في لحظات ترقب صوت رسالة على الهاتف النقال كانت تنتظرها الطالبة شهد عاهد شمالي ووالدتها وشقيقاتها بتلهف كبير، فهذه الرسالة بالنسبة لها الشيء الكبير، فهي تحمل نتيجة الثانوية العامة لديها التي تكللت بالنجاح والتفوق بحصولها على معدل يزيد على 93%.
هذه الفرحة جعلت والدتها ياسمين شمالي (37 عاماً) تعانقها بفرح يحمل الدموع الممزوجة ما بين أمل التفوق وألم سنوات عصفت بها روتها على مسامع مراسلة “المجتمع” بمدينة غزة، وهي تستجمع بذاكرتها حكاية التفوق التي رسمها بفضل من الله تعالى لها ولبناتها حتى يستمر اسم زوجها الشهيد عاهد متألقاً في محافل التميز.
زوجة شهيد
لقد كانت نقطة فاصلة في حياة ياسمين حينما استشهد زوجها، حيث كانت في مقتبل شبابها الذي لم يزد على (21 عاماً)، وكانت بالوقت ذاته أماً لثلاث زهرات لا يزيد عمر أكبرهن ندى عن 5 سنوات، أما شهد فكانت 3 سنوات، بينما مرام فكانت أقل من عامين.
في ذلك الوقت لم تكن لديها وظيفة أو شهادة جامعية، وكانت في سن صغير لم يحمل تجارب الحياة بعد، وكانت مدللة لدى زوجها الشهيد الذي اتسم بمعاملته الطيبة وأخلاقه النبيلة وحنانه الكبير.
كانت تشعر أن الحمل ثقيل؛ الأمر الذي جعلها في حيرة من أمرها ماذا تفعل؛ فهي لا تحمل شهادة جامعية أو حتى الثانوية!
والكثير كان يراهن على عجزها وعدم قدرتها على تحمل هذه الأمانة والمسؤولية، إلا أن إيمانها بالله تعالى جعلها تتجلى بالقوة، وأنها سوف تجتاز هذا الضعف، بل تجعل منه نجاحاً مميزاً يشار إليه في البنان.
الثانوية العامة
كانت البداية لسلم النجاح الذي تريد أن تعتليه هو حصولها على الثانوية العامة، حيث أرادت أن تكون إنسانة ناجحة تفتخر بها زهراتها حتى يكن هن ناجحات كذلك، لكن في الوقت نفسه لم تكن هذه الخطوة سهلة، وكانت حاجزاً كبيراً.
ومع ذلك تقدمت لأداء الامتحانات، ومجرد أن أدت الامتحان الأول وكان لمادة التربية الإسلامية شعرت بارتياح كبير زال عنها الخوف الكبير.
وقبل أن تظهر النتائج كانت حماتها تحاول أن تواسيها بأنها إن لم تنجح في الثانوية ألا تحزن، والمهم أن تكون بخير فبناتها بحاجة لها، وغيرها من الكلمات المواساة، لكن يوم النتيجة كانت المفاجأة للجميع بأن تنجح وبمعدل 78% جعلت الجميع يقف مذهولاً، فكيف استطاعت ذلك رغم كل شيء؟!
هذا النجاح جعل التفكير يراودها بأن تستكمل المسيرة التعليمية وتدرس الجامعة في تخصص لغة عربية التي تفوقت فيها وتخرجت.
وكان لها في حفل التخرج كلمة أرادت من خلالها الحديث عن تجربتها حتى تسند فيها من تشابه ظروفهن بظروفها، وكيف يمكن الوقوف مجدداً والنجاح كذلك، وما إن انتهت من كلمتها حتى وقف أهالي الخريجين والخريجات ورئاسة الجامعة والهيئة التدريسية في الجامعة الإسلامية بتصفيق حار جعلتها تستذكر بهذا الموقف وتواصل ترديد تلاوته قوله تعالى: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ) (الزمر: 10).
وبعد ذلك جاءها اتصال يخبرها بوجود منحة لدراسة الماجستير، في بداية الأمر شعرت أن الأمر مستحيل ومن الصعب عليها أن تدرس الدراسات العليا، لكن بتوفيق من الله تعالى وتشجيع البعض جعلها تقبل على هذه الخطوة.
وكانت في الفصل الأول تحاول إخفاء ذلك خوفاً من عدم النجاح، فالأمر ليس بالسهل، لكن تفوقها جعلها تبوح بذلك وأن تتخرج بمعدل مرتفع.
زهرات متفوقات
حاولت ياسمين قدر المستطاع أن تكون ناجحة حتى تكون مصدر فخر لزهراتها المتفوقات، فهن يشاهدن أمهن قدوة فشجعتهن على الدراسة والتفوق والحصول على الامتياز في سنوات دراستهن.
فكانت تسعى دوماً أن يحصلن على الامتياز حتى يكون ذكر والدهن دوماً في محافل التميز ويشار لهن بالبنان بأنهن زهرات الشهيد عاهد.
وكانت ندى البنت الكبرى قد حصلت العام الماضي كذلك على درجة الامتياز، وهي الآن طالبة في تخصص الترجمة، بينما ندى اختارت بصحبة والدتها أن تسجل مقعدها في كلية طلب أسنان، ورغم صعوبة الظروف المالية فإنها ترى أنها ستكمل الطريق مهما كانت الظروف.
ورغم الظروف الصعبة التي كانت نقطة فاصلة في حياتها حينما مرضت طفلتها تالا التي استشهد والدها وهي جنين في رحم أمها، بمرض نادر إلا أنها ومع ذلك حافظت أن تكون قوية ومشجعة لابنتها بالدراسة رغم الظروف الصحية وتحصل على الامتياز في سنواتها الدراسية وتحثها على العلم والتفوق.
ورغم كل الظروف الصعبة، فإن ياسمين كانت تشعر بتوفيق من الله تعالى وأنها وبناتها في معيته وحفظه سبحانه.
ياسمين نموذج جميل لا تفتخر به زهراتها فحسب؛ بل فلسطين كذلك، وكل من يتعامل معها ويعلم عن مسيرتها التي تسير بخطوات وضعتها نصب عينيها أن طريقها لن يكون إلا طريق النجاح بإذن الله تعالى.