للدراما دورها في تشكيل الوعي الجماهيري؛ فالصورة التي تقدمها -خاصة في السينما والتلفزيون- تنطبع في العقول، ومع التكرار والإلحاح تعيد تشكيل الوعي أكثر من قيامها بإعادة صياغة الواقع؛ لذا توصف بأنها إحدى أدوات «القوة الناعمة» التي تحرص السلطة على امتلاكها وتوظيفها؛ فلم تعد الدراما أحد أشكال الترفيه أو الإمتاع فقط، لكن تعدى دورها لتصبح إحدى أدوات السياسة في التغيير أو التضليل.
يرتكز مفهوم التضليل السياسي على فكرة احتفاظ الشخص بشدة بالمعلومات الخاطئة، أما على المستوى الجماهيري فيقود التضليل إلى بناء تحيزات جماهيرية تجاه قضايا وقوى سياسية معينة، بناء على صورة ذهنية تم ترسيخها، وقد يدفع هذا التضليل إلى قبول الجماهير لتبريرات السلطة في ارتكاب فظائع واعتقالات وتصفيات ضد المعارضة، دون أن تشعر تلك الجماهير بأي وخز ضميري؛ فالتضليل يُحدث تغييراً في معايير الأخلاق والقيم والعدل لدى الجماهير.
الدراما لم تعد أحد أشكال الترفيه فقط بل أصبحت إحدى أدوات التغيير أو التضليل
بين الدراما والسياسة
الفن في أغلبه يخاطب اللاوعي الإنساني، بُغية التأثير في الوعي، وحسب دراسات في علم النفس، فإن مشاهدة الأفلام تنشط خلايا معينة في المخ، وتخلق رغبة في محاكاة الأبطال، وحسب النظريات السلوكية، فإن مشاهدة الأفلام تؤثر في حياتنا، ومن ثم كان توظيف السياسة للدراما أحد أشكال التأثير في الواقع، وربما هذا ما حدا بالأديب الإسباني الراحل «كارلوس زيفون» أن يعتبر السينما نوعاً من الاحتيال، ووسيلة لتغطية خداع العامة وتجهيلهم، متهماً إياها بأنها أداة لخلق حشود من الأميين.
والعلاقة بين الفن والسياسة متعددة الأوجه والأغراض؛ فقد كانا على مر التاريخ متشابكين؛ نظراً لدور الفن في تشكيل هوية المجتمع الثقافية، وإيصال رسائل ذات أهداف سياسية لإظهار الواقع بشكل معين، أو حتى تغييب هذا الواقع، أو تشويه قوى سياسية؛ فالفن حاضر مع السياسة توظيفاً وتأثيراً.
ومن يطالع كتاب «من يدفع للزمار» (?Who paid the piper) للمؤرخة البريطانية “فرانسيس سوندرز”، سيلاحظ الدور الذي قامت به أجهزة الاستخبارات الغربية لتدعيم بعض الفنون وتوظيفها كإحدى الأدوات الفاعلة في الحرب الباردة، حتى تمكنت الولايات المتحدة وحلفاؤها من تقويض القوة الأخلاقية للشيوعية، وإحداث شروخ نفسية وثقافية في النموذج السوفييتي، ونشير هنا إلى سلسلة أفلام “جيمس بوند” في مطلع الستينيات من القرن الماضي التي استمرت أكثر من نصف قرن، أُنتج خلالها 26 فيلماً تناولت موضوع الجاسوسية، واستطاعت تقويض النموذج السوفييتي، حتى انهياره عام 1989م.
العلاقة بين الفن والسياسة متعددة الأغراض على مر التاريخ فهما حاضران معاً توظيفاً وتأثيراً
تشويه العرب والمسلمين
أما تشويه العرب والمسلمين من خلال الدراما في السينما الأمريكية والغربية، فكان مساراً كبيراً ازداد بعد أحداث سبتمبر 2001م؛ إذ طُبع في الأذهان صورة ذهنية للمسلم على أنه إرهابي، وتسربت هذه الصورة إلى الوعي الجماهيري؛ فساهمت في تعميق كراهية الإسلام والمسلمين أو ما يُعرف بـ»الإسلاموفوبيا».
