشتري بالمال مكسبات الطعم واللون، ويروح يتفنن في زيارة المطاعم بل الفنادق ذوات النجوم أحيانًا، ولا تأتي لحظة الوهدة هذه المشتهاة.
كان يريد أن يضحك فلا تفتر الضحكة فوق الشفتين ولا تذبل، ويشعر الداخل منه بالرضا، فلا يعكر صفوه مجرد البحث عن شيء، ما مهما قل أو كثر.. إلا وجده.
تلك أمنية عزيزة غالية ما تزال بـقرار النفس، ولما أمعن في البحث عنها، اكتشف أن حب الأثرة والرغبة في امتلاك الدنيا، ذلك الذي جعل آدم عليه السلام يمد يديّه إلى التفاحة فيقطفها بحثاً عن الخلد وسر الوجود السحري غير المتناهي؛ رغم أنه كان في الجنة، ولم يحدثه أحد عن الموت بعد؛ ولم يكن من المفترض أن يفاتح في الأمر، تلك اللحظة المفرطة التي كتبها الله على البشرية كلها؛ وكلنا يأخذ منها بنصيب لكن بدرجات.
ولكن صاحبنا الذي تعدى ما كره تسميته بمنصف العمر لم يرَ المال يحقق سعادة قال له أحدهم:
– ذلك لأنك لم تسع إلى المال المُركز في البنوك.. ذلك يهبك الطمأنينة.. مهما فعلت الأيام بك.
ووجد الناس يبيعون من أجل المال المُكنوز، الذمة والضمير، ويستعدون لا للنفاق، فتلك هي الدرجة الأولى، بل لقلب الحقائق وتصوير الظالم على أنه المظلوم والقاتل على أنه القتيل.
ولكنه ليس شبه الإنسان هذا ولن يكون.. ولذلك بادر مبكراً بالابتعاد.
وقيل له: إن السعادة في الأنس بمحبة البشر، فراح يترقب في كل شارع، وبقلب كل حارة صديقاً، يعمق صلة مع هذا، ويداوم على السؤال عن ذلك، ما إن يتناول طعام الإفطار في رمضان حتى يسأل عن ثالث، ويتمنى على رابع أن يلتقيه إثر صلاة الفجر، بل كان فور التسليم من الصلاة في المسجد يبحث بعينيّه عن الأحباب.
ويوماً بعد آخر علم أن البشر مشغولون، ربما بقدر انشغاله بـالوصل بهم، هم مشغولون، أيضاً، بأمور الأبناء والحياة، ومتطلبات البيوت، وحتى الأحباب منهم الذين يعدون على أصابع اليد الواحدة سبقوه إلى الارتباط.
وكان بينه وبين المناصب المشبوهة موقف، إذ رفض منذ تفتح برعمه أن يكون خائناً لله ثم الوطن، وإذ تلككت جهات معروفة ببسط السيطرة، كي تتعرف إليه، ثم تحاول أن تسوقه إليها، يرفض ثم يُصر على الرفض، ويصرون على أنه سيحيا ببلده غير موجود بالمكان الذي يريد أو يحب.
ذات ليلة قالت النفس له:
– أهذا هو الباب الذهبي للحظة الوهدة؟ أو السعادة المزعومة التي تبحث عنها، ذلك باب جعل الله ما يسده عنك.
كانت النفس في أكثر حالاتها قناعة لما اعترفت.
ولما ملّ البحث، وكان بينه وبين الحرام في التطلع إلى متاع خاص يسعى إليه بعض الرفاق، وادٍ مذهل في العمق بقلب بئر، كان بعيداً عنه لأنه لم يكن يحب أن يفعل ما يؤلم ضميره أمام ربه.. ثم لعهد بينه وبين أبيه إذ تركه مبكراً، ألّا يطرق هذا الباب فيحول بين لقائهما في الجنة.
وإذ يبحث وجد نفسه لا يطيق أمور تدرج المودة والمحبة التي يروي الناس عنها، وعلم أن زواجه لن يكون إلا وفق منهج الصالونات.. وذلك دأب المحترمين لديه.. إلا قليلاً!
ليلة أن خطب صلى استخارة ونام، فرأى صحراء عاصفة، الرياح الترابية الرمادية لا تبقي على شيء من اللون الأصفر فيها، فارتاع، لكن غفلة هدأ كل شيء.. وأشرقت الشمس من بدء اليوم حتى الغروب دون أن يعكر صفوها تحرك ذرة من الرمال أو ذرة من التراب.
تذكر روائيًا أهدى عملًا لزوجته:
إلى الصفح الذي احتوى أخطائي، والقلب الذي أسكنني.. والحب في قلبينا.
أو قريبًا من هذه الكلمات.
كانت له معاناة وتزوج التي تحترمه وتحتويه.
ولكن محاولات بحثه الدائب عن السعادة عاودته من جديد، في غربة، ورياح رفيقة تطرق الأبواب، لكن في غير رحمة، وتذكره بأن هناك ما يحقق له الحلم القديم، وإن عذابات البشرية قد يكون لها حل لديه، وإن كان العمر يوشك على المغيب، وإن كانت الأربعين توشك على السفر إلى الزيادة؟!
سأل فما أجاب الوجدان وصمت عن الريح تطرق الباب بقسوة، لم يعتد أن يخبئ عن زوجه، سيدة البهجة الحقيقة الأبهى في حياته، فقالت له:
– أحكم غلق الباب.. وتخل..!
أحكم الغلق لكن شيئاً من حلم الشعراء والكُتّاب جعله يتخفى، أحياناً، خلفه، يراقب ولا يزيد، حتى تأكد أن وراء الأكمة ما يعجزه وصفه، وأن معربدين يتفقون على الإبقاء على عربدتهم والزج به في آتون وجحيم ادعائهم التطهر.
وهو يغادرهم غير آبه للريح أو الأبواب، حامداً الله على السلامة يردد مع عنترة:
– ولقد طوفت بالآفاق حتى.. رضيتُ من الغنيمة بالإياب!
ثم وهو يرى الصف الذي كان يتمادى في البحث عن مستوجبات السعادة التي كان يبحث عنها.
وهو يتعجب من بعض مواقفهم، وآخرها محاولات البعض التمادي في التعامل مع الطين من البشر، وهو يرى الغباء يحكم مفردات حياة أناس ما كان يظنهم كذلك، وهو يرى الخيانة تعصف ببلده، وهو يرى المنطقة تصهر من جديد، ويتوفى آلاف الشهداء دون أن يتم سؤالهم حتى عما يتمنون قبيل الوفاة، شعر بالخجل.
سأل نفسه:
– هل ما زلنا نبحث عن سر السعادة؟
فأجابته:
– ولو كنت في برج مشيد من ذهب وفضة وإستبرق وأحجار كريمة في الحياة الدنيا، ستأتيك مضادات الراحة من حيث تحتسب ومن حيث لا..
غير بعيد.. كانت الروح منه؛ واقفة.. أمنت في هدوء وقالت:
– وإن تعرضت إلى سهام الحياة مرة بعد مرة، ليس الحل أن تكون مع أولئك الذين لا همّ لهم سوى الوصول إلى الدنيا، وإن رفعوا شعارات أخرى، وإن أدعوا عدم تغلغل محبتها في قلوبهم، كن صاحب ثقة بالقليل من عباد الله الشاكرين رغم الضراء..
ما ارتاح هاهنا قارون ومفاتح خزائنه كانت تثقل كاهل العصبة من الرجال، ولا هامان وفرعون، ولا عمر الخيام، وملوك.. حتى ملوك خيال ابن المقفع في ألف ليلة وليلة ما ارتاحوا، وما كانوا ليرتاحوا، وقد جُعلت الدنيا ممراً للآخرة لا أكثر..
السعادة أن تكون إلى جوار رامي السهام نحو الخلق، سبحانه، لعله يقيك الفتن، ويعرفك أن الجمال الحقيقي والراحة ليست إلا معه؟!
ثم السعادة من بعد ألا تسأل نفسك عنها.. وتنهمك في عملك.. ومحاولة إعمار الأرض في الجانب الذي يخصك.
السعادة أن تنهمك في محبة ربك وحده ثم تعمل لعمارة الأرض.. وألا تسأل من بعد كثيرًا أو تجيب!