من منّا لم يمرُّ في حياته بمواقف مختلفة متنوعة؛ ما بين عجيبة غريبة، أو نادرٍة مدهشة، أو عظيمة جليلة.. فإذا بتلك المواقف تستدعي مَثَلًا من الأمثال العربية أو الشعبية، يجري على لسان أحدنا دونما تفكير؟! أطرح هذا السؤال هنا، وأنا على ثقة من أن إجابتك ستكون: ليس منّا من أحد إلا ومرّ به موقف استدعى مَثَلًا فردَّده عَفو الخاطر، ولكنني أسوق إليك المثل القائل: “لا يفلُّ الحديدَ إلا الحديدُ” لا لتجربة مرّت بي، ولا لموقف عَبر، ولا لحادثة عجيبة استدعته، فإنّ قلتَ: فما الذي استدعى هذا المثل، وجعله يجري على لسانك إذن؟! قلت لك: استدعاه موقف مهيب قرأتُه بشعوري ووجداني قبل أن تمرّ عليه حدقة عيني، موقف شعرتُ فيه بالعِزّة، وامتلأت فيه نفسي بالفخار، فجرى الدم في عروقي فهممتُ أن أمتشق سيفي فأشارك صاحب ذلك الموقف موقفَه، وأن أكون من ورائه شاكي السلاح، عَلِّي أظفر من عزّته في الماضي بشيء يرفع من قَدْري في الحاضر، ولستُ بِدعًا بين الناس في ذلك، ألا تقول العامّة في بعض أمثالها: إذا أفلس التاجر فتّش في دفاتره القديمة؟! وأنا وإن لم أكن تاجرًا فإنني أعدّ نفسي مفلسًا في حاضري، أو إن شئت قل: أفلس بي حاضري. نعم، أفْلَستُ بكل ما يعنيه جِذر الكلمة اللغوي “ف، ل، س” من معنى، ولا تتعجب من كلامي، واسأل نفسك: كم موقفًا في حاضرنا العربي يستوجب فخرًا وتيهًا، أو يستحضر عِزة وأنفَة؟! فإن أعيتك الحِيل في العثور على بغيتك، فما عليك إلا أن تستحضر أهدافًا سجّلها لاعبونا الأشاوس في ساحات الملاعب الفِساح! أو تستدعي حفلاتٍ أحيتها على خشبات المسارح مطربات مِلاح! هل عرفت يا سيّدي لماذا أفلست وأفلس حاضري؟! وهل علمت الآن يا سيدي لماذا لُذتُ بالماضي التليد أستجديه علّه يعوّض حاضرًا أقفرَ واديه؟! فإن قلت: فما ذلك الموقف الذي لأجله انتشيت، وفي رحابه افتخرت؟! قلت لك: اسمع معي ما يرويه ابن إسحق، وابن هشام في كتاب السيرة وستجد بغيتك، وتَنشد إن شاء الله معي ضالتك:” قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: حَدَّثَنِي رَجُلٌ مِنْ أَسْلَمَ، كَانَ وَاعِيَةً: أَنَّ أَبَا جَهْلٍ مَرَّ بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ عِنْدَ الصَّفَا، فَآذَاهُ وَشَتَمَهُ، وَنَالَ مِنْهُ بَعْضَ مَا يَكْرَهُ مِنْ الْعَيْبِ لِدِينِهِ، وَالتَّضْعِيفِ لِأَمْرِهِ، وَمَوْلَاةٌ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ بْنِ عَمْرِو بْنِ كَعْبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ تَيْمِ بْنِ مُرَّةَ فِي مَسْكَنٍ لَهَا تَسْمَعُ ذَلِكَ، ثُمَّ انْصَرَفَ عَنْهُ فَعَمَدَ إلَى نَادٍ [أي مجلس القوم] مِنْ قُرَيْشٍ عِنْدَ الْكَعْبَةِ، فَجَلَسَ مَعَهُمْ. فَلَمْ يَلْبَثْ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ أَقْبَلَ مُتَوَشِّحًا قَوْسَهُ، رَاجِعًا مِنْ قَنْصٍ له [أي صيدٍ له] وَكَانَ صَاحِبَ قَنْصٍ يَرْمِيهِ وَيَخْرُجُ لَهُ، وَكَانَ إذَا رَجَعَ مِنْ قَنْصِهِ لَمْ يَصِلْ إلَى أَهْلِهِ حَتَّى يَطُوفَ بِالْكَعْبَةِ، وَكَانَ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يَمُرَّ عَلَى نَادٍ مِنْ قُرَيْشٍ إلَّا وَقَفَ وَسَلَّمَ وَتَحَدَّثَ مَعَهُمْ، وَكَانَ أَعَزَّ فَتًى فِي قُرَيْشٍ، وَأَشَدَّ شَكِيمَةً. فَلَمَّا مَرَّ بِالْمَوْلَاةِ، وَقَدْ رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إلَى بَيْتِهِ، قَالَتْ لَهُ: يَا أَبَا عُمَارَةَ، لَوْ رَأَيْتَ مَا لَقِيَ ابْنُ أَخِيكَ مُحَمَّدٌ آنِفًا مِنْ أَبِي الْحَكَمِ بن هِشَام: وجده هَاهُنَا جَالِسًا فَآذَاهُ وَسَبَّهُ، وَبَلَغَ مِنْهُ مَا يَكْرَهُ، ثُمَّ انْصَرَفَ عَنْهُ وَلَمْ يُكَلِّمْهُ مُحَمَّدٌ ﷺ.
فَاحْتَمَلَ حَمْزَةَ الْغَضَبُ لَمَّا أَرَادَ اللَّهُ بِهِ مِنْ كَرَامَتِهِ، فَخَرَجَ يَسْعَى وَلَمْ يَقِفْ عَلَى أَحَدٍ، مُعِدًّا لِأَبِي جَهْلٍ إذَا لَقِيَهُ أَنْ يُوقِعَ بِهِ، فَلَمَّا دَخَلَ الْمَسْجِدَ نَظَرَ إلَيْهِ جَالِسًا فِي الْقَوْمِ، فَأَقْبَلَ نَحْوَهُ، حَتَّى إذَا قَامَ عَلَى رَأْسِهِ رَفَعَ الْقَوْسَ فَضَرَبَهُ بِهَا فَشَجَّهُ شَجَّةً مُنْكَرَةً، ثُمَّ قَالَ: أَتَشْتِمُهُ وَأَنَا عَلَى دِينِهِ أَقُولُ مَا يَقُولُ؟! فَرُدَّ ذَلِكَ عَلَيَّ إنْ اسْتَطَعْتُ. فَقَامَتْ رِجَالٌ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ إلَى حَمْزَةَ لِيَنْصُرُوا أَبَا جَهْلٍ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: دَعُوا أَبَا عُمَارَةَ، فَإِنِّي وَاَللَّهِ قَدْ سَبَبْتُ ابْنَ أَخِيهِ سَبًّا قَبِيحًا، وَتَمَّ حَمْزَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى إسْلَامِهِ، وَعَلَى مَا تَابَعَ عَلَيْهِ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ مِنْ قَوْلِهِ. فَلَمَّا أَسْلَمَ حَمْزَةُ عَرَفَتْ قُرَيْشٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَدْ عَزَّ وَامْتَنَعَ، وَأَنَّ حَمْزَةَ سَيَمْنَعُهُ، فَكَفُّوا عَنْ بَعْضِ مَا كَانُوا يَنَالُونَ مِنْهُ.” السيرة، ج1، 292، تحقيق: مصطفى السقا وإبراهيم الإبياري وعبد الحفيظ الشلبي.
