مما تعيه الذاكرة أنني رأيت في صغري صورة لرجل مع الكعبة وحده وكنت أتساءل: كيف أمكن إدخال كاميرا إلى الكعبة؟ وأين الطائفون بالبيت؟ ثم عرفت بعد ذلك أن هذه حيلة كانت تقوم بها أستديوهات التصوير تلبية لشوق الناس للكعبة وتسجيلاً لزيارتهم لها.
وتعد زيارة بيت الله الحرام ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم إحدى الأمنيات الغالية لدى ملايين المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وكلما بعدت المسافة وازدادت تكاليف الرحلة؛ ازداد التعلق والشوق.
وتسجيلاً لهذه اللحظة المرتقبة منذ أعوام، يطلب منك أحدهم أن تلتقط له صورة مع الكعبة أو في أحد جوانب البيت الحرام أو مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، أو يفتح اتصالاً مع من يحب لكي ينتقل صوته وصورته من مكانه الذي هو فيه إلى الرحاب الطاهرة لبيت الله الحرام؛ عسى أن ينتقل بلحمه ودمه يوماً ما إلى زيارة الكعبة حاجاً أو معتمراً.
إن للحرمين الشريفين في قلب كل مسلم مكانة لا تضاهيها بقعة على وجه الأرض.
وهما عند الله تعالى من خير البقاع، واللحظات التي يقضيها المسلم في جوار البيت العتيق تستحق منه أن يعمرها بطاعة الله تعالى وذكره وشكره والتفكر في نعمه ومحاسبة النفس والدعاء لنفسه وللمسلمين أحياء وأمواتاً، وتحقيق التعارف مع المسلمين من مختلف بقاع الأرض.
فأين يقع تصوير المسلم لنفسه مع الكعبة أو مع معلم من معالم الحرمين الشريفين من هذه المقاصد؟
إن هذا التصوير كما قلنا هو تخليد لهذه اللحظات، وكان الإنسان من قبل يحتفظ بها في ذاكرته لتمر بخياله بكل ملابساتها كلما ذكر البيت أو العمرة أو الحج، وكان تسجيل هذه اللحظات أيضاً يتم عبر الكتابة، وقد دونت رحلات الحج في كتب الرحلات لتنقل القارئ إلى مكة والمدينة والطريق إليهما.
المقدسات ليست أماكن وأزماناً فقط بل هي قيم عظمى تُصلح دين الناس ودنياهم
هذه اللحظات التي تحتفظ بها الكاميرا لماذا ندونها في ذاكرة الهاتف؟ هل لنتذكر أننا كنا يوماً أقرب إلى أقدس الأماكن ومن ثم نحتفظ لأنفسنا بمكان قريب من المقدسات في الشريعة الإسلامية؟
والمقدسات في الشريعة ليست أماكن وأزماناً فقط، بل مقاصد عظمى جاءت الشريعة للحفاظ عليها؛ وهي حفظ النفس والنسل والمال والعرض والنسب، فتكون مواقفنا متوائمة مع هذه المقدسات صيانة لها واستجابة لتوجيهاتها.
إن المقدسات في الشريعة الإسلامية ليست أماكن وأزماناً فقط، بل هي قيم عظمى تُصلح دين الناس ودنياهم وتحقق الغاية من خلقهم وهي عبادة الله تعالى وعمارة الكون، ومن هذه القيم العدل والرحمة والإحسان والتعاون وما يتفرع عنها من أمهات الفضائل.
هل نطالع هذه الصور حينما نميل قليلاً أو كثيراً عن الصراط المستقيم لنذكر أنفسنا أننا كنا يوماً ما بجوار البيت الحرام لنصحح مسارنا حين نستعيد هذه اللحظات الجليلة؟
هل نتفاخر على غيرنا ممن لم يرزق زيارة هذه البقاع المباركة حينما ينظر إلى هذه الصور ويتحسر على عدم قدرته على جمع تكاليف هذه الرحلة؟
هل يظهر في الصورة مسلمون من أماكن شتى اختلفت ألسنتهم وألوانهم وبلادهم وشاركوك هذه اللحظات السعيدة تتذكر حينما ترجع إلى الصورة هذه الرابطة العظيمة التي ربطت بينك وبينهم فتعتني بما يقلقهم، وتسأل الله تعالى لهم أن ينجيهم من كل ضيق، وتمد يدك بالمساعدة التي يمكنك تقديمها من فكرة تمنع عنهم الكوارث أو مساعدة مالية تكفيهم شر الحاجة، أو إعلام الآخرين بما هم فيه؟ إن تحقيق هذه الصلة الروحية أولاً التي يمكن أن تتطور إلى صلة اجتماعية وثقافية واقتصادية يجلب الخير الكثير للمسلمين، وإن لم نستطع أن نحققها على مستوى الشعوب فلتكن على مستوى الأفراد والأسر، وبذلك نحقق أحد مقاصد العبادات.
