أدرك الساسة الغربيون الاستعماريون منذ نشوء فن الصورة المتحركة أهمية الدور السياسي للسينما، ثم الدراما القصيرة والمسلسلة، وقد أعطت الصورة التي أنتجتها هوليوود نموذجاً لشخصية «السوبر مان» المتحضر الذي لا يُهزم أبداً، سواء كان من رعاة البقر، أم القادة العسكريين، أم الشخصيات الأخرى في ميادين العلم والصناعة والزراعة والعلاقات الإنسانية، كما قدمت السينما الأمريكية الخطط المستقبلية للغرب الاستعماري في صورة خيال قد يحدث في المستقبل، وهيأت العالم لقبوله (تدمير برجي التجارة في نيويورك مثلاً).. وفي الوقت نفسه، صورت الآخر الأفريقي أو الآسيوي أو اللاتيني، أو المسلم في صورة غير حقيقية، مجوفة من الداخل، تملأ تجاويفها مفردات العجز والهزيمة والتخلف والضعف والغباء والجهل والقصور والوحشية.
تسريب الصورة الذهنية عبر وجدان المشاهدين خدم السياسة الأمريكية أو الغربية الاستعمارية عموماً
تسريب الصورة الذهنية عبر وجدان المشاهدين خدم السياسة الأمريكية أو الغربية الاستعمارية عموماً، ومن ضمنها صورة اليهودي المظلوم المضطهد الذي ينتصر دائماً على خصومه بذكائه وتفوقه وفطنته وقدرته على تجاوز الاضطهاد والظلم والعنصرية والتنمر والعدوان! هذه الصورة تحض على أن النجاة مرهونة باللحاق بالنموذج الغربي سياسياً وفكرياً وثقافياً، بل وعقدياً، وضرورة تقليده في الملبس والمأكل، والمشرب والسلوك، مهما كان مخالفاً للمعتقدات والثوابت الفكرية والثقافية.
وجاء اختراع التلفزيون ومن بعده الشبكة الضوئية ووسائل التواصل الاجتماعي بتطبيقاتها المتنوعة، وانتقالها إلى الهواتف التي تسمى بالذكية لتمثل مرحلة متقدمة في تسريب الرؤى السياسية للقوى القاهرة والخائنة عبر الدراما، فضلاً عن الأفلام وأحياناً المسرحيات المصورة.
أدركت أخيراً الحكومات -خاصة الاستبدادية- أن تغيير سمعتها أو صورتها السياسية والاجتماعية، أو بقاءها الوجودي والإنساني يقتضي توظيف الدراما لإعطاء سمعة جديدة لها، ووضعها في إطار جديد مخالف يبرز ملامح تطورها ومنجزاتها، مع تجميل ممارساتها السلبية، وتضخيم قيمة بعض مشروعاتها المفيدة.
بالإضافة إلى ما سبق، فإن تحسين صورة العدوّ اليهودي الغاصب وأنسنته، وتقديمه مالكاً لقلب يفيض بالرحمة والمودة والتعاطف، بينما يقتل ويبيد ويطرد أصحاب الأرض من بيوتهم ويستولي على ممتلكاتهم وثرواتهم، يمثل ذروة الجريمة الفنية، إن صح التعبير، وفي مسلسلي «حارة اليهود»، و«أم هارون» -اللذين قام عليهما عرب مسلمون إنتاجاً وتنفيذاً وأداء- ما يقدم نموذجاً لمن يمهدون للتطبيع الشعبي، وقبول الأمر الواقع، والرضا بضياع المقدسات والأرض، والخضوع للإرادة اليهودية الإجرامية الغاصبة، القوم يقدمون اليهودي في صورة المضطهَد المظلوم بسبب ذكائه وتفوقه وإنسانيته، وعلينا أن نكافئهم على جرائمهم لأنهم أذكياء فائقون إنسانيون، وأظنهم لو قدموا «حارة اليهود» عن رواية تحمل الاسم نفسه للروائي الراحل نجيب الكيلاني لاختلف الأمر؛ فروايته تعرض الطبيعة اليهودية النكدة على حقيقتها دون تزييف أو تضليل.
