“نريد أموالنا بأي ثمن”، عبارة يرددها المودعون في المصارف اللبنانية منذ نحو 3 سنوات، بعدما فرضت قيوداً غير قانونية على عمليات السحب والتحويلات بالدولار، واحتجزت أموال المودعين قسراً، فيما خسرت الودائع بالليرة قيمتها بفعل الارتفاع المستمر لسعر صرف الدولار بالسوق السوداء (يبلغ نحو 35 ألف ليرة).
وينقسم مودعو نحو 64 مصرفاً لبنانياً بعشرات فروعها الممتدة بين الداخل والخارج، إلى فئتين: المقيمين وغير المقيمين، والحالة الثانية تشمل اللبنانيين غير المقيمين في لبنان، إضافة إلى مودعين عرب وأجانب من أفراد ومؤسسات، وتعدّ الأزمة المصرفية من أوجه الانهيار الاقتصادي الذي صنفه البنك الدولي من بين الأسوأ عالمياً منذ عام 1850، وتتصاعد أصوات المودعين اللبنانيين مع عرب وأجانب يضغطون على سلطات بلادهم للتحرك دبلوماسياً وقضائياً بغية استرداد أموالهم.
ويرى خبراء أن هذه التحركات لن تقطف ثمارها، باستثناء بعض الحالات، لأن مصير أموال المودعين -من مختلف الجنسيات ومواطن الإقامة وآلية الاستحصال مستقبلا- واحد.
نماذج وأمثلة
في أغسطس 2022، قدّم نواب أردنيون مذكرة رسمية تطالب الحكومة الأردنية بتحرك عاجل لمحاولة استعادة الودائع الأردنية في المصارف اللبنانية، وقدروا قيمتها بحوالي 1.2 مليار دولار تعود لأفراد ومؤسسات.
وقبلها، في مايو 2022، طالبت الخارجية اليمنية الحكومة اللبنانية بالإفراج عن أموال يمنية محتجزة في المصارف لبنانية، وقدروا قيمتها بنحو 250 مليون دولار.
كذلك يشهد العراق سجالات بين وقت وآخر حول مصير الودائع العراقية في المصارف اللبنانية، وذهبت تصريحات مسؤولين وخبراء عراقيين لتقديرها بحوالي 10 مليارات دولار.
وفي نوفمبر 2020، اتهم رئيس النظام السوري بشار الأسد المصارف اللبنانية بالتسبب في الأزمة الاقتصادية السورية، وقال: إن ودائع السوريين فيها تقدر بما بين 20 و40 مليار دولار، واعتبر خبراء أن رقم الأسد مضخم وغير واقعي للتهرب من مسؤولياته في الأزمة السورية، علما بأن سورية في الثمانينيات شهدت أكبر عمليات إيداع لرجال أعمال سوريين في المصارف اللبنانية، قبل تهربها من التعامل مع المودعين السوريين منذ اندلاع الحرب، خشية ملاحقتها بعقوبات قانون “قيصر”.
ولأول مرة، نفذ المصرفان اللبنانيان “عودة” و”إس جي بي إل” (SGBL)، في مارس 2022، قراراً قضائياً بريطانياً، قضى بدفعهما وديعة بقيمة 4 ملايين دولار للمودع البريطاني فاتشي مانوكيان، فرد “عودة” بإغلاق عشرات الحسابات للبنانيين يحملون الجنسية البريطانية.
وقبله في ديسمبر 2021، أصدرت محكمة فرنسية حكماً لصالح عميلة سورية تقيم في فرنسا، لاسترداد وديعتها التي تبلغ 2.8 مليون دولار من بنك “سرادار” اللبناني، فاستأنف الأخير الحكم القضائي الصادر ضده هناك.
وهذه عينة من قصص ودائع غير اللبنانيين في المصارف اللبنانية، وقدرت حكومة نجيب ميقاتي خسائر الجهاز المصرفي بنحو 70 مليار دولار، ولم يحصل توافق رسمي بشأن كيفية توزيع الخسائر بين الدولة والمركزي والمصارف التجارية، ويخشى المودعون تحميلهم المسؤولية الكبرى بالاقتطاع من ودائعهم.
