كلما تعقدت الحياة وتسارعت وتيرتها ازدادت مسببات القلق ووقع الإنسان أسيراً لتشابكاتها، وكثيرة هي الأمور التي ترمينا في آبار القلق العميقة المظلمة، وتلف على أيدينا وأرجلنا وعقولنا قيود الاستعباد لوهم أو لفكرة أو لشخص أو لهوى أو للذة.. ومن بين العوامل التي تفسد حياة الإنسان النفسية والاجتماعية والدينية وتوقعه فريسة لكل الأمراض الروحية والبدنية والعقلية الإدمان الذي يعزله عن واقعه، ويختصر له لذائذ الحياة الدنيا في المخدر بل يجعله عبداً للمخدر.
وإذا علمنا أن الشرائع السماوية قد اتفقت على الحفاظ على دين الإنسان وعقله ونفسه ونسبه وعرضه وماله، أدركنا أهمية حضور العقل بالنسبة للأديان السماوية؛ لأن العقل إذا غاب غاب معه الدين، فلا يمكن لشخص غائب عن الوعي أن يدرك أوامر ربه ولا أن يطيعه سبحانه وتعالى، ولا يمكن لمغيب أن يحفظ نفسه من المكاره لأنه لا يعلم ما يصونه مما يهلكه، وإذا علم لا يمتلك الإرادة لتحقيق ما ينفعه فلا ينفعه -حسب تفكيره- إلا جرعة يغيب بها عن الوعي وإن لم يتدارك نفسه سيغيب عن الحياة والأحياء أيضاً.
ومع المصير المظلم والواقع المر للمتعاطين، إلا أننا نجدهم مندفعين بقوة في طريقهم، ترى ما الأسباب التي تدفعهم لذلك؟
1- لعل أحدهم أصابته مصيبة كانت مؤشراتها واضحة لكنه لم ينتبه لكل صافرات الإنذار التي تدوي من حوله، ففوجئ بما لم يكن في الحسبان، لم يستطع مواجهة المشكلة، ولم يجد من يقف إلى جانبه، ولم يملك الصبر حتى تنفرج الأزمة، فقرر الهروب إلى عالم لا يجد فيه مشكلات يعيش فيه الحياة الوردية التي يتمناها، فكانت المخدرات هي أقرب الطرق إلى الجنة الموهومة، لكنه عما قريب سيفيق ليجد المشكلة في وجهه كما هي، وربما تفاقمت حدتها وتعقدت أكثر مما تركها.
2- لعله يعيش وحيداً داخل أسرته وبين والديه وإخوته وأبناء عمومته وأخواله؛ لأن كلاً منهم يعيش في جزر منعزلة لا يلتقون، وإذا التقوا فكل منهم ممسك بهاتفه يقلب صفحات التواصل ويبادر بالرد على من يعرف ومن لا يعرف، وطلب صداقة ممن هم في أقصى الأرض دون أن يقلب نظره في وجوه الذين يشاركونه نفس الغرفة أو يحقق تواصلاً معهم، هذه الوحدة تجعل الدنيا تضيق به، ويظن أن في هذه السموم ما يوسعها، هذا عدا الهموم التي تغرق كل شخص في دوامتها فلا تجعله يلتفت لنفسه فضلاً عن الآخرين.
3- لعله يعاني من فراغ عاطفي ووجداني يملك الكثير من الوقت والطاقة لكن لا يدري أين ينفق الوقت والطاقة في سبيل عمل يعود عليه وعلى المحيطين بالفائدة والنفع، وقديماً قيل:
إن الشباب والفراغ والجدة مفسدة للمرء أي مفسدة
4- لعله مولع بتجربة كل جديد مهما كانت النتيجة.