«حارة اليهود» و«أم هارون» قدما نموذجاً للتمهيد للتطبيع الشعبي وقبول الأمر الواقع والرضا بضياع المقدسات
لقد ساعدت ثقافة الزحام، والخواء الفكري، وضعف التعليم أو انهياره في بعض الدول، والفراغ الذي تنتجه البطالة، لتكون الدراما سلوى الجمهور، يتسلى بما يشاهد، ويستمتع بالأحداث الشائقة، ويتقبل ما يرى دون مراجعة أو تمحيص؛ فالفن الناعم يتسلل إليه وهو مسترخ في السرير أو على مقعد وثير، أو متكئ على أريكة مريحة، ولا سيما إذا جاء المسلسل في حبكة فنية محكمة جاذبة للمتابعة والاستنتاج.
نشاط اقتصادي مهم
ولا ريب أن الحكومات الذكية أدركت أن النموذج الأمريكي أو الغربي -خاصة الفرنسي أو الإنجليزي- يجب تقليده، لتقدم نفسها في صورة مختلفة، وتغير الصورة النمطية الشائعة عنها، وتعطي نموذجاً آخر لحكومات تؤمن بالحرية والعدل والشورى والثقافة والفكر وبعث الحضارة الموروثة والترحيب بالمدنية المستجدة.
لقد باتت الدراما نشاطاً اقتصادياً مهماً، إلى جانب كونها بريداً يحمل رسائل سياسية أكثر أهمية، ومنها شطب الممارسات الاستعمارية الهمجية، وإثارة التعاطف مع الغزاة القتلة ببعض السلوكيات الزائفة، والكشف عن إنسانيتهم من خلال بعض المواقف التي تغطي على ما اقترفته حكوماتهم وجيوشهم في عمليات السلب والنهب للشعوب المستضعفة، لا ننكر أن هناك بعض المسلسلات التي جسدت، أو أبرزت مآسي المستعمرين الغزاة مع بعض الشعوب مثل مسلسل «جذور» الشهير، الذي أبرز مأساة الأفارقة، ونقلهم إلى الولايات المتحدة بوصفهم عبيداً، وماتت أعداد كبيرة منهم لسوء المعاملة في أثناء النقل.
الدراما باتت نشاطاً اقتصادياً مهماً إلى جانب كونها بريداً يحمل رسائل سياسية
وفي المقابل، نجد وضعاً معاكساً لتصوير الظالمين الأقوياء؛ حيث قدمتهم الدراما في صورة مثالية ومجتمعهم أكثر ثراء وتقدماً، ولا يبالي إلا بالقوة والمزيد من الربح والثراء والمتع الحسية، ثم يدهس في طريقة أصحاب الحقوق، فضلاً عن القيم الإنسانية في إطار مبالغات وخيال عريض، ولكن الأداء الفني الاحترافي الناعم يجعل المشاهد يستسلم لها في حلقات ممتدة («فالكون كريست» مثلاً!).
لقد لجأت دول مختلفة إلى تغيير صورتها السياسية النمطية التي ترسخت في الأذهان، مثل اليابان والصين والهند والمكسيك والبرازيل وإيران وتركيا، حيث ترسبت صورة نمطية ترى هذه الدول مشغولة بالواقع العملي والمادي الجامد، أو مجرد كيانات تابعة لا وجود حضارياً لها، وتعيش بعيداً عن العلاقات الإنسانية والعواطف البشرية التي تؤسس للسلام والمودة والتعاون بين الشعوب والأفراد، فأنتجت هذه الدول دراما تغير الصورة الذهنية الراسخة، وتبرز اهتمامها بصورة جديدة تصوّب الصورة النمطية، من خلال التفاعل مع العلاقات الإنسانية سواء عبر الواقع أو التاريخ!
