أستاذي الفاضل، يكتب لكم قلب مكلوم على ابنته، ولعلي أعبر عن العديد من الآباء الذين تعبوا على بناتهم وبذلوا الجهد حتى يؤدوا الأمانة التي كلفهم الله تعالى بها، منذ طفولة بناتهم حتى وصلن إلى عش الزوجية وبدأت مأساتهم! لقد رزقني الله بثلاثة أبناء وابنة واحدة كانت الزهرة الجميلة في حياتنا، وحرصت أنا وزوجتي كل الحرص على تربيتهم تربية متميزة، وكانت لهم الأولوية في حياتنا، فرغم أنني أملك شركة مقاولات ومجال النمو والربح متاح، فإن ذلك كان يتطلب وقتاً على حساب أسرتي؛ لذا فكثير ما كنت أعتذر على قبول عمليات قد تعطل دوري كأب أسرة.
لم أدخر وسعاً في الحديث معه أو أرسل إليه آراء العلماء في إثم من يهجر زوجته وأولاده
بعد أن تخرجت ابنتي تقدم لها عدة شباب، وكان أحدهم مناسباً وتمت الموافقة، وخلال فترة الخطبة لاحظ الخاطب قيمة اهتمامي بأسرتي، وأن اهتمامي بشركتي كوسيلة للرزق، وفي إحدى زيارته لنا، فاجأني متسائلاً: «عمي، أنا كمهندس أعلم سمعة شركتك، وإنك لو أعطيت العمل مزيداً من وقتك لحققت نجاحات عظيمة»، ووجدتها فرصة لإعطائه نموذجاً عملياً لمعنى النجاح -خاصة وقد لاحظت بخبرة الحياة تفكيره المادي- وأن الاستثمار في الأولاد هو الاستثمار الحقيقي، وما دام العائد الذي يرزقنا الله به يكفل لنا مستوى معيشة طيباً ويتبقى ما نتصدق به لآخرتنا، كما أننا ولله الحمد ندخر، فلماذا أحرم أسرتي مني؟ بعض أصدقائي يعمل طوال اليوم ولا يجد وقتاً لتربية أولاده، حتى زوجته نتيجة تحملها المسؤولية بمفردها عادة من تنتهي طاقتها قبل وصوله قرب منتصف الليل، كما أنه قد ينشغل في عطلة الأسبوع بالسفر أو مراجعة بعض العمليات، نعم هو يملك شركة تدر ملايين ويوفر لأسرته مستوى عالياً من الرفاهية، ولكن يا بني الزوجة تحتاج لزوج وليس لمن ينفق عليها، ورغم علمي أنك قد لا تتمكن من توفير المستوى المادي لابنتي كما كانت تعيش في بيتنا، ولكنها سُنة الحياة.
عندما أناقش مع ابنتي مشكلة زوجها تدافع عنه وتبذل ما تستطيع لإتمام رسالتها كزوجة
تزوجت قرة عيني، ورزقها الله بثلاثة أولاد، وما كنت أخشاه وقع، فرغم أن زوجها كريم دمث الخلق ودود معها، فإن تفكيره مادي، وفقه الأولويات لديه خطأ، في خلال السنوات الخمس الأولى انكب على استكمال دراسته العليا حتى حصل على الدكتوراة، وتحملت قرة عيني كل الأعباء من تربية الأولاد ورعاية البيت، وكنت من جانبي بأرق أسلوب أبين له أهمية الموازنة، وأهمية قيامه بواجباته تجاه أسرته، إلا أن ابنتي كانت تدافع عن سلوكه وتبرر ذلك بأهمية بناء مستقبل الأسرة!
استغلت ابنتي انشغال زوجها عنها بتنمية معارفها الدينية والحياتية، حتى أصبحت مرجعاً لصديقاتها للمشكلات الزوجية والتربوية.
