تناولنا في الحلقة السابقة نعت الله للمنافقين في 13 آية، وذكرنا أن صفات المنافقين تمتد لكل منافق في كل عصر، وأنه قد جاء بصفاتهم قوله تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ {11} أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـكِن لاَّ يَشْعُرُونَ) (البقرة)، كما ذكرنا أن الفساد هو خروج الشيء عن حال استقامته وكونه منتفعاً به ونقيضه الإصلاح، وأن أعداء الإسلام عمدوا سواء من خلال مذاهبهم بما فيها الاقتصادية وأذنابهم من برعوا في النفاق من بني جلدتنا لتقليد تلك المذاهب وإقرارها وجعلها نظاماً اقتصادياً للمسلمين، سواء تحت ما يسمى بالمذهب الرأسمالي أو الاشتراكي أو المختلط ونحوها، ليفسدوا في الأرض ويحاربوا منهج الله باسم الله!
وإذا قيل لأمثال هؤلاء وغيرهم ممن يفسدون في الأرض: إنكم تفسدون، كان جوابهم ليس بنفي عن أنفسهم الفساد فقط، بل بالتبجح والتبرير بأنهم لا يفسدون ولكن يصلحون، وهذا شأن المفسدين دائماً بادعائهم أنهم مصلحون في نفس إفسادهم، والله تعالى يعلم أنهم مفسدون وظاهر ألسنتهم مخالف لما تحمله قلوبهم، وموازينهم مختلة في أيديهم، فلا يمكن أن يتحقق إصلاح في عدم اتباع منهج الله سبحانه والخروج عليه بأي حجة كانت، فكل من يحاول تغيير منهج الله تعالى أو تعطيل تطبيقه فهو مفسد حتى لو كان لا يشعر بذلك، فلو كان يريد إصلاحاً لالتزم بمنهج الإصلاح الاقتصادي الرباني الذي يعلم من خلق وهو اللطيف بهم الخبير بما يصلح لهم.
الإفساد الاقتصادي
وقد رأينا من هؤلاء من يزينون برنامج ما يسمى الإصلاح الاقتصادي لصندوق النقد الدولي، وما هو إلا برنامج للإفساد الاقتصادي والتقشف المالي الممقوت وإفقار الشعوب واستعبادها بالديون والقضاء على الحماية والعدالة الاجتماعية، فهو صورة واضحة المعالم للنفاق الاقتصادي العالمي، فالصندوق يزعم أن هدفه محاربة الفقر، ولكن في الحقيقة هو يحارب الفقراء وليس الفقر، وسياسته صورة واضحة وصارخة للفساد والإفساد والخراب الاقتصادي والاجتماعي على السواء.
وتأتي بعد الفساد في الأرض صفة أخرى للمنافقين وهي السفه، ويعني الطيش وخفة العقل وضعف الرأي، ومن لوازمه سوء التصرف، فقال تعالى عنهم: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَـكِن لاَّ يَعْلَمُونَ) (البقرة: 13)، فقد نظر هؤلاء المنافقون إلى أهل الفضل من المهاجرين والأنصار على أنهم سفهاء، والسفه -وفق تفسيرهم المغلوط- في اتباعهم للنبي صلى الله عليه وسلم، وما نتج عن هذا الاتباع من معاداة المهاجرين قومهم وهجرتهم ديارهم وأموالهم، ومشاركة الأنصار للمهاجرين أموالهم وديارهم؛ (هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ) (المنافقون: 7)، لذا جاء الرد الرباني قاطعاً واصفاً إياهم بالسفهاء بنظرتهم القاصرة وسلوكهم الذي لا يستند لعقل سليم أو رأي سديد، فالدعوات دونها الأموال والأهل والديار.
وقد انتقلت الآيات بعد ذكرها صفات المنافقين المتعددة لتبرز نتيجة سلوك هؤلاء المنافقين بمعنى اقتصادي مع ضرب الأمثلة الكونية لإبراز المعاني الخفية وإلحاق الأشياء المعقولة بالأشياء المحسوسة، وجعل رؤية الغائب كالمشاهد، لتكون النتيجة واضحة المعالم بتصوير قرآني فريد، فقال تعالى: {أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ {16} مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ {17} صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ {18} أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ واللّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ {19} يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ وَلَوْ شَاء اللّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (البقرة).
والتجارة الرابحة يكون فيها بيع السلعة بأكثر مما اشتريت به، فالربح هو الزيادة على رأس المال، والتجارة أساساً هي صناعة التاجر وهي بيع وشراء، المشتري مستهلك، والبائع قد يكون منتجاً أو وسيطاً بين المنتج والمستهلك، فالتاجر هو الذي يبيع ويشتري للربح، فإذا ربح قيل: ربحت تجارته، وإذا لم يربح على رأسماله أو خسره جزئياً أو كلياً، ففي كلتا الحالتين لم تربح تجارته، وحال المنافقين بشرائهم الضلالة بالهدى واستحبابهم الغي على الرشد، نتيجته أنهم خسروا كل شيء، فلم يحققوا شيئاً له فائدة، وخسروا الهدى؛ أي الربح ورأس المال، فما ربحت تجارتهم، ربما يكونون لم يربحوا ولم يخسروا، ولكنهم قدموا الهدى ثمناً للضلال فلم يربحوا، وفي الوقت نفسه ضاع منهم الهدى؛ أي رأسمالهم.
وقد ذكر الزمخشري أن الذي يطلبه التجار في متصرفاتهم شيئان؛ سلامة رأس المال والربح، وهؤلاء المنافقون قد أضاعوا الشيئين معاً، لأن رأسمالهم كان هو الهدى فلم يبق لهم إلا الضلالة، وحين لم يبق في أيديهم إلا الضلالة لم يوصفوا بإصابة الربح وإن ظفروا بما ظفروا به من الأغراض الدنيوية؛ لأن الضال خاسر ضامر، ولأنه لا يقال لم لمن يسلم رأسماله قد ربح، وما كانوا مهتدين لطرق التجارة كما يكون التجار المتصرفون العالمون بما يربح فيه ويخسر.
وفي هذه الآية الكريمة إشارة إلى أهمية أن يتقن رجال وسيدات الأعمال المهارات اللازمة لأعمالهم والسعي لتحقيق ربح يمكن من استمرارية نشاطهم، فمن القواعد الاقتصادية المقررة للاستثمار قاعدتان؛ الأولى: لا تخسر مالك، والثانية: لا تنسَ القاعدة الأولى، كما تبدو أهمية أن يسعى رجال وسيدات الأعمال في الوقت نفسه لشراء سلعة الله تعالى الغالية؛ ألا وهي الجنة، بصدقهم وأمانتهم وإيتاء حق الله تعالى في المال الذي بين أيديهم.