في عقود مضت، كانت مصر ولبنان وسورية وفلسطين والأردن تنتج -على تفاوت- مسلسلات تخدم الفكرة السياسية بالولاء للحاكم، أو تعرض قضية سياسية عامة تتمثل في الكفاح ضد الاستعمار أو الحكومات الفاسدة، أو تعرض المعاناة والكفاح ضد اغتصاب فلسطين وتشريد أهلها، أو قضايا أخرى ترتبط بالسياسة والهوية المحلية، وكان ذلك يتم من خلال فن ناعم يسعى للإقناع والتشويق، مع أن بعضها كان يهدف لترسيخ الفكرة غير المباشرة وهي الولاء لنظام الحكم -ولو كان مستبداً- والإيمان بضرورة استمراره وبقائه وعدم التمرّد عليه ولو اقتضى ذلك حرمان الشعوب من الحرية والشورى والعدل والانتصار على الأعداء (تأمل مثلاً مسلسل «ليالي الحلمية» المصري بأجزائه المتعددة، ويقابله مسلسل «باب الحارة» السوري)، وكانت هناك محاولات جيدة مختلفة لعرض القضية الفلسطينية ومظلومية شعبها (مسلسل «التغريبة الفلسطينية» ومسلسلات أخرى مهمة).
بينما فشل «ممالك النار» ولم يلق رواجاً اقتصادياً نجح «عثمان» واشترته 142 قناة
“عثمان” و”ممالك النار”
عرض التلفزيون المصري في العقود الماضية دراما على مستوى عال من الفن والحرفية (كثير منها باللغة الفصحى السهلة، أو العامية القريبة من الفصحى)، خاصة في المجال التاريخي، فشكّل ذلك قوة ناعمة حقيقية هيأت لمصر مكانة سياسية مرموقة على امتداد العالم الإسلامي لدى الأجيال الجديدة، ولكن تغير الأحوال، وهبوط ثقافة المنتجين إلى مستوى التاجر الذي لا يهمه إلا الربح، فضلاً عن تدخل فظ وفج من بعض الجهات المحلية والخارجية في إنتاج بعض الأعمال الدرامية والسينمائية، أدى إلى هبوط تأثير الدراما المصرية، بسبب التوظيف السياسي الفظ والفج لمكايدة دول أخرى تختلف مع النظام، أو رغبة في تغيير هوية المجتمع الإسلامية وطبيعته الإنسانية وسحق قيمه الخلقية المستقرة.
خذ مثلاً مسلسل «ممالك النار» الذي أنتج في سياق الحملات الهجائية للأتراك وسياستهم، ومحاولة المنافسة مع المسلسل التركي «المؤسس عثمان»، فشل «ممالك النار» لأنه تبنى الفكر الشعوبي العنصري، وخالف الحقائق التاريخية، وفي مقدمتها أن الصراع كان بين أتراك وأتراك، والمصريون ليسوا طرفاً فيه؛ فالمماليك أتراك مثل العثمانيين، وكانوا في مصر يتكلمون فيما بينهم اللغة التركية، وتشير بعض روايات التاريخ إلى أن علماء الدين المصريين قابلوا السلطان «سليم الأول» في الشام وطلبوا منه أن ينقذهم من ظلم المماليك الذين يقودهم طومان باي، ولذا لم يحتشد المصريون في الصراع بين العثمانيين والمماليك، كما احتشدوا مثلاً ضد الحملة الفرنسية.
لقد نجح مسلسل «عثمان» وفشل مسلسل «ممالك النار»، ولم يلق رواجاً في الجانب الاقتصادي، بينما عثمان تشتريه 142 قناة تلفزيونية في العالم وتترجمه إلى لغاتها أو تدبلجه، ويحظى بنسبة مشاهدة عالية، وتدخل عائداته ضمن 350 مليون دولار تحصدها المسلسلات التركية كل عام بعد أن وصلت تركيا -حسب وكالة «الأناضول»- إلى المرتبة الثانية في تصدير الدراما على مستوى العالم بعد الولايات المتحدة!
ولعل حرص الرئيس السادات على الدراما الناعمة جعله ينشئ ما يسمى «عيد الفن» كل عام، يحضره بنفسه، ويكرم فيه كبار الفنانين الذين شاركوا في أعمال مهمة، جعلت لبلاده تأثيراً سياسياً ملحوظاً في المحيط الإسلامي، وخاصة من خلال المسلسلات الإسلامية («محمد رسول الله» صلى الله عليه وسلم)، وقصص الأنبياء والصحابة والقادة، وغيرهم.