الضوابط الشرعية هي التي يجب أن تتحكم في تصرفاتنا وليس العواطف
وفقه الله تعالى للعمل بالتدريس بإحدى الجامعات توفر له دخلاً طيباً، ولكنه بدلاً من أن يعوض أسرته عن فقدانهم له خلال فترة دراسته، أسس مكتباً استشارياً وأصبح وقته موزعاً بين الجامعة والمكتب، ولم يبقَ لأسرته غير سويعات يعود منهمكاً للنوم، وابتعد عن أسرته أكثر، وفاجأني بأنه عمل شراكة مع إحدى الشركات العالمية، وأنه سيتولى إدارة فرع الشركة بأوروبا، وسيسافر بمفرده ويترك أسرته خوفاً على الأولاد من البيئة الغربية، اعترضت ابنتي وبيَّنت له خطورة ذلك على الأولاد، ولكنه أصر ووعدها أنه سيكون معهم يومياً صوتاً وصورة، وكل شهر سيقضي معهم أسبوعاً، كما أنه وعدها أن فترة تأسيس المكتب تتطلب وجوده على الأقل ستة أشهر وبحد أقصى سنة، ولكنه لم يوفِّ بوعوده، ويبقى في غربته بالشهور بعيداً عنهم، متعللاً بالعمل ويرسل بدلاً منه شيكاً! ومرت الأعوام وسط تبريرات ووعود وظروف طارئة وتعليلات.
أنا من جانبي لم أدخر وسعاً في الحديث معه أو أرسل إليه آراء العلماء في إثم من يهجر زوجته وأولاده لمجرد فقط زيادة مدخراته، والآثار المدمرة لذلك سواء على الأولاد أو الزوجة وما قد يعرضها ذلك من فتنة، واختلال العلاقة بينه وبين أسرته، ناهيك عن الآثار السلبية على الزوج، ولعل أخطرها هو ضياعه للأمانة التي حملها الله إياها، بالإضافة إلى الآثار النفسية والبدنية للحرمان من الحياة الطبيعية مع الأسرة، حتى إنني أرسلت له عدة أبحاث تبين أن عدم الانتظام في العلاقة الخاصة يؤثر سلباً على كفاءة الرجل، ولكن لا حياة لمن تنادي.
ولعلك أخي الكريم تتساءل: ما مشكلتي؟ مشكلتي هي أنني أجد ابنتي تعيش عيشة المطلقة أو الأرملة وهي شكلاً متزوجة، وأحفادي يتامى وشكلاً لهم أب، وكم يتفطر قلبي عندما يحضر أولادي كل بجانب زوجته، وتحضر ابنتي دون زوجها، أو أجد أولادي يمارسون الرياضة مع أولادهم وأولاد ابنتي محرومين من والدهم.
عندما أناقش مع ابنتي وضع زوجها، تقول: إنها بذلت قصارى جهدها معه، ولكنه يرى أهمية ليس فقط توفير مستوى مادي طيب لهم، ولكن عمل مدخرات لمواجهة أي صدمات قد نتعرض لها، وإنه لا يمكن له أن يتحمل احتياج أولاده لشيء قد يعجز عن توفيره لهم! ويمثل عليها دور الضحية، وكم يعاني من حرمانه منهم، وقد تدمع عيناه من فرط الشوق لهم، ولكنه يحتسب كل ذلك من أجلهم، فتشفق عليه وتتألم لمعناته، لقد كبر الأولاد وهم على أبواب الجامعة، وبفضل الله جهودها معهم لم تضع، ولكن من المؤكد أن هناك آثاراً سلبية لغياب والدهم، خاصة في مرحلة البلوغ وتحدياتها، كما أن جهودها ضعفت ولم تعد قادرة على بذل المزيد معهم.
عندما أناقش مع ابنتي مشكلة زوجها تبرر وتدافع عنه، ورغم اعترافها بخطئه في تقدير أولوياته، فإنها تحسن الظن به، وأنها تبذل ما تستطيع لإتمام رسالتها كزوجة وأم وهو مسؤول عن نفسه، ورغم عدم رضاها عن نموذج الحياة الذي فرضه عليها زوجها، فإنها توافقت معه وأوضحت لزوجها خطأه، ولكنه مصرّ على المضي في رؤيته.
في محاولة منا لمعالجة بعض الآثار السلبية، كنا نتحمل رعاية الأولاد حتى تسافر لزوجها، أو نقيم معها عند ولادتها لعدم وجود زوجها، حتى أصبح من الأسهل على زوجها طلبها لزيارته على أساس أننا سنتولى مسؤولية الأولاد، والأهم هو العبء النفسي لما تتحمله من مسؤولية الأسرة لمفردها والخوف عليها وعلى الأولاد.
