بعد أن بدأت متفائلة عام 2013، وشهدت تعاوناً بناء وتحالفاً جدياً بين فرنسا ومالي في مكافحة الجماعات الجهادية، عرفت العلاقة بين البلدين تطورات متسارعة وتجاذبات، وأخذ ورد منذ تولي المجلس العسكري بقيادة الكولونيل أسيمي غويتا الحكم في مالي، في أغسطس 2020.
وبعد 9 سنوات ونصف السنة، انتهى شهر العسل بذكرياته الحلوة وتعاونه البناء وانفرط عقد الشراكة والمحبة نهائياً، وانتهت العلاقة بالطلاق من دون رجعة بمغادرة آخر جندي فرنسي قاعدة غاو في شمال مالي.
وبعبور آخر كتيبة من الجنود الفرنسيين الأراضي المالية إلى النيجر المجاورة، وفق ما أفاد الجيش الفرنسي، تطوى صفحة قوة بارخان الفرنسية في الدولة الواقعة غربي أفريقيا.
وقالت رئاسة الأركان الفرنسية، في بيان لها، الإثنين الماضي: غادرت آخر كتيبة من قوة برخان الموجودة على الأراضي المالية الحدود بين مالي والنيجر.
ويأتي هذا الانسحاب بعد تدهور العلاقة بين المجلس العسكري في باماكو وباريس قوة الاستعمار السابقة، بشكل متسارع خلال الأشهر الأخيرة.
دروس إستراتيجية
وعن الأسباب والدروس الإستراتيجية الواجب استخلاصها من هذه الصفعة السياسية الإستراتيجية التي تلقتها فرنسا على إثر عملية الانسحاب، أشار البروفيسور محمد الشريف فرجاني أستاذ العلوم السياسية والدراسات الإسلامية في جامعة ليون، إلى أن فشل تدخل فرنسا في مالي لا يختلف في شيء عن فشل تدخل الولايات المتحدة في أفغانستان وفي العراق.
ويوضح، في حديثه للجزيرة نت، أن هذه التدخلات تحكمها مصالح القوى المتدخلة في مناطق تتنازع مع غيرها من أجل السيطرة عليها، ولذلك هي محكوم عليها بالفشل عاجلاً أو آجلاً.
ويضيف فرجاني، رئيس المجلس العلمي الأعلى لمعهد تمبكتو لدراسات الإسلام في أفريقيا، أن أول هذه الأسباب هي سياسات الليبرالية الجديدة، التي فرضها صندوق النقد الدولي والمؤسسات المالية منذ ثمانينيات القرن الماضي، على البلدان الأفريقية، وعلى غيرها من بلدان الجنوب، تحت اسم الإصلاحات الهيكلية والانفتاح، وفي علاقة مع هذه السياسات تم إجبار الدول على التخلي عن دورها الاجتماعي، وهذا كله لم تفهمه ولا تريد أن تفهمه فرنسا والولايات المتحدة.
استعمار أبوي
وأما المحلل السياسي والأكاديمي الفرنسي بيار لوي ريمون فيرجع أسباب الفشل إلى أن فرنسا لم تستبق تغيير نظام الحكم في مالي، ولم تتوقع أن تغيير هذا النظام سيغير من طبيعة علاقتها بالبلد وبمالي وبالحكام الجدد.
ويتابع، في حديثه مع “الجزيرة نت”، أنه ليس كافياً اعتبار نظام الحكم في مالي الحالي نظاماً انقلابياً، وهو كذلك لا محالة، ولكن ما فات الفريق الحكومي الفرنسي أن زاوية الدفاع عن المبادئ الديمقراطية لا يمكن أن تتناغم مع المنطق الأبوي الذي تتصرف به فرنسا الذي يهيمن على علاقاتها مع كل الدول الأفريقية.
ويخلص إلى أن الدرس الواجب استخلاصه اليوم هو ضرورة نزع عقلية حب السيطرة والمنطق الأبوي الذي تريد فرنسا أن تتصرف به تجاه الدول الأفريقية، والذي لم يعد يجدي نفعاً اليوم ولا بد من تغييره.
إعادة انتشار
وبعد يومين من انسحاب قواتها من مالي، أعلنت رئاسة الأركان الفرنسية، الأربعاء الماضي، أنها ستبقي 3 آلاف جندي في منطقة الساحل، موضحة أن هؤلاء سيؤدون مهامهم من قواعد موجودة في النيجر وتشاد.
وكانت قوة برخان تعد ما يصل إلى 5500 عسكري في ذروة انتشارها في الساحل، وفقد الجيش الفرنسي 59 جندياً خلال 9 أعوام من انتشاره في منطقة الساحل.