نتذكر ونحن ننظر إلى صورنا مع الكعبة من رفع قواعدها، وأين نحن من الحفاظ على قواعد الإسلام التي تتعرض للسخرية كأحد أسلحة التحطيم لها ولمن يعتنقها.
ونتذكر ونحن ننظر إلى صورنا مع الكعبة أننا نعظم ما عظمه الله، فما الكعبة إلا مجموعة من الحجارة، لكن الله تعالى أمرنا أن نتجه إليها في صلاتنا، وأن نطوف حولها إذا زرناها، وفي تعظيم الكعبة تحقيق للعبودية لله تعالى بالطاعة المبصرة التي ترى علم الله تعالى وحكمته وأنه لا يكلف عباده إلا بما فيه خيرهم وسعادتهم، وإن لم يتمكنوا من فهم مراد الله تعالى من التكليف لكنهم يثقون أن في طاعة الله تعالى الخير كل الخير، وقديماً أطاع المسلمون ربهم حين حرم عليهم الخمر دون أن يعلموا ما فيها من أضرار كشف عنها العلم الحديث.
نتذكر ونحن ننظر إلى صورنا مع الكعبة كيف هي مكانتها في قلوبنا، وكيف هي حرمتها، ونتصور أنفسنا كيف لا سمح الله نستقبل خبر العدوان على الكعبة أو نية أحدهم أن يمسها بسوء، كيف ستكون المشاعر الجامحة والتحركات التي هي كالموج الهادر لا يوقفها إلا قطع يد من تسول له نفسه مس الكعبة بالسوء، نتذكر هذه المشاعر ونتذكر معها قول رَسُول اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين نَظَرَ إِلَى الْكَعْبَةِ، وقَالَ: “مَرْحَبًا بِكِ مِنْ بَيْتٍ مَا أَعْظَمَكِ وَأَعْظَمَ حُرْمَتَكِ، وَلَلْمُؤْمِنُ أَعْظَمُ حُرْمَةَ عِنْدَ اللهِ مِنْكِ، إِنَّ اللهَ حَرَّمَ مِنْكِ وَاحِدَةً وَحَرَّمَ مِنَ الْمُؤْمِنِ ثَلَاثًا: دَمَهُ، وَمَالَهُ، وَأَنَ يُظَنَّ بِهِ ظَنَّ السَّوْءِ” (شعب الإيمان)، نتذكر ونحن نسجل لحظات تواجد أبنائنا في حرم الله الآمن وبجوار بيته الحرام أن نحدثهم عن الإسلام ومقدساته ومسيرة البيت الحرام عبر التاريخ وتعظيم شعائر الله وأوامره، ومما يحزن القلب أن تجد الطفل بجوار والديه لاهياً بالتليفون أثناء طريقه لأداء العمرة بل داخل المسجد الحرام وعلى بعد أمتار قليلة من الكعبة يشاهد مقطع فيديو أو يلعب على إحدى الألعاب الإلكترونية كما اعتاد قبل ذهابه إلى البيت الحرام.
المشاعر التي تنتاب المسلم عند زيارته للكعبة لا تستطيع عدسات العالم ولا أقلام الأدباء تسجيلها أو وصفها
لكي تترك هذه الرحلة آثارها في نفوس الكبار والصغار لا بد من التهيئة والإعداد المعرفي والنفسي والإيماني معرفة كيفية أداء العمرة والحج؛ حتى لا يقع في محظور من محظورات الإحرام، والإعداد النفسي الذي يدرب فيه المسلم نفسه على ما هو مُقْدم عليه، وإدراك أن هذه فرصة لملء القلب بنور الإيمان وتنقيته من الشوائب التي تعوق تقدمه على صراط الله المستقيم.
تراجع المرأة ملابسها وكيف تحقق عبوديتها لله تعالى من خلال التزامها بقوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (النور: 31)، ومما يؤسف له أن يغيب الالتزام بهذه الآداب الشرعية في اللباس بالنسبة للمرأة المسلمة، هل لأنها تجهل أن الدين قد ألزم المرأة بلباس الحشمة أو أنها لا تستطيع أن تتخلص من حب الظهور الذي قصم الظهور؟
إن الانشغال بالتقاط الصور عن معايشة هذه اللحظات الشريفة التي منّ الله تعالى بها عليك يدل على غياب الانتباه إلى أوقات سعيت إليها بقلبك ومالك ونفسك ثم تتسرب من بين يديك فيما لا يعود عليك بطائل، ولقد رأيت من يصور امرأة وهي تبكي في خشوع مفسداً لهذه اللحظات الخاصة بين المخلوق والخالق، وحارماً نفسه من تسرب الخشوع إلى قلبه، فلعل رحمة من الله تعالى تنزل على قلبه فتصلحه وتصلح به ويسعد في دنياه وأخراه، فإن المشاعر تنتقل من قلب إلى قلب بشرط الاستعداد.
إن المشاعر التي تنتاب المسلم عندما يزور هذه البقاع لا تستطيع عدسات العالم ولا أقلام الأدباء تسجيلها أو وصفها لأنها من نفحات الله تعالى التي تهب على القلوب.