لكننا نريد أن نوقف تيار المفسدة، فهو يحرمنا من الاستمتاع بزينة الحياة الدنيا ويحرمنا من أن تكون أيادينا ممدودة بالخير ويحرمنا من أن نقف وقفة مع آية من كتاب الله نتدبرها فنكون ممن قال الله فيهم: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) (الزمر: 23)، ولذلك:
1- لا بد من إعادة تقييم العلاقة بين أفراد الأسرة خاصة بين الوالدين وأبنائهما، فليست التربية أبداً شخصاً يلقي الأوامر وآخر يتلقاها بصدر رحب أو بضيق ثم ينفذها وهو كاره مضطر، وليست التربية أيضاً شخصاً يكد من أجل توفير الأموال للحصول على مستوى أفضل من الطعام والشراب والمسكن والمدارس ذات المصروفات العالية، التربية تعني المعايشة والإحساس بالآلام مهما كانت صغيرة في أعيننا، والمشاركة في الآمال مهما كانت طفولية أو مستحيلة التحقيق، يدخل النبي صلى الله عليه وسلم على طفل صغير فيسأله: “يا أبا عمير ما فعل النغير؟!”، كان أبو عمير هذا يلعب بطائر صغير ومات هذا الطائر، يتفقد النبي صلى الله عليه وسلم هذا الطفل الصغير لما علم من ارتباط بينه وبين الطائر مع ما يحمله النبي صلى الله عليه وسلم من هموم الأمة والدعوة وتكاليف الرسالة، إلا أنه يشارك هذا الصغير، بعد هذه المشاركة التي تتقارب فيها القلوب يمكن أن تنتقل التوجيهات بصورة تلقائية، بل إن العيون تتعلق بمن يهتم بها؛ فتقتدي به دون أن تشعر وتتبع خطواته وتقلد حتى طريقة أدائه لأمور الحياة، هذا التواصل داخل الأسرة هو أحد أهم الأسوار التي يمكن أن نبنيها بين أبنائنا ومختلف الشرور التي تحيط بهم التي يمكن أن يحتموا بها وقت الأزمات.
2- شغل أوقات الفراغ بالنافع المفيد، فنفسك إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل، والإناء الخالي من الماء مملوء بالهواء، ولو ملأنا هذا الفراغ بالعلم النافع والعمل الصالح والترويح الذي يدفع الملل ووجود الأهداف الكبرى التي ترضي الله وتنفع الناس والخطط التي تستوعب طاقات الشباب وتنير لهم طريق المجد وتساعدهم على بلوغ الغايات العظيمة؛ لتحولت هذه الطاقات العظيمة إلى سواعد تبني وتعمر، ولكفينا أنفسنا وأسرنا ومجتمعاتنا شروراً كبيرة وفتناً عظيمة.
3- ربط الإنسان بالله تعالى من خلال تعليق قلبه بالذكر والشكر وتدبر القرآن وأداء العبادات والتفكر في ملكوت السماوات والأرض، وأن يشعر أنه إذا أخطأ فرحمة الله تعالى واسعة، وأبواب التوبة مفتوحة، وعليه أن يبادر وأن يستجيب لنداء ربه (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (الزمر: 53)، فالإيمان أكبر حافز على التطهر من الأمراض الخلقية والنفسية والاجتماعية.
4- وضع هدف قريب وهدف بعيد يسعى الإنسان إليه ويحلم به ويطلب من الله تعالى المعونة على تحقيقه، ويعتبر أن هذا الأمر من جملة العبادات التي تقربه من الله، “إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرأ ما نوى”، و”نية المؤمن خير من عمله”، وهو من ساعة أن ينوي الخير في خير، قال أحد السلف لابنه: “يا بني، إنك لا تزال بخير ما نويت الخير”، وكل حركة يخطوها له عند الله تعالى أجر ما ابتغى الأجر من الله تعالى.
5- الرفقة الصالحة؛ نتعلم ونعلم أبنائنا مقاييس اختيار الصديق الصالح الذي ينفعنا في الدنيا ويشفع لنا عند الله، ندقق في مدى تحقق هذه المعايير في شخصية من نريد مصاحبته؛ (وَالْعَصْرِ {1} إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ {2} إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) (العصر)، فأسباب النجاة من الخسران ليس الإيمان والعمل الصالح فحسب، بل التواصي الذي يثبت الطائع على طاعته ويعيد المائل إلى الصراط المستقيم.
إن آفة المخدرات تصيب الأفراد والأسر والمجتمعات؛ لذلك كان حقاً على الجميع أن يعملوا للوقاية والعلاج، فالجميع متضرر، ومن وقع في هذه الحفرة ينبغي للجميع أن يمد له يد العون، فهو يحتاج إلى دعم نفسي وأسري واجتماعي وطبي وديني نقدمه له فنعيده إلى صفوف الطيبين ونوفر على أنفسنا شروراً كثيرة؛ (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ) (المائدة: 91)، وإذا حدثت العداوة والبغضاء من شخص يغيب عنه تماماً منطقة المحذور والحرام ماذا بإمكانه أن يصنع فيمن حوله؟!
لا تكونوا عوناً للشيطان على أخيكم فتتركوه بين مصائد شياطين الإنس والجن يقذفون به في ظلمات المعاصي ويوقعونه في دائرة غضب الله تعالى ومقته، أعيدوه إلى رحاب الله وصحبة الصالحين.