ربما قد يكون من المفيد الإشارة إلى إحصاء للدكتور أنس الشيخ علي، أستاذ الأدب الإنجليزي في جامعة لندن، وهو أن عدد الروايات التي هاجمت الإسلام والمسلمين في الغرب بلغت 1800 خلال 20 عاماً فقط (1974 – 1994م)، ثم ارتفعت إلى 3600 في وقتنا الحاضر، ولا شك أن بعضها عرف طريقه إلى الدراما.
ففي دراسة صدرت عام 2015م لـ«جيرنوت ماير» عن «الإسلاموفوبيا» في مسلسل «الوطن» (Homeland) الأكثر شهرة في التلفزيون الأمريكي، كان من أكثر البرامج تخويفاً من الإسلام والمسلمين، رغم أنه مقتبس من المسلسل الصهيوني “أسرى الحرب” (Prisoners of War)، وكذلك مسلسل “24” الأمريكي الشهير، الذي تم عرضه في نوفمبر 2001م (أي في ذروة الغضب الأمريكي بعد أحداث سبتمبر)، وامتد عرضه 8 مواسم، عُرضت خلاله 192 حلقة، وأكدت تلك الدراما نمطية الصورة عن الإسلام.
دراسة: عدد الروايات التي هاجمت الإسلام في الغرب بلغت 1800 خلال عقدين فقط
الدراما والانتقام من الخصوم
وفي الحالة المصرية، يلاحظ أن الفن خضع للتوظيف السياسي على امتداد الأجيال المتعاقبة لحركة يوليو 1952م، حيث أدرك الضباط أهمية الدراما والسينما في سحب البساط من العصر الملكي؛ فكتب اللواء محمد نجيب مقالاً مبكراً بعنوان «الفن الذي نريده»، معتبراً السينما من أدوات التثقيف السياسي وليس للترفيه أو التسلية فقط، فوضعت الدراما أنشطتها لتدعيم جهود السلطة وإيصال مشروعها وأهدافها السياسية إلى الجماهير، ومن ناحية أخرى تم تصفية الحسابات بين حركة يوليو ومعارضيها، فظهرت عدة أفلام تشوّه العصر الملكي، مثل: «غروب وشروق»، و»القاهرة 30»، و»رد قلبي»، و»في بيتنا رجل».
ومع انتهاء الحقبة الناصرية، بدأ الرئيس السادات عصره متكئاً على الدراما لإبراز انتهاكات الناصرية لحقوق الإنسان، واتباعها سياسة قمعية عنيفة، أساءت إلى المواطنين، وكانت البداية بعد أشهر قليلة من توليه السلطة؛ فكان فيلم «ثرثرة فوق النيل» عام 1971م الذي استعرض أسباب هزيمة يونيو 1967م، أما فيلم «زائر الفجر» فعرض فظائع ارتُكبت بحق السياسيين المعارضين، وحقق شهرة عندما منعته الرقابة بعد أسبوع واحد من عرضه في السينما عام 1973م، وكذلك فيلم «العصفور» الذي تناول فساد القطاع العام، لكن الفيلم الأشهر كان «الكرنك»، أما فيلم «عودة الابن الضال» الذي أخرجه يوسف شاهين؛ فتحول فيه الشاعر صلاح جاهين من لسان لحركة يوليو إلى ناقد لها بكل ما أوتي من قوة، وكذلك عُرض فيلم «وراء الشمس»، و»إحنا بتوع الأتوبيس»، و»الرصاصة لا تزال في جيبي».
الدراما المصرية وضعت أنشطتها لتدعيم السلطة وتم تصفية الحسابات بين حركة يوليو ومعارضيها
نجحت الأفلام التي أنتجت خلال سنوات حكم السادات في إزالة الأصباغ والمساحيق التي أخفت حقيقة الناصرية، كذلك انطلقت تلك الدراما عبر مجموعة الحقائق لانتقاد الناصرية، مرتكزة على قيم إنسانية وأخلاقية في النقد؛ لعل أبرزها رفض نهج التعذيب والفساد ومراكز القوى وقمع الحريات.
