كالعادة في مثل هذه المواقف التي ترتبط بتحقيق الإنسان لإنجاز ما أو اختراق كبير في أي مجال من مجالات العلوم الطبيعية، مثل الفيزياء والكيمياء والأحياء، أن يُثار من جانب بعض الدوائر التي لن نقوم بتصنيفها الآن، في عالمنا العربي والإسلامي، بعض الشبهات حول الدِّين، وحول دوره وأثره في حياة الإنسان والمجتمعات المختلفة.
ويدور هؤلاء في فلك دائرة واحدة من الأفكار والمضامين في خطابهم الإعلامي، وهو أنه “بينما العالم “المتقدم” يغزو الفضاء؛ لا نزال نحن نهتم بقضايا مثل قطعة قماش تغطي بها المرأة رأسها، أو جدل إطلاق اللحية، أو دخول دورة المياه بالقدم اليسرى أم اليُمنى”، ويرون في أننا –نحن المسلمين؛ أفرادًا ومجتمعات وأمة– قد تخلَّفنا لهذا السبب اهتمامنا “الزائد” بقضايا الدِّين.
وقبل أن نبيِّن تهافت وسفاهة منطق هؤلاء؛ نودُّ التأكيد على ملاحظتَيْن ذاتي طابع مركزي كخلفية شارحة لموقفهم هذا. الملاحظة الأولى، أنهم يقصرون طرحهم للدِّين وقضاياه على بعض الأمور بصورةٍ تبرز ضعف هذا الدِّين و”سطحية” محتواه واهتماماته، وأنه لا يهتم بقضايا الإنسانية الكبرى، حاشا لله تعالى ودِينُه ذلك طبعًا، مثل قضية دخول دورة المياه بأي قدمٍ، وجدل اللحية، هذه.
الملاحظة الثانية، أنهم يركِّزون في أحاديثهم الإعلامية على النقاط والأمور المتعلقة بالفضيلة والأخلاق في حياة الإنسان، وعلى رأسها العلاقة بين الرجل والمرأة وضوابطها، وحجاب المرأة المسلمة، بالإضافة إلى قضية حرية الجسد، مما يكشف حقيقة أهدافهم.
وهذه الخلفية، لا ادِّعاء عليهم فيها؛ حيث يمكن لأي باحث مدقِّق التأكُّد منها من خلال تحليل إحصائي سريع لمحتوى ومضامين خطابهم الإعلامي، من برامج تليفزيونية ومقالات وغير ذلك، وهي من الأهمية بمكان في أنها تلقي إضاءات على بعض أهدافهم والسياقات التي يتحركون فيها.
رأينا ذلك في الفترة الأخيرة في موضوع التليسكوب الأمريكي الجديد “جيمس ويب”، والذي قيل إنه قد التقط أعمق الصور للفضاء، وتصل إلى مرحلة الخلق الأول للكون؛ عندما خرج علينا أحد المُنظِّرين المعروفين بمواقفهم من التراث الإسلامي، والمحتوى الذي تطرحه نصوص السُّنَّة النبوية الشريفة، بالكثير من العبارات التي ربط بين تخلُّف المسلمين وبين الدِّين وتعاليمه.
أولا؛ تبدو سذاجة هؤلاء – بالمعنى الموضوعي للسذاجة – في انبهار هؤلاء بخطاب الرئيس الأمريكي جوزيف بايدن، عن “قوة النموذج”، وأمريكا “التي لا يعجزها شيء”، متجاوزين أو غير مدركين لحقيقة أنه لم يتبن هذا الخطاب الدعائي بامتياز، إلا للتغطية على فشل السياسات الداخلية والخارجية الأمريكية في عهده، ولا سيما أمام روسيا في أوكرانيا، والصين في منطقة بحر الصين الجنوبي والمحيط الهادئ.
كما بدا مُنظِّرونا هؤلاء مثل بلهاء المدينة “أو “كدَّابي الزَّفة” بالتعبير المصري الدارج، الذي يُقصد به بعض الناس الذين يتطفلون على الأعراس التي لا يكون لهم أية صلة قُربى بأطرافها؛ عندما تباهوا بإنجاز قال بايدن نفسه إنه إنجاز لأمريكا “التي لا يعجزها شيء” كما قال، وليس إنجازًا للإنسانية.