الدراما العربية الناعمة تراجعت إلى دراما خشنة ومنحلة لتبييض وجه النظم والحكومات
دراما خشنة
تراجعت الدراما العربية الناعمة إلى دراما خشنة وفظة وفجة ومنحلة ومباشرة لتبييض وجه النظم والحكومات عموماً، وبعض الأجهزة المؤذية خصوصاً، وتمييع قضية فلسطين والمقدسات، فضلاً عن تشويه الإسلام وقيمه من خلال معالجة قضايا التطرف والإرهاب، ولقد كان تشجيع المسلسلات التي تعالج التطرف والإرهاب فرصة ذهبية لأنصار التهويد والتغريب والاستبداد كي يضربوا الثوابت الإسلامية، ويسعوا لنشر القيم الغربية في صورتها المبتذلة المنحطة، وليس الصورة الإيجابية المنتجة، ويروجوا لمظلومية المرأة المدّعاة، ويشجعوا التمرد على مؤسسة الزواج، ويشهِّروا بالتشريعات الإسلامية في مجال الأسرة، وينتقدوا توزيع الميراث كما شرعه الوحي، ويلحوا على تقديم سلوكيات المدمنين والمنحرفين بتفصيلاتها الدقيقة كي يقلدها الشباب.
وكان هذا للأسف توظيفاً سياسياً غشيماً لاستئصال الإسلام من وجدان الناس، بيد أن الناس في البلاد العربية انصرفوا عن الإنتاج الدرامي العربي، وراحوا يتابعون المسلسلات الأجنبية، وخاصة التركية والمكسيكية والهندية مترجمة أو مدبلجة، وما بالك بحرص الجمهور العربي على متابعة الإنتاج التركي الذي يقدم جهاد الأتراك من أجل الوحدة وبناء الدولة، والفتوحات، ونشر الإسلام، ورفع المظالم، والسعي نحو العلم والمعرفة والحضارة في جوانبها المختلفة؟
الجمهور العربي الإسلامي يشاهد بالدراما التركية الجديدة قادة متواضعين يحرصون على إرضاء ربهم
إن الجمهور العربي الإسلامي الآن يرى دراما تركية فنية خالية من الابتذال والسوقية والبلطجة والتزوير والمنكرات، وإن لم تخلُ من ضعف البشر وسلبياتهم التي يراها الفن التركي بشكل بعيد عن الافتعال والتكلف، الجمهور العربي الإسلامي يشاهد في الدراما التركية الجديدة قادة متواضعين يحرصون على إرضاء ربهم وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، والعطف على الفقراء والضعفاء والمساكين، وإجارة اللاجئين والمطاردين، وإقامة العدل ونصرة المظلومين والمقهورين، وقبل ذلك يتشاورون ويتحاورون، هذه رسالة سياسية بالدرجة الأولى تمسح ما علق بالأذهان عن صورة للتركي الدموي الغبي الشرس الظالم الطامع في ممتلكات الآخرين، وهي الصورة التي فرضتها النخب العربية في التعليم والإعلام والثقافة العربية اقتداء بالرؤية الاستعمارية الغربية التي تكره من يقاومها وتشوهه.
وللأسف الشديد، فإن أبواق بعض الأنظمة في البلاد العربية لا يعجبهم أن تتبنى الدراما التركية تصور الإسلام؛ لأنهم يرون الإسلام مرادفاً للتطرف والإرهاب والجمود والتخلف والظلام، كما علّمهم الغرب والاستبداد المحلي.
والسؤال هو: لماذا يتابع الملايين في العالم الإسلامي وخارجه (142 دولة) هذه المسلسلات، لدرجة أن بعض المشاهدين من غير المسلمين أعلنوا إسلامهم نتيجة لمشاهدة «أرطغرل» و«نهضة السلاجقة» و«ألب أرسلان»؟ ولماذا راجع كثير من الناس مواقفهم بعد مشاهدة «عاصمة عبدالحميد» ورأوا ما فعله اليهود ومنظماتهم الشيوعية والماسونية والأرمن وبريطانيا وفرنسا وروسيا من تآمر وغدر وقتل؟