تحاول الولايات المتحدة التقدم ما أمكن في مفاوضات الملف النووي الإيراني في فيينا لتخفيف الأعباء عن مسؤولي إدارة الرئيس جو بايدن المنشغلين بملفات أكثر أهمية، مثل الحرب الروسية في أوكرانيا والتوترات بين الصين وتايوان وقضايا أخرى.
نهاية الأسبوع الماضي، وصل علي باقري كني، رئيس الوفد الإيراني المفاوض إلى فيينا للمشاركة في مفاوضات خطة العمل المشتركة، على أمل إحياء الاتفاق النووي لعام 2015، بعد فشل جولة من المفاوضات بين الولايات المتحدة وإيران رعتها دولة قطر أواخر يونيو الماضي.
وأبدت إيران، وفق متابعين، مرونة أكثر في موقفها من شروط إزالة الحرس الثوري الإيراني من لائحة المنظمات الإرهابية الأجنبية، وما كانت تصر عليه بضرورة تقديم الولايات المتحدة التزامات بعدم نقض الاتفاق ثانية، مع التمسك بأولوية رفع العقوبات الأمريكية والأممية.
وفي مايو 2018، أعلن الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب انسحاب بلاده من الاتفاق النووي، وإعادة فرض العقوبات الأمريكية على إيران.
ولا تزال إدارة الرئيس الأمريكي بايدن ملتزمة بعقوبات الإدارة السابقة.
والعقوبات التي فرضها ترمب على إيران تمثلت بأكثر من 700 عقوبة خارج الاتفاق النووي، شملت مؤسسات اقتصادية ومالية أبرزها: البنك المركزي وشركة النفط الوطنية وشركة الناقلات وغيرها، وذلك لضمان عزلة إيران، وتدمير اقتصادها وقدراتها على دعم الأنشطة المزعزعة للاستقرار عبر القوات الحليفة لها في عدد من دول منطقة الشرق الأوسط.
وأدى ذلك إلى زيادة في تدهور القطاع الاقتصادي الإيراني، والتسبب بتظاهرات، احتجاجا على تردي الأوضاع المعيشية والبطالة وتراجع أسعار صرف العملة المحلية مقابل العملات الأجنبية.
وحاولت إيران الضغط على الإدارة الأمريكية منذ تسلم إبراهيم رئيسي منصبه قبل عام رئيساً، من خلال سياسته المعلنة بتوسيع قدرات إيران على تخصيب اليورانيوم بنسبة تصل إلى 60% مقتربة من 90%، وهي النسبة المقدرة لإنتاج الأسلحة النووية.
وأدى فشل مفاوضات الدوحة إلى تصعيد في حدة الخلافات بين واشنطن وطهران، التي ردت بالإعلان عن زيادة ضخ الغاز إلى مئات أجهزة الطرد المركزي، وتأكيد قدرتها على صناعة قنبلة نووية، لكنها لا تنوي ذلك وفق مسؤولين إيرانيين.
وقبل أسابيع، تقدم الاتحاد الأوربي باقتراحات جديدة لإعادة إطلاق المفاوضات المتوقفة منذ نحو خمسة أشهر، رأى فيها مسؤولون إيرانيون أنها فتحت آفاقا جديدة لإمكانية التوصل إلى اتفاق.
واستضافت فيينا في 4 أغسطس الجاري، جولة جديدة من المفاوضات، هي التاسعة بين إيران ومجموعة العمل المشتركة، بناء على مقترحات المنسق الأعلى للسياسة الخارجية بالاتحاد الأوربي، جوزيب بوريل، في 21 يوليو الماضي، وهي مقترحات اعتبرها مسؤولون إيرانيون أنها فتحت نافذة أخيرة على الملف النووي.
وقال بوريل، في تصريحات لوسائل الإعلام: إن مسودة المقترحات أو ما باتت تعرف باسم “النص النهائي”، تتضمن “تنازلات تم الحصول عليها بشق الأنفس من قبل جميع الأطراف، وهي تتناول بالتفصيل الدقيق رفع العقوبات، بالإضافة إلى الخطوات النووية اللازمة لاستعادة اتفاق عام 2015.
ويتمتع الاتحاد الأوربي بصفة منسق مفاوضات يقوم بتقديم المقترحات وطرح الأفكار على الأطراف المعنية بالمفاوضات رسميا، وهي الدول الخمس الكبرى زائد ألمانيا.
وتعتقد وزارة الخارجية الأمريكية أن نص الاتحاد الأوربي هو الأساس الوحيد الممكن لإحياء الاتفاق النووي مع إيران، والتوصل سريعا إلى اتفاق على هذا الأساس، بما ينسجم مع استعدادات إيران المعلنة بسعيها لإحياء الاتفاق النووي.