وبشأن تحديات ومصير أموال المودعين غير المقيمين، حاورت “الجزيرة نت” كلاً من الرئيس الأسبق للجنة الرقابة على المصارف سمير حمود، والخبير المالي والضرائبي المحامي كريم ضاهر، وخبير المخاطر المصرفية محمد فحيلي.
الفجوة المالية
تبلغ المطلوبات من المصارف بالعملات الأجنبية في الجهاز المصرفي نحو 114 مليار دولار، ومقابلها يوجد حوالي 35 مليار دولار كتوظيفات قابلة للتسييل، أي أكثر من 85 مليار دولار غير موجودة، وجزء كبير منها جرى تحويله للخارج قبيل انفجار الأزمة المصرفية عام 2019.
وحتى يونيو 2019، بلغت القيمة الإجمالية لودائع غير المقيمين نحو 37 مليار دولار، وشكلت نحو 20% من إجمالي الودائع في المصارف اللبنانية، وفق الرئيس الأسبق للجنة الرقابة على المصارف سمير حمود.
أما حتى يونيو 2022، فبلغت قيمة ودائع غير المقيمين 20 مليار دولار، مقابل 80 مليار الدولار ودائع المقيمين، بحسب حمود الذي يقول: إن ودائع غير المقيمين انخفضت إلى هذا المستوى لأن نسبة من أصحابها أغلقوا حساباتهم أو سحبوا منها باقتطاع قيمتها وفقاً لتعاميم المركزي.
ويوضّح رئيس لجنة الرقابة الأسبق أن لدى المركزي والمصارف أرقاماً مفصلة عن حجم ودائع غير اللبنانيين وبحسب الجنسيات، لكن لا يجري الإعلان عنها تفادياً للإشكالات الدبلوماسية والقانونية، وحتى لا تطالب الدول بتفاصيل حول ودائع مواطنيها الذين لا يخضعون في بلادهم للسرية المصرفية.
السرية المصرفية
تاريخياً، استقطب نظام السرية المصرفية اللبناني الذي ولد عام 1956، الرساميل العربية والأجنبية الباحثة عن ملجأ لودائعها واستثماراتها.
ولأول مرة بعد 66 عاماً، ومع تصاعد الإجراءات القضائية المحلية بحق المصارف والمصرفيين وحاكمية المركزي وتحركات قضائية دولية، صدق البرلمان اللبناني على بعض التعديلات على قانون السرية المصرفية في يوليو 2022.
ويرى خبراء أن التعديلات غير كافية، لكنها أعطت حق رفع السرية المصرفية للقضاء والسلطات الضريبة، بقضايا التهرب الضريبي والتحقيقات الجنائية المالية.
الجذب والهروب
ويعود الخبير المالي والضرائبي المحامي كريم الضاهر لأبرز محطات جذب رؤوس الأموال الخارجية حتى انفجار الأزمة:
– في بداية التسعينيات -عقب انتهاء الحرب الأهلية وتوقيع اتفاق الطائف- جاء رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري حاملاً مشروع إعادة الإعمار، وأبرز سبل وارداته الاستدانة وجذب الأموال مقابل فائدة عالية، وبلغت حينها على سندات خزينة الدولة 40%.
– تجربة الاستدانة واستقطاب الأموال في التسعينيات خلال الوصاية السورية على لبنان، شهدت هدراً وعجزاً عن رد الديون، فحوّلوا ديون الدولة من الليرة للدولار، وتم في نهاية التسعينيات تثبيت سعر صرف الليرة على 1507 ليرات للدولار.
– بعد اغتيال الحريري في عام 2005، تزامنت تلك الحقبة المفصلية مع ارتفاع نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي، وساهمت الاهتزازات الأمنية والسياسية بتدهور الوضع النقدي اللبناني، وتراكمياً، تجاوز الدين العام 90 مليار دولار، بعضها يُستحق دفعه بالليرة، وديون الدولة وحدها بسندات اليوروبوندز تبلغ نحو 39 مليار دولار.
– في عام 2008، مع انفجار الأزمة المالية والمصرفية العالمية، وتقديم دول كبرى كسويسرا ولوكسمبورغ والنمسا تنازلات عن السرية المصرفية، هرب كثيرون إلى مصارف لبنان لإيداع أموالهم، وأصبحت كصندوق أسود لإخفاء رؤوس الأموال والهاربين ضريبيا.
