ختم الله تعالى أحسن القصص في سورة «يوسف» بقوله سبحانه: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (يوسف: 111).
علمتنا الآية الكريمة أن أولي الألباب هم الذين يبحثون في القصص القرآني عن هداية العبرة التاريخية؛ ليهتدوا بها في ترشيد مسارهم وإنقاذ أوطانهم.
وعند التأمل في سورة «يوسف» لنبحث عن حل في مواجهة الأزمة الاقتصادية التي دفعت إليها الحرب الروسية الأوكرانية، نرى أن مثلث صناعة الأمن الغذائي وحماية الوطن من التحديات الاقتصادية شكلته هذه الأضلع الثلاثة: الكفاءة، والقيادة، والشعب.
أولاً: الكفاءة المؤمنة التي حرصت على نهضة الوطن، وتجردت لحمايته -رغم أنه وطن الإقامة لا الولادة- وأعلت مصلحة الوطن فوق كل اعتبار، ولم تتأثر بما وقع عليها من ظلم، ولم تساوم على خطة إنقاذ الوطن في مقابل نفعها الشخصي، وكان إنقاذ الوطن والأوطان المجاورة أولى وأحب عندها من حريتها، هذه الكفاءة بهذه الأخلاق كانت الضلع الأول في مثلث الأمن الغذائي في مواجهة الأزمة الاقتصادية، وكان سيدنا يوسف هو النموذج المعبر عن هذا الضلع.
أضلع الأمن الغذائي وحماية الوطن من التحديات الاقتصادية.. الكفاءة والقيادة والشعب
وفي هذا نقرأ قوله تعالى: (قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ {47} ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ {48} ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ) (يوسف).
ثانياً: القيادة الوطنية الحكيمة التي انتفضت لتؤازر هذه الكفاءة، وأحسنت تقديرها، وأكرمت مثواها، ووضعت إمكانات الدولة تحت تصرفها، كانت هذه القيادة الوطنية الواعية بقيمة الكفاءات في بناء الأوطان هي الضلع الثاني في مثلث مواجهة الأزمة، وسرعان ما تحركت القيادة الواعية لتستنقذ من خلف القضبان الكفاءة المسجونة ظلماً وعدواناً؛ لتبدأ خطة النهضة ومواجهة الأزمة!
الكفاءات الوطنية عماد نهضة الأوطان والدول التي تسجن ثرواتها البشرية لا تفلح في مواجهة الأزمات
وعلمتنا هذه القيادة أن الثروة البشرية ممثلة في الكفاءات الوطنية هي عماد نهضة الأوطان وسر قوتها، وأن الدول التي تسجن ثرواتها من الكفاءات البشرية لا يمكن لها أن تنهض أو تفلح في مواجهة أزمة من الأزمات!
وكان ملك مصر في عهد يوسف هو النموذج المعبر عن هذا الضلع، وفي هذا نقرأ قوله تعالى: (وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ) (يوسف: 54).
ثالثاً: الشعب المثقف الواعي الذي أدرك خطر الأزمة، واعتز بالكفاءة، والتف حولها ولم تعْدُ عينه عنها، واستجاب لتوجيهاتها في العمل الدؤوب، ولم تحرفه أذرع كيدية عما خططت له الكفاءة الأمينة العليمة، حتى تحقق له ما يفيض عن حاجته -حسب المدة الزمنية التي يتوقع للأزمة أن تمكثها- هذا الشعب الذي استجاب لتعليمات الكفاءة في الإنتاج، وفي التحصين، وفي ترشيد النفقات والتخلص من آفة الإسراف الاستهلاكي؛ كان هذا الشعب الواعي بدوره والملتف حول الكفاءة والقيادة هو الضلع الثالث في بناء النهضة ومواجهة الأزمة!
الطعام الذي لا يصل للجوعى إلا بعد إذن المستبدين مذلة وانكسار لا تستسيغه حلوق الأحرار
ثم كان شكر الله تعالى الذي تجسد في رفع الظلم وتحقيق العدل وإطعام الجائع وتأمين الخائف هو شعار الوطن وخلقه وحضارته الراشدة التي أهَّلته ليكون أماناً للمقيمين فيه والوافدين إليه: (وَقَالَ ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَاء اللّهُ آمِنِينَ) (يوسف 99).
وعلى خطى يوسف عليه السلام وبهداه، اهتدى خاتم النبيين ورحمة الله للعالمين فجعل تحقيق الإشباع والأمان معيار التفوق في التدين بالإسلام إذ قال لمن سأله: أيُّ الإسلامِ خيرٌ؟ فأجاب الرسول صلى الله عليه وسلم: «تُطعِمُ الطعامَ، وتقرأ السلام، على من عَرَفتَ، وعلى من لم تَعرِفْ» (رواه البخاري ومسلم).
في إجابة موجزة عرَّف الرسول صلى الله عليه وسلم برسالة الإسلام وأبان عن وظيفة المتدينين به: إطعام الطعام، المقروء والمقرون بالسلام، دون تمييز بين إنسان وإنسان.
ولو وقفنا وقفة تأمل عند تعريف الرسول صلى الله عليه وسلم الإنسان للمستوى الراقي الذي أجاب فيه عن خيرية التدين بالإسلام؛ لنتساءل معاً: لماذا جمع الرسول صلى الله عليه وسلم في إجابته عن أي الإسلام خير بين إطعام الطعام وقراءة السلام دون تمييز بين إنسان وإنسان؟
والجواب، فيما أفهم: لأن الطعام والسلام حقان إنسانيان متلازمان لا ينفكان عن بعضهما، ولا يمكن لإنسان أن يستغني عنهما، فلا يمكن لخائف أن يستلذ بطعام تمتد به يد، بينما اليد الأخرى تمتد بالسلاح!
من أهم معايير الحضارة الراشدة وقت الأزمات إطعام الجائع وتأمين الخائف دون تمييز
ولا يمكن لحُلوق الأحرار أن تبتلع طعاماً يكون ثمناً لاستعبادهم!
إن الطعام الذي لا يصل للجوعى إلا بعد إذن المستبدين الظالمين مذلةٌ وانكسارٌ لا تستسيغه ولا تبتلعه حلوق الأحرار!
فقوله صلى الله عليه وسلم: «تُطعِمُ الطعامَ، وتَقرَأُ السلامَ، على من عَرَفتَ، وعلى من لم تَعرِفْ» قمة في الرحمة بالإنسانية، وتأمين لها ضد الجوع والخوف، وحماية لها من نار العنصرية التي تهدم الإنسان وتخرب العمران.
إن الأزمات تكشف عن معادن الحضارات، وإن من أهم معايير الحضارة الراشدة حين تشتد الأزمة: إطعام الجائع، وتأمين الخائف دون تمييز بين إنسان وآخر.
وللتلازم بين الأمان والإطعام في تنعم الأوطان ضرب الله به المثل في القرآن، فقال سبحانه: (وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ) (النحل 112).
اللهم استودعناك أخلاقنا وأنفسنا وأوطاننا فاحفظها بحفظك واصرف عنها كل مكروه وسوء.