طاقم فيلم وثائقي إيطالي يتلقى معلومات بوقوع مذبحة بحق العرب.. يستقل مراسلون طائرة صغيرة مزودة بكاميرات ويطلبون إذنًا بالهبوط، يتعرضون لوابل من الرصاص، يضطرهم للمراوغة ارتفاعًا ثم العودة..
هنا تلتقط الكاميرا شاحنة تحمل جثثًا بالعشرات، وهناك مئات العرب مكبلون وينتظرون نحبهم.. تستطيع أن تلمح حركتهم ببطء، وتستطيع بعد ثوان مشاهدة سكونهم، وبعد أخرى مشاهدة جثثهم ممددة في مقابر جماعية..
الرعب يجتاح كل شيء، مئات العرب يتدفقون هربًا إلى المحيط، لا سبيل لنجاتهم، لكنها حيلة العاجز، تسجل الكاميرات مشاهد التدفق، ثم تعود لتجد جثثهم على الشواطئ بعد تصفيتهم أحياء، المنظر من السماء يجعل الجثث تبدو كما النمل، نمل أبيض مُسجى على رمال وصخور..
انتهت مذبحة العرب في زنجبار عام 1964، التي وثّقها جواتيرو جاكوبيت، وفرانكو بروسبري في الوثائقي الإيطالي “Africa Addio”، في خمس دقائق من مدة الفيلم الإجمالية المُقدرة بساعتين.. مذبحة نفّذها الأفارقة ضد العرب، بقيادة المهاجر الأوغندي جون أوكيلو الذي كان مسكونًا بهلاوس دينية مفادها أن الرب أرسله لاستنقاذ الزنج من العرب، والذي أوصى أتباعه بألا تأخذهم شفقة بـ”المانقا” (أي العرب الواصلين حديثًا إلى زنجبار)؛ فكانوا يأخذون العرب إلى معسكرات اعتقال، ثم إلى جزر مُطرفة، ثم يدفنون كل خمسة منهم في مقبرة بعد أن تنال منهم الشمس والجوع والعطش..
في الأخير طالت المذبحة الجميع.. العرب الجُدد، وأسلاف العرب الذين جاؤوا حاملين الإسلام إلى زنجبار قبل 1000 عام على يد العمانيين، وأحفاد العرب الذين استنجد بهم الأفارقة لنجدتهم من الاستعمار البرتغالي في عام 1650؛ فكان أن اندفعت أسرة اليعاربة لدحر الاستعمار، وكذا العرب الذين هيمنوا على الحكم طيلة قرنين، بل إنهم جعلوا من زنجبار عاصمة لسلطنة عمان بدلًا من مسقط عام 1832.. بحسب ما يورده د. علي عبدالله إبراهيم في الفصل الثاني “رب الأفارقة” من مؤلفه “ثورة زنجبار 1964.. هل العرب مواطنون في أفريقيا أم مستوطنون؟”.
محفزات المذبحة كانت متوافرة قبل ذلك بعقود.. العرب الذين وفدوا إلى زنجبار، وتصاهروا مع سكانها، وتحدثوا السواحلية، وتعايشوا مع الهنود والأفارقة، بدأت تتوجه إليهم أصابع الاتهام الأفريقية بوصفهم المسؤول الأول عن تجارة الرقيق.. زنجبار كانت المركز الشرق-أفريقي للاتجار في الرقيق، يدفع السيد أموالًا لأمراء القبائل، يشتري العبيد، ثم يبيعهم للإنجليز، تورّط عرب زنجبار العمانيون الأثرياء في تلك التجارة بقسوة.. لكن الدعاية البريطانية حمّلت كل العرب مسؤولية الرق التاريخية، وكأن العرب هم من قاموا بنقل 25 مليون أفريقي عبر الأطلنطي لمستعمرات العالم الجديد، وكأن المشتري النهائي كان العرب، وكأنهم المستفيد من تراكم ثروات عملاقة من ليفربول وبريستول إلى باهيا وجواتيمالا..
نجحت دعاية الإنجليز التي تتجسد ذروتها في لوحة بجامعة ماكيري بأوغندا، تُمجد الإرساليات الإنجليزية وتدين العرب، وكذا في متحف في ليفنجستون بزامبيا يعرض نخاسة العربي مقابل سماحة الإنجليزي الذي نهب مليارات من النحاس، وبدلًا من بناء هوية سواحلية جامعة، وقعت زنجبار في استقطاب حاد بين هويتين عربية مقابل أفريقية، والأخيرة تتهم الأولى باحتكار الثروة والأرض ومحصولها الرئيس القرنفل وقبل ذلك كله بالعبودية.