عليك الآن أن تتخيل هذا المشهد بتفاصيله؛ لترى مكامن العزة، وتستنبط مواضع الكرامة والأنفة؛ فأبو جهل قد نال من النبي الكريم بلسانه، ولم يجرؤ أن يزيد على ذلك، وقد شاهدتْ مَوْلَاةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ الموقف برمّته، و عاينت من صلف أبي جهل، ومن حِلم النبي الكريم ما عاينت، فكأنها لم يعجبها ما شاهدت وعاينت، فلمّا رأت حمزة قادمًا متوشحًا سيفه علمتْ أنه “لا يفل الحديد إلا الحديد” فأخبرته بما رأت وما سمعتْ، وما أخبرته إلا لعلمها بقوته وجسارته وشجاعته، ولبغضها لهذا الصَّلِف المغرور، وتخيل معي حال حمزة، والأمَة تروي له ما حدث، وكأني به وقد زاد غضبه، وكلما زادت الأمَة في رواية تفاصيل القصة كلما ازداد احمرار وجهه، وعَلتْ نبضات قلبه، حتى أخذ منه الغضب كل مأخذ، فلم يسألها، ولم يستجوبها؛ فالحر لا يتعذّر، وهو أعلمُ بِخسة أبي جهل وضِعته، وأن هذا الذي تقوله الأمَة ليس عنه بمستغرَب! ولا هو عليه بطارئ ولا جديد، وانظر – رحمني الله وإياك- إلى سياق الموقف، وملابساته، بل انظر حتى إلى حواشي القصة، وما تظنه زائدا عنها، وعن المشهد؛ من وصف لحمزة وهو متوشح سيفه، عائد من قنصه، وتلك صفات الشجعان، ثم انظر إلى تواضعه مع عزته، وكرم أصله مع لين جانبه؛ إذ كان إذَا عاد من قنصه لَمْ يَمُرَّ عَلَى نَادٍ مِنْ قُرَيْشٍ إلَّا وَقَفَ وَسَلَّمَ وَتَحَدَّثَ مَعَهُمْ، وَكَانَ أَعَزَّ فَتًى فِي قُرَيْشٍ، وَأَشَدَّ شَكِيمَةً.” فالكريم الأصيل، لا تحمله قوته على الكِبر، وإنما تزيده تواضعًا؛ لأنها قوة تدعمها الثقة، وتغذوها التربية الطيبة، فيسير التواضع في ركابها؛ ليرفع من قدرها في نفس صاحبها، وفي عيون الآخرين.
ولك أن تتخيل تلك الدقائق القليلة التي فصلت بين حمزة وهو في طريقه إلى أبي جهل، كيف مرّت على أسد الله، وإلى تلك المسافة التي تحجز بينهما، كيف قطعها حمزة وكأن الأرض قد طُوِيَت له، وحق لها أن تطوى، فهي على موعد سيسجله التاريخ بمداد العزة والإباء، وسيذكره من بعده الأبناء والأحفاد؛ ليكون لهم زادًا يتزودون به كلما حالت بينهم وبين مواضع العزة الحوائل؟!! فكأني بحمزة يحدّث نفسه بما يجب أن يفعله مع هذا الرعديد، وما يجب أن يلقى منه؛ وإذا به وهو في غمرة هذه الحالة يفاجأ بأنه قد وصل لمبتغاه، ووجد ضالته المنشودة، وهنا يعير الزمان سمعه وبصره لحمزة، وهو واقف على رأس أبي جهل، غير آبهٍ به، ولا بالقوم الذين يجلس بينهم، حتى إذا اطمأنّ إلى مكانه من فريسته هجم عليها هجوم الأسد ” حَتَّى إذَا قَامَ عَلَى رَأْسِهِ رَفَعَ الْقَوْسَ فَضَرَبَهُ بِهَا فَشَجَّهُ شَجَّةً مُنْكَرَةً” نعم، كما تقرأ الآن، أو كما ترى وتسمع ” ضَرَبَهُ بِهَا فَشَجَّهُ شَجَّةً مُنْكَرَةً” ولم تكن الضربة ضعيفة؛ لأن الأداة التي استخدمت فيها أداة قوية، وهي القوس على حِدّتها، وشدة إيلامها، ولأن الساعد الذي وجَّه الضربة ساعد حمزة أسد الله؛ لذلك كان طبيعيا أن تُشجَّ رأس أبي جهل شجة مُنكرَة؛ مُنكرَة من أبي جهل لقوتها؛ ولأنه لم يكن ليتخيل أن يصل الأمر إلى هذا الحد، ولم يكن ليظن أن الخبر قد وصل إلى مسامع حمزة؛ إذ ربما كان يعرف أبو جهل بخروجه للقنص والصيد فنال من ابن أخيه وهو غائب، ولو أن حمزة كان موجودًا لما تجرأ على ما فعل، و مُنكرَة من القوم الجالسين وقد شاهدوا الموقف وهم فاغرو الأفواه، محملَقو العيون، يعلوهم الذهول، ويكسوهم الخزي والعار، مُنكرَة لأنها أصابت رأسًا ينهى صاحبها عن المعروف، ويأمر بالمنكر.