– في عام 2011، عقب اندلاع الحرب السورية، واضطراب العلاقات اللبنانية العربية، بدأ ميزان المدفوعات بلبنان سلبياً، وبلغ مستوى خطيراً في عام 2015، فظهر وجود استثمارات سيئة وخطيرة لبعض المصارف، وسجلت تدفقات الرساميل تباطؤاً ملحوظاً.
– منذ منتصف 2012، بدأ مصرف لبنان برئاسة حاكمه رياض سلامة، تنفيذ عمليات مالية بالسوق تحت اسم “الهندسات المالية”، وحققت المصارف عبرها أرباحاً طائلة، لكنها -وفق تقديرات- كانت صورية ووهمية، ومن الأسباب المباشرة للانهيار في لبنان.
– مع انفجار الأزمة خريف 2019، اضطر المركزي مع المصارف إلى خفض معدلات الفوائد على الودائع بالدولار من نحو 6.5% إلى 0.97%، وعلى ودائع الليرة من نحو 9.5% إلى 2.91%، وذلك مقابل تراجع كبير في الحسابات الخارجية للقطاع المصرفي وتفاقم العجز بميزان المدفوعات.
– وفي أغسطس 2020، أصدر المركزي تعميماً طلب فيه من المصارف التجارية زيادة رؤوس أموالها بنسبة 20%، وتكوين سيولة بنسبة 3% لدى المصارف المراسلة بالخارج.
ويعقب كريم ضاهر موضحاً، أن أكثر الجنسيات التي كانت تودع أموالها بلبنان، هم من أفريقيا وأمريكا اللاتينية، وفئة واسعة منهم لبنانيون يحملون جنسيات أخرى، وانجذبوا كغيرهم لأسباب عدة، منها:
– تحقيق ربح عال بأموالهم، إذ بلغت نسبة الفوائد في مرحلة الهندسات المالية مثلاً 30% على ودائع الدولار.
– أسباب نفسية وعاطفية على قاعدة إيداع أموالهم في البلد الأم لغير المقيمين.
– أسباب ترتبط بالسرية وإخفاء حجم الرساميل على الدول التي يقيمون فيها وللتهرب الضريبي.
الخسائر
يجمع خبراء أن مصير المودعين واحد، بخضوعهم لإجراءات السحوبات نفسها، علماً بأن جزءاً كبيراً من الودائع الصغيرة تم استرداده عبر تعاميم المركزي بتفاوت نسب الهيركات (الاقتطاع القسري من الديون).
ويقول خبير المخاطر المصرفية محمد فحيلي: إن الوديعة وديعة، ولا يمكن تمييزها وفق الجنسيات والإقامات، والقانون والعقود المبرمة بين المودعين والبنوك اللبنانية لا تعطي طرفاً آخر حق التدخل.
ويعتبر فحيلي أن ثمة تضليلاً في عبارة “استعادة أموال المودعين”، لأن الودائع “لا ترد بل تستثمر، والأجدى البحث عن سبل لإعادة الثقة بالقطاع المصرفي”.
ويقول سمير حمود: إن الدولة ليست مجبرة على التعويض لأي مودع، بل عليها تسديد ديونها للمركزي، وأن تتحمل المصارف مسؤولياتها بإعادة هيكلة ديونها، للاستمرار أو الدمج أو إعلان الإفلاس، وأن يكون المودع آخر طرف يتحمل مسؤولية.
في المقابل، يوضح كريم ضاهر أن عقود المصارف التجارية اللبنانية عقود إذعان، والخطر فيها حاضر جداً مقابل إغراءات الربح.
ويقول: إن المودعين غير اللبنانيين ملزمون بحصرية التقاضي في لبنان وفقاً للعقود المبرمة ومحاكمهم غير مختصة، أما حالتا بريطانيا وفرنسا، فاستندتا إلى القانون الأوروبي لحماية المستهلك، وهو غير متاح لحاملي جنسيات أخرى حتى الأمريكية.
ويختم: ليس أمام المودعين غير اللبنانيين سوى الاستفادة مما سيعطى للمودعين اللبنانيين، علماً بأن غير المقيمين وحاملي جنسيات أخرى، يدفعون ثمناً كبيراً، لأن معظمهم بعد كشف قيمة ودائعهم أصبحوا مجبرين على دفع ضرائب ببلادهم على أموالهم المحتجزة، وقد يستدينون لأجل ذلك.