ضغائن تاريخية تتراكم وتنتظر لحظة انفجار، وأتت عقب انتخابات عام 1963 التي خاضها عرب ينضوون تحت راية الحزب الوطني الزنجباري برئاسة علي محسن البرواني ذي الأصول العمانية العربية، والحانق على الظلم الإقطاعي الذي تعرض له الأفارقة، فأتى لمصر وقابل عبدالناصر في عام 1958 وطلب منه تعليم أبناء زنجبار في القاهرة، وإنشاء إذاعة تُبث باللغة السواحلية، واستجاب له عبدالناصر، وفي المقابل كان هناك الحزب الأفرو-شيرازي الداعم للامتداد الأفريقي الطبيعي لزنجبار في البر الأفريقي، وخلفه حزب الأمة الماركسي الناشئ، فطبع التمايز العرقي الخلاف السياسي، وكانت لحظة التصفية حتمية وبأشد الوسائل عنفًا.
مصر الناصرية لم تساند حليفها البرواني.. لفترة كنت مقتنعًا بتفسير محمد فائق، مدير مكتب عبدالناصر للشؤون الأفريقية، لاعتراف القاهرة بـ”ثورة الأفارقة” في زنجبار، في النهاية كانت ثورة للفرز الاجتماعي وإصلاح الخلل الذي تسبّب بسيطرة العرب على مقاليد الثروة والسلطة، ومصر باركت أحداث عام 1964 وسارعت بتسميتها ثورة، لأنها كانت تخشى أن يزداد التنكيل بالعرب، ثم إن زنجبار انضمت لاحقًا لتنجانيقا وشكل كلاهما دولة تنزانيا، وفيها افتتحت مصر مركزاً إسلامياً عملاقاً، كما أن تنزانيا الجديدة تبنت النهج الاشتراكي، وأعلن زعيمها جوليوس نيريري في ميثاق أروشا عام 1967 ما أسماه بـ”السياسة الاشتراكية والاعتماد على النفس”، حتى إنني قاربت تصديق ختامه لتحليل ثورة زنجبار (في ص 111-115) من كتابه “عبد الناصر والثورة الأفريقية” بوصفها “ثورة في صالح الإسلام والمسلمين والعرب”؛ لأنها أدت إلى فتور العلاقات بين “إسرائيل” وتنزانيا، التي دعمت الحق العربي في منظمة الوحدة الأفريقية والأمم المتحدة..
مصر الناصرية تفاجأت إذن بالمذبحة، وبعد أن علمت بمقتل 20 ألف عربي، تخّلت عن حليفها العربي، وانحازت للجناة الأفارقة خدمة للمواطنين العرب لمنع التنكيل الإضافي بهم.. حسنًا فعلت.. لكني شاهدت قبل فترة وثائقيًا يحكي قصة زنجبار كاملة على مدى 82 دقيقة وهو فيلم “زنجبار.. الحكاية المنسية” من إنتاج “الجزيرة الوثائقية”، مدعومًا بروايات معاصري المذبحة وفاعليها، ومنهم أحد مؤسسي حزب الأمة الماركسي في زنجبار، وهو يحكي عن كتابه “بعيدًا عن الديار” الذي يسرد رحلته من ألمانيا إلى القاهرة ودوره في ثورة عام 1964 (المذبحة)، وكيف تلقى تدريبه العسكري استعدادًا للإطاحة بالحكم العربي في قلب القاهرة، كرّر “القاهرة” مرتين، قبل أن يضيف كوبا لمحل تدريب “الثوار الأفارقة”، وقبل أن تعلم أن الجزائر أيضًا سلحت الأفارقة لقتل السكان العرب، وبالطبع تأسف الرجل لانحراف مهمة الثوار المدربين في كوبا ومصر من الإطاحة بالحكم العربي، إلى القيام بالقتل والاغتصاب..
مذبحة زنجبار التي كتبت النهاية لآخر قلاع العرب في شرق أفريقيا، تحل ذكراها في 19 يناير.. ولا يتبقى من المناسبة المريرة سوى رفات طمسها النسيان، وذكرى خيانة حكام عرب لأرواح 20 ألف عربي بالصمت والدعم والتمويل، وأطلال قلعة عربية تقول: إن أسلافنا مروا ذات يوم من هناك.