إن الطبيعي في مثل تلك المواقف أن تبدأ بالكلام والملاسنات، وتبادل السباب، ثم تتطور فتصل إلى ما وصلت إليه من شج الرؤوس، ولكنك لا تتنظر الطبيعي والمعتاد وأنت في حضرة حمزة. إن على من يريد الطبيعي المعتاد أن يبحث عنه هناك بعيدا عند الأشخاص المعتادين، أمَا وإنّك في حضرة حمزة فكل شيء استثنائي، فلقبه أسدٌ مضاف إلى اسم الله عز وجل، فماذا تتوقع؟! وماذا تنتظر؟! لذلك تجده بعد أن أطفأ بعض نار غيظه، تجده واقفًا أمام القوم وفيهم بالطبع أبو جهل.. واقفًا رافعًا رأسه، يتطاير الشرر من عينيه الحمراوين، وتنطلق الكلمات من بين شفتيه طلقات مدفع:” أَتَشْتِمُهُ وَأَنَا عَلَى دِينِهِ أَقُولُ مَا يَقُولُ؟! فَرُدَّ ذَلِكَ عَلَيَّ إنْ اسْتَطَعْتُ.” لقد توالت الصواعق على رأس أبي جهل، فأصبح لا يدري مما يعاني ومما يتألم؛ أَمِن رأسه المشجوج، والدم ينهمر منه في مشهد يستجلب الشماتة والتشفي لا الشفقة والرثاء؟! أم من إعلان حمزة إسلامه على الملأ غير مبال به ولا بهم؟! أم من ذلك التحدي السافر له؛ تحدي الأسد الهصور: “رُدَّ ذَلِكَ عَلَيَّ إنْ اسْتَطَعْتُ.” لا، واللهِ يا حمزة، لن يرد، ولن يستطيع، أتركتَ له مجالا للرد، أو استطاعةً عليه، يرحمك الله، ولك أن تتخيل أي طامة حلّت على رأس أبي جهل في ذلك الوقت؟! وأي قارعة نزلت به!
ودَعنا نصل للحلقة الأخيرة في هذا المشهد الذي وددنا لو امتد وامتد، أتدري لماذا؟ لأنه مشهد مِلؤه العزة، وحواشيه الإباء، وإهابه الكرامة والفخار.. لكن إذا لم يكن من الأمر بدٌّ فلنسمع لتلك النهاية السعيدة التي يحبها كل محبٌ للخير، مناصر للحق؛ كاره للباطل، شامت فيه وفي أهله؛ تلك النهاية التي يتمخض فيها الجبل فيصير فأرًا مذعورًا؛ إذ تقوم رِجَالٌ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ إلَى حَمْزَةَ لِيَنْصُرُوا أَبَا جَهْلٍ، لكنّه ينهاهم، بل يأمرهم في صغار وذلة قائلًا: دَعُوا أَبَا عُمَارَةَ، فَإِنِّي وَاَللَّهِ قَدْ سَبَبْتُ ابْنَ أَخِيهِ سَبًّا قَبِيحًا” آلآن قد عرفت أنك قد سببت ابن أخيه سَبًّا قبيحًا؟! أم أنك خائف وَجِل مما قد ينالك وينال من معك من القوم من غضبة الأسد؟! آلآن أصبحتَ تُكَنّي حمزة أبا عُمارة؟! أهو حبٌ له؟ أم إعجاب به؟ أم خوفٌ وفرَق منه؟!
لقد تيقنت الآن من صِدق المَثل، ومن أنه بالفعل” لا يفل الحديد إلا الحديد”! وأنت أيها القارئ الكريم هل عرفت: لماذا نترك حاضرنا، ونلوذ بالماضي التليد؟! أكِرم بأمّة هذا تاريخها! وأكرم بها ثم أكرم إذا استطاعت أن تفيد من هذا التاريخ؛ لتعيش حاضرها، وتستشرف مستقبلها.