سؤالي: من المؤكد أنه لا خلاف على خطأ زوج ابنتي في حق زوجته وأولاده، وأن هناك فعلاً آثاراً سلبية نتيجة ذلك، ومن منطلق خوفي أن يحدث، لا قدر الله، أي انحراف من الأولاد؛ هل لي أن أوضح لابنتي أن عليها ألا تكتفي بمجرد فقط النصح لزوجها وإنها وإن تنازلت عن حقوقها الزوجية، فليس من حقها التنازل عن حقوق أولادها التربوية من حب ورعاية معنوية ومداعبة وتوجيه.. أو هذا يعتبر من تحريش الزوجة على زوجها؟ هل لي بصفتي ولي ابنتي أن أقف مع هذا الزوج وقفة مصير وأخيرة بين أن يكون زوجاً وأباً وإلا فالطلاق؟ وخاصة أنه لا يسمع نصحاً ولا يرى الآثار السلبية لانشغاله بنجاحه المهني وتكوين ثروته، وقد حرم نفسه من الاستمتاع بزوجه وحياة أسرية ينعم فيها بصحبة أولاده عبر نموهم من الطفولة للصبا إلى البلوغ؟
التحليل
أود في البداية أن أنقل الرأي الفقهي وهو منقول عن د. كمال درويش، عضو لجنة الإفتاء بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت سابقاً:
1- تنتقل الولاية على المرأة بعد زواجها إلى زوجها، ومفهوم الولاية هو الرعاية الكاملة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالحكمة والموعظة الحسنة.
2- لا يحق لوالد المرأة أو ابنها أو أخوها أن يتدخل إلا إذا أمرها زوجها بمعصية أو منعها من فرض، أو منعها حقاً لها تطلب به.
3- إذا كان الأمر يتعلق بمباح وفيه وجهات نظر أو حق للزوجة وهي متنازلة عنه ولم تشتكِ، فلا يحق لوالد الزوجة التدخل إلا من منطلق النصح، فيمكن له أن يقول رأيه للاسترشاد فقط.
مع كل تقديري لمشاعر كل أب بذل في تربية ابنته، حتى سلمها أمانة إلى زوج توسم فيه الخير، ولكنه لم يرع الأمانة حق رعايتها، إلا أن الضوابط الشرعية هي التي يجب أن تتحكم في تصرفاتنا وليس الانفعالات والعواطف، إن الحقوق الزوجية فرض أن يقوم بها الزوجان، ولكن لأي من الزوجين التنازل عن حقه ولا يحق لأحد أن يطلب من الزوج الوفاء بحق زوجه ما دام لم يطلبه زوجه بحقه، كما أن ابنتك أعلم بزوجها، وإنها إذا خيرت زوجها بين ضرورة أن يكون زوجاً وأباً حقيقياً وليس صورياً أو الطلاق؟ تأخذه العزة بالإثم ويتم الطلاق، ولعلها وازنت واختارت أقل الضررين، آملة أن يفيق زوجها ويتعظ بما يسمعه من نصحها له أو من المآسي التي تحدث عن غياب رب الأسرة.
ومن رأيي أن الجأ إلى الله تعالى واجتهد بالدعاء، وكُف عن نصح الزوج؛ لأن هناك إنساناً لا يرى ولا يسمع إلا ما قرره هو، وقد يرى في الرجوع إلى الحق منقصة وتأخذه العزة بالإثم حتى لو أدرك أنه مخطئ، فيدافع ويبرر خطئه، أما ابنتك فحيث إنها، كما تقول، مرجع لصديقاتها، وأن لديها من الحكمة ما تسوس به حياتها، وهي أعلم بزوجها وبما يصلح حياتها الزوجية، لذا فلا داعي لإثارة آلامها، أو دفعها إلى اتخاذ قرار تحت تأثيرك تندم عليه، عليك فقط بالدعاء لها، كما أرى عدم تقديم أي مساعدة، لأن ذلك يسهل على زوجها بُعده عن أسرته لأنكم تتحملون المسؤولية عنه، دعه يتحمل أعباء أسرته.
ولهذا الزوج وأمثاله، أذكِّر بقول الله عز وجل: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً) (النساء: 58)، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول»، فاتقِ الله وكن رجلاً وتحمل المسؤوليات التي حملك الله بها وهو سبحانه سائلك عنها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ_____
(*) استشاري تربوي وعلاقات أسرية ـ مستشار البحوث بمجلس الوزراء الكويتي سابقاً.
00-14169973277
y3thman1@hotmail.com