الطريف أنه بعد تصريحه هذا، أخطأ بايدن واعترف بأنه –رئيس أمريكا “التي لا يعجزها شيء”– أصيب بالسرطان نتيجة الانبعاثات الكربونية التي نشأت عن سياسات الرأسمالية المتوحشة في بلاده، وبعدها أُصيب بوباء “كوفيد –19″، وظهرت أول حالة شلل أطفال في الولايات المتحدة منذ عشر سنوات، في ولاية كاليفورنيا، ثم اتضح أن نيزك لا يكاد يُرى بالعين المجردة قد أتلف في مايو الماضي بعض مرايا التليسكوب العملاق، بصورة لا يمكن إصلاحها، وبصورة لم تتحسَّب لها “ناسا“!
هذه الملاحظات في الفقرة السابقة، ليست من نافل القول، وإن كانت ذات طرافة بالفعل، وإنما هي مهمة لإثبات تهافت وسطحية نظرة هؤلاء؛ حيث إنهم أخذوا من الموقف ما يعرفه الإعلاميون بعبارة “لقطته الظاهرة” التي يجيد الأمريكيون إخراجها بكل عناصر الإبهار البصري، حتى ولو أخفت خلفها ديكورًا من الخيش والخشب، من دون التعمُّق فيما وراء هذا المشهد.
بنفس المنطق؛ يمكن إثبات تهافت إسلام البحيري وخالد منتصر ومَن نحو نحوهما من العلمانيين ودُعاة التجديد الدِّيني على حدٍ سواء.
فأولاً؛ غالبية بلدان العالم المتخلف؛ ليست مُسْلِمَة، ولا يعيش حتى فيها مسلمون، وبعض مجتمعاتها لا يعرفون أيَّ دِين أصلاً، وبالتالي وفق منطق هؤلاء، هم في هذه البلدان؛ متحررون من الدِّين و”قيوده”، و”جدل الحجاب”.. إلى آخر هذه العبارات التي يرددونها؛ فلماذا – إذًا – لم نرَهُم على سطح كوكب نبتون مثلاً؟!
غالبية بلدان العالم المتخلف؛ ليست مُسْلِمَة، ولا يعيش حتى فيها مسلمون، وبعض مجتمعاتها لا يعرفون أيَّ دِين أصلاً، وبالتالي وفق منطق هؤلاء، هم في هذه البلدان؛ متحررون من الدِّين و”قيوده”، و”جدل الحجاب”.. إلى آخر هذه العبارات التي يرددونها؛ فلماذا – إذًا – لم نرَهُم على سطح كوكب نبتون مثلاً؟!
ثانيًا؛ العقل البشري، جهاز متقن الصنع، معقد التركيب، وبالتالي؛ فهو قادر بقدرة صانعه تبارك وتعالى، لا يوجد ما يمنع أنْ ننشغل بأكثر من أمر في ذات التوقيت، فحتى الحيوان الأعجم، الذي لا يملك عقلاً بتعقيد تركيب عقل الإنسان، ولا تقويمًا مثل أحسن تقويم الذي خلقه اللهُ تعالى عليه؛ يمكنه الانشغال بأكثر من أمر في وقت واحد.
بهذا المنطق العقلي البسيط؛ فإنه يمكننا أنْ ننشغل بالعلم وتطوير مجتمعاتنا وبلادنا حضاريًّا، وننشغل –في نفس الوقت- بالأخلاق والدِّين وكذا.
إذًا؛ فعقلية هؤلاء ثنائية مسطحة في الواقع؛ لأنهم حتى لو كانوا مُستَأجرين لقول ما يقولون لتشويه الدِّين؛ فإنهم لو كانوا أسوياء العقل؛ كان لزامًا عليهم التفكير في وسائل أكثر ذكاءً للنيل من الدِّين!
ثم إن العالم مليء بالمُسْلِمات المحجبات، والراهبات المسيحيات –محجبات أيضًا– من خُدَّام الكنائس المختلفة؛ لهنَّ الكثير من الأيادي البيضاء في مجالات العلم وخدمة الإنسانية؛ في الطب والتمريض، والعمل المجتمعي وغير ذلك، وحتى في علوم الفضاء.
وبنفس المنطق الموضوعي البسيط المبني على معلومات متاحة للجميع؛ فهناك ملتحون مسلمون وسيخ ومن ديانات مختلفة؛ إطلاق اللحية فيها، واجب ديني؛ يعملون في الطب والهندسة، وفي قطاع صناعة الفضاء، وفي وكالة “ناسا” نفسها!
لم نسمع أحدا يتكلم عن تخلف أوروبا في أوج عصر النهضة والثورة الصناعية الأولى، عندما كانت فلورانس نايتنجيل، التي كانت مسيحية مُتدينة وترتدي حجاب الراهبات أحيانًا، أو غطاء الرأس المميِّز للممرضات، تجوب بمصباحها الشهير أراضي المعارك لعلاج المصابين، كما كانت تفعل في حرب القرم بين الروس والأتراك في القرن التاسع عشر. لا حجاب الراهبات، ولا غطاء رأس الممرضات عطلها عن أداء هذا الواجب الإنساني المقدس.