ومع عصر مبارك، تناولت الدراما في البداية آثار الانفتاح الاقتصادي، وتعملق الفساد، ونمو الطبقات الطفيلية، وتكاثر الأزمات المعيشية والطبقية، وتنامي الاستيراد والروح الاستهلاكية، ومن تلك الأفلام: «سواق الأتوبيس» عام 1982م، وفيلم «البريء» الذي تناول عمليات غسيل المخ التي يتعرض لها جنود الأمن المركزي، وتأثير ذلك على عنفهم ضد المعارضين، وفيلم «زوجة رجل مهم» الذي تناول موقف السلطة من أحداث انتفاضة الخبز 1977م، وفيلم «الغول» عام 1983م، وهو مأخوذ عن مسلسل إذاعي بعنوان «قانون سكسونيا» وقد كتبه وحيد حامد، وفي العام 1987م كان فيلم «زمن عاطف زهران»، وهنا يلاحظ أن بعض المؤلفين وصناع السينما كانوا من المتأثرين بالتجربة الناصرية، فاستخدموا الدراما باحتراف للانتقام من الحقبة الساداتية.
ومع صعود جماعة الإخوان المسلمين السياسي والاجتماعي، بعد منتصف الثمانينيات، ثم مع صدام الدولة مع بعض الجماعات الدينية المتطرفة، نسجت الدراما علاقة بين التدين والعنف والإرهاب؛ فظهر في تلك السنوات الكثير من الأفلام التي شوهت صورة المتدين، وأسبغت عليه العنف والإرهاب وضيق الأفق والدموية، مثل فيلم «الإرهاب» عام 1989م، و»الإرهاب والكباب»، و»الإرهابي»، و»الناجون من النار»، و»طيور الظلام».
الأفلام بفترة السادات نجحت في إزالة الأصباغ التي أخفت حقيقة الناصرية
ومع تصاعد العداء السياسي عام 2010م بين مبارك وجماعة الإخوان، ظهر مسلسل «الجماعة» بتكلفة ضخمة اقتربت من 10 ملايين دولار، وعرض في شهر رمضان، والطريف أن وكالة «أسوشيتد برس» كتبت أن المسلسل أدخل الجماعة في كل بيت، وبدلاً من التشويه زادت التساؤلات حول الإخوان، وهي سياسة استمرت بعد 30 يوليو 2013م، فأكدت دراسة بعنوان «الدراما الوطنية تطارد فلول الوعي الزائف»، أن الدولة المصرية وجدت ضالتها في الدراما لتصفية ما أسمته «فلول الوعي الزائف وخطاب المؤامرة»؛ فمنذ ذلك التاريخ قُدمت الدراما بشكل مكثف لتشويه خصوم النظام بلا هوادة، وكان أبرزها مسلسل «الاختيار» بمواسمه الثلاثة، لكن في مسلسلات أخرى تعدى التشويه إلى التعدي على القيم الدينية مثل مسلسل» فاتن أمل حربي» الذي دفع الأزهر لاستنكار ما جاء فيه، في بيان أصدره، في أبريل 2022م.
في بعض المسلسلات تعدى التشويه إلى التعدي على القيم الدينية مثل «فاتن أمل حربي»
وتبقى في الفن قوة كامنة على إثارة وجدان الإنسان، وقدرة على إيقاظ المشاعر والأفكار، وطاقة دافعة إذا أُحسن توظيفها، وروعة وبراعة في شحذ الطاقات، وكما يقال: «الفن الحقيقي هو دفاع عن الضمير»، وكما أشار المفكر الكبير علي عزت بيجوفيتش أن «بحث الفن عما هو إنساني هو بحث عن الله»، فهو لحظة تحرر إذا أفلت من مخالب السياسة، لذا تخشى الدكتاتورية هذه اللحظة، وهنا يذكرنا التاريخ بمنع النازية لفيلم «الدكتاتور العظيم» عام 1940م للفنان «شارلي شابلن»، لسخريته من «هتلر»، ورغم مرور 80 عاماً، فإن الدراما نجحت في تجسيد شخصية الدكتاتور والسخرية منها.