وتأتي الجولة التاسعة من المفاوضات بعد نحو 5 أشهر من توقفها، عقب 8 جولات سابقة دون إحراز تقدم، وكذلك فشل المفاوضات غير المباشرة بين طهران وواشنطن في أواخر يونيو الماضي في العاصمة القطرية الدوحة.
وبعد 4 أيام من المفاوضات غير المباشرة التي ابتدأت في 4 أغسطس الجاري بين وفدي الولايات المتحدة وإيران في فيينا، لم يتوصل الوفدان إلى اتفاق رسمي حول الملفات العالقة.
ووفقاً لوسائل إعلام إيرانية، فإنه من المقرر أن يتلقى الاتحاد الأوربي ودول مجموعة العمل المشترك رداً إيرانياً رسمياً في وقت لاحق، بعد إجراء مناقشات داخلية في مجلس الأمن القومي الإيراني.
وتشير وسائل إعلام مقربة من المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، إلى أن المفاوضات التي أجريت في فيينا يمكن تقييمها على أنها تحقق تقدما، لكن بوتيرة بطيئة.
ونقلت وسائل إعلام غربية عن مسؤول أوروبي، إن مسألة إزالة الحرس الثوري الإيراني من قائمة الإرهاب قد تراجعت عنها إيران مرحلياً، في مقابل تقديم الولايات المتحدة ضمانات بعدم انسحاب أي رئيس أمريكي من الصفقة الجديدة مستقبلاً.
لكنْ مراقبون رأوا أن امتثال الولايات المتحدة للشرط الإيراني لا يبدو منطقياً، كما أن أي مسؤول أو رئيس أمريكي لا يمكنه تقديم مثل هذه الضمانات، إذ إن لكل من الحزبين الديمقراطي والجمهوري سياسات تختلف عن الآخر، في رؤيتهما لطبيعة ما يجب أن تكون عليه علاقات الولايات المتحدة مع إيران أو غيرها من دول العالم الأخرى.
ومن الجانب القانوني، فإن الاتفاق النووي هو اتفاقية بين عدة دول، وهو ليس بمستوى المعاهدة بين دولتين، لذلك لا يمكن لإدارة بايدن ضمان عدم الانسحاب من الاتفاق، طالما أن القوانين الأمريكية لا تمنع ذلك.
وفي مقابل ذلك، تراهن إيران على عاملي الوقت واحتمالات التجديد للديمقراطيين في انتخابات عام 2024، إضافة إلى أن أي اتفاق في هذه المرحلة يعني إطلاق المليارات المجمدة الكفيلة أولا بإنعاش الاقتصاد الإيراني، واستمرار تمويل الحرس الثوري للقوات الحليفة له في عدد من الدول والتي تراجعت كثيرا خلال الأعوام الأربعة الماضية.
ووفق تقارير غربية، فإن الاتفاق النووي سيؤدي إلى رفع مؤقت للعقوبات، ضمن فترة تمتد لغاية 2025 لاختبار امتثال إيران للاتفاق، وهذا من شأنه تحرير ما يزيد على 100 مليار دولار من الأرصدة الإيرانية المجمدة.
وعلى ما يبدو، فإن الخلاف الأساسي بين إيران والأطراف الأخرى، يتعلق بالطلب الإيراني الذي يؤكد على ضرورة إلغاء تحقيق الوكالة الدولية للطاقة الذرية باكتشاف فريق التفتيش التابع لها آثار يورانيوم في 3 مواقع إيرانية، في حين أن تحقيقات الوكالة مستقلة ولا صلة لها بمفاوضات فيينا التي تتعلق حصراً بالعودة إلى اتفاق عام 2015.
ولا تزال إيران تتمسك بشروطها المسبقة قبل التوقيع على أي اتفاق، إلا بعد تقديم الأطراف الأخرى ضمانات ملزمة لاحترام وتنفيذ أي اتفاق توقع عليه إيران مستقبلاً، مسبوقاً بتحديد آليات ضمن سقف زمني مقبول إيرانياً لرفع العقوبات كاملة، مع إلزام الوكالة الدولية للطاقة الذرية بإنهاء ملف التحقيقات بالعثور على آثار يورانيوم في ثلاثة مواقع إيرانية متخصصة بالأنشطة النووية.
سيظل الموقف الإيراني من مفاوضات فيينا رهن الخطوات التي تضمن لطهران الخروج من أزمتها الاقتصادية، التي تفاقمت بشكل بات يهدد مصداقية رئيسي، الذي تعهد بتبني سياسة التخفيف من آثار العقوبات الاقتصادية الأمريكية، دون أن تتحقق أي نتائج تنعكس إيجاباً على حياة المواطن الإيراني ومستواه المعيشي المتدهور.