وبالإضافة إلى هذه الخسائر البشرية الفرنسية، يرى فرجاني أن الخسائر الأكبر ستكون في المجال الاقتصادي، لأن فرنسا -برأيه- فقدت وستفقد أسواقاً كثيرة في أفريقيا لصالح الصين وروسيا وتركيا.
ويتابع أن مصالح فرنسا سوف تتضرر لأن تدخلها ارتبط بوعود دعم الإصلاحات الديمقراطية وتطوير الحريات وحقوق الإنسان والرفاه لتلك الشعوب، لكن صورة فرنسا صورة مشوهة في أفريقيا، لأنها تسببت بكوارث، وبقيت تصد الباب في وجه الشباب الأفريقي الذي يريد الهجرة إلى أوروبا.
أعمال عدوانية
وقالت مالي الأربعاء: إن وزير خارجيتها عبدالله ديوب وجه رسالة إلى مجلس الأمن الدولي يطلب فيها وضع حد لما قال: إنه أعمال عدوانية فرنسية، ولا سيما جمع معلومات استخبارية لصالح الجماعات الإرهابية العاملة في منطقة الساحل وإلقاء الأسلحة والذخيرة إليها.
ورداً على تلك الرسالة، قال قائد قوة برخان الجنرال برونو باراتز الأربعاء: إن هذا النوع من الاتهامات مهين بعض الشيء لذكرى زملائنا الـ59 الذين سقطوا من أجل مالي ولجميع الماليين الذين قاتلوا إلى جانبنا.
ومن ناحيته، أشار رئيس المجلس العلمي الأعلى لمعهد تمبكتو لدراسات السلام في أفريقيا، إلى أن هذه التطورات هي نتيجة طبيعية للكيفية التي انتهت بها عملية برخان في مالي، وللعوامل التي أدت إلى فشل التدخل الفرنسي، وهي وثيقة الارتباط بتقارب السلطات المالية الجديدة مع روسيا والصين.
ويعتقد فرجاني أنه لا غرابة أن تتجسس مخابرات مختلف الدول المتنافسة في مالي على بعضها بعضاً، وتتهم كل منها الأخرى بالتجسس، بالإضافة إلى أن هذا يعتبر مؤشراً على ما سيكون عليه الصراع مستقبلاً بين الدول الكبرى في أفريقيا لفرض وجودها على حساب بعضها بعضاً.
وبالتوازي يرى الأكاديمي الفرنسي أن السلطات الحاكمة في مالي مستاءة من الوجود الفرنسي الذي لم يستبق احتمالية ظهور لاعب محلي جديد، لذلك فهذا الخطاب ليس مستغربا ومن الواضح أنه يستخدم لغة عديمة الدقة.
وشدد على أن فرنسا لا تخشى دعوة مالي لمجلس الأمن بعقد جلسة طارئة، لأن انخراطها في عملية برخان جاء متناغما تماما مع القانون الدولي وبدعوة مالية أصلاً.
إستراتيجية جديدة
ويأتي هذا الانسحاب وإعادة الانتشار في إطار إستراتيجية جديدة أعلنتها باريس في يوليو الماضي، تضع النيجر نقطة ارتكاز لمواجهة التنظيمات الإرهابية والتمدد الروسي في الساحل.
وحدد الرئيس ماكرون خلال زيارته الأخيرة لغرب أفريقيا الشهر الماضي، الملامح الكبرى لهذه الإستراتيجية التي تركز على الدفاع والدبلوماسية والتنمية.
من جانبه، يرى ريمون أن هذه الإستراتيجية يمكن أن تنجح، بشرط أن تركز فرنسا على الجانب التكويني التنموي، وتبتعد عن الصورة الأبوية الاستعمارية التقليدية، ومجرد الحضور العسكري فقط الذي يجعل منها مجرد قوة استعمارية غازية لا غير.
وبالتوازي يلاحظ فرجاني أن هذه الإستراتيجية الجديدة هي مواصلة لعملية التمويه الأولى. وعدم إدراك الأسباب الحقيقية للفشل خلال مرحلة مالي، وعدم الأخذ بعبرها ودروسها.
ويشدد على أن كلام ماكرون هو محاولة لذر الرماد على العيون، لأن الأفارقة اليوم لم يعودوا يصدقون وعود فرنسا والغرب بالديمقراطية والتنمية وحقوق الإنسان. لأنهم لم يتحصلوا على أي شيء في السابق.
__________________
(*) المصدر: “الجزيرة”.