كذلك –على سبيل المثال أيضًا– الشعب الهندي؛ شعب متدين جدًّا، أي أن الدين يحكم الحياة اليومية حرفيًّا للمسلمين والهندوس والسيخ؛ الذين هم أكبر ثلاث طوائف أو ديانات في الهند، وبرغم ذلك؛ فالهند بلد متقدم في مجال الأبحاث النووية والحاسب وعلوم الفضاء، فهنا الدين لم يقف عائقًا أمامهم وأمام سعيهم للتطور.
نفس القصة في اليابان؛ حيث تحكمهم عقيدة الأجداد في كل شيء، حتى سلوكهم الشخصي اليومي، وهم كذلك من أكثر بلدان العالم تقدمًا.
وذات الشيء نجده في الكثير من الدول؛ حيث تجد شعوبًا متدينة، وتحافظ على تعاليم دينها –أيًّا كان هذا الدِّين– وبرغم ذلك؛ فإنهم متقدمون في مجالات كثيرة.
فما الرابط بين الحجاب/ اللحية/ دخول دورة المياه بالقدم اليسرى.. إلخ، وبين التخلف؟! على العكس؛ فالمعادلة المنطقية تقول بأن المرأة المسلمة – مثلاً – ترتدي الحجاب لكي تخرج من بيتها، لكي تعمل أو تتعلم أو أي نشاط إنساني آخر. هي لن ترتدي الحجاب في بيتها مثلاً.
هو كعادة جهلاء القوم؛ خَلَطوا بين الدِّين، وبين الشعوب المتخلفة وسلوكياتها وكسلها.
المسلمون متفوقون في المجتمعات الغربية؛ لأنهم خارج السياق المجتمعي المتخلف لبلدانهم الأصلية، وبالتالي؛ عامل الدِّين، على الأقل، غير ذي بال هنا في تعريف التقدم وعوامله والتخلف وعوامله.
وأبرز مثال أمامنا، الدكتورة تهاني عامر، وهي عالِمَة وباحثة مصرية محجبة بحجاب يشبه حجاب النساء القرويات في مصر، وبالرغم من ذلك، فهي إحدى أهم علماء “ناسا”، وتلعب دورًا كبيرًا في مراقبة وتطوير برامج وكالة الفضاء الأمريكية التي طنطن إسلام البحيري حول إنجازاتها الأخيرة نظير تخلف المسلمين لأنهم متمسكون بالحجاب!
وهناك –أيضًا– الدكتورة إلهام الفضالي، الفيزيائية المصرية التي لها أبحاث في نقل المعلومات على الجُسيمات متناهية الصِّغَر، مثل الفوتونات الضوئية بواسطة أشعة الليزر؛ ترتدي حجابًا مصريًّا عاديًّا –لو صح التعبير– وبرغم ذلك؛ تعلَّمت في الجامعة الأمريكية بالقاهرة، ودرست وعمِلَت في الغرب؛ في بلجيكا وهولندا وغيرها، ونالت جائزة أفضل بحث في الفيزياء عالميًّا في العام 2020م.
شهرة هذه النماذج، وغيرها، معناها إمَّا جهل أو تهافت مثل هذه الأصوات، أو أنهم فعلاً مأجورون على تدمير بنية أخلاق المجتمع وقيمه؛ فهم لا يهاجمون الحجاب فقط أو في حدِّ ذاته، وإنما يهاجمون أي شيء فيه روح الفضيلة والأخلاق.
وختامًا؛ لقد تناسى هؤلاء في خِضَمِّ معركتهم مع طواحين الهواء هذه –مما يثبت جهالة هؤلاء– أن الحضارة الإسلامية قد ظلَّت تخرِج للعالم العلماء في مختلف المجالات، وأهل الفكر والفلسفة والمنطق، الذين تفوَّقوا حتى على مناطقة اليونان القديمة الذين اخترعوا الفلسفة والمنطق أصلاً، وعلَّموا أوروبا في عصور ظلامها وجهالتها، ولا ينكر ذلك إلا كل حاقد أو جاهل.
حتى إن مكتشفات عصر النهضة؛ يعترف المستشرقون والمؤرخون المنصفون أنها من بين الركائز الأساسية التي بنوها عليها، كانت مكتشفات حضارة المسلمين الذين كانوا وقتها منشغلين أيضًا بفقه حجاب المرأة المسلمة، وفقه اللحية، والحلال والحرام، وغير ذلك من واجبات ديننا الحنيف!
_____________________
(*) المصدر: بصائر (بتصرف).