لقد وضع علماء السُّنَّة شروطاً محكمة لقبول الحديث أو رده من حيث المتن والسند، وقد هال منكري السُّنَّة ما رأوه أو سمعوا عنه من هذه الجهود الجبارة التي قام بها العلماء، وبدلاً من أن يعظموا هذا الجهد، ويتخذوا منه مدخلاً للإقرار بالسُّنَّة، عكسوا الوضع فاتخذوه مسبة قادحة في السُّنَّة، وخطط لهم شيطانهم ليجعلوا الأبيض أسود، والحق باطلاً، فقالوا: إن علماء الحديث اهتموا بنقد السند، وأهملوا نقد المتن، وهو الأهم؟ لأن المعاني في المتون، وليس في الأسانيد(1).
بيان بطلان هذه الشبهة وتفنيدها
لا يخفى على كل ذي لب أن الهدف الذي يسعى هؤلاء للوصول إليه هو الطعن في متون الأحاديث، أي الطعن في كلام النبي صلى الله عليه وسلم نفسه، ثم في أفعاله، ثم في تقريراته على ما وقع في حضرته من أفعال أو أقوال، ومسلك هذا الطعن عندهم أن الأحاديث المروية عن الرسول صلى الله عليه وسلم ما تزال في حاجة إلى نقد وتحليل -كما يزعمون- لأن علماء الحديث لم يقوموا بهذه المهمة، ولم يميزوا بين الحديث السليم، والحديث الدخيل، فلا بد من إعادة النظر فيها لنبقي الصالح منها، ونلغي غير الصالح!
تعريف السُّنَّة عند علماء الحديث
السند هو سلسلة الرواة الذين رووا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمتن هو الكلام المروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويبدأ السند من الراوي الذي سمع الرسول صلى الله عليه وسلم يتحدث بحديث في التبليغ عن الله، ثم الذي سمعه منه ثم الذي سمعه منه وهكذا حتى المنتهى، وقد تكون الرواية رؤية بصرية لفعل فعله النبي صلى الله عليه وسلم، أو سكوتاً منه صلى الله عليه وسلم، عن فعل فعله الصحابي أمامه فلم ينهه عنه، فيكون ذلك السكوت دالاً على إباحة ذلك الفعل لفاعله ولغيره، وهذه هي السُّنَّة بأقسامها الثلاثة:
– الأقوال الصادرة من النبي صلى الله عليه وسلم.
– الأفعال الواقعة منه صلى الله عليه وسلم.
– التقريرات السكوتية عما قيل أو فُعِل في حضرته صلى الله عليه وسلم.
وعلماء الحديث عندما نشطوا لجمع أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعد رغبة الخليفة الراشد عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه في ذلك، وضعوا شروطاً حكيمة لمن تُقبل رواياتهم، ولمن تُرد رواياتهم، وبذلوا في هذا المجال جهوداً مضنية، وفحصوا أحوال الرواة فحصاً دقيقاً، تطمئن إليه النفس ويستريح القلب، كل هذا تم من خلال “علم الجرح والتعديل”، ومعنى الجرح الوقوف على “النقائص” التي تمنع من قبول رواية الرواة ومعنى التعديل الثناء على الرواة الذين تتوفر فيهم شروط قبول الرواية، وعلم الجرح والتعديل، أو الذم والتزكية من أهم علوم الحديث، وأعلاها شأناً، ويُعد مفخرة من مفاخر التراث الإسلامي(2).
واعتناء علماء الحديث بنقد السند نقداً دقيقاً واسعاً، حقيقة لا يماري فيها أحد، وآثارهم تشهد بذلك الاهتمام أما نقد المتن فلم يبلغ عشر معشار نقد السند، وهذه حقيقة، لا يماري فيها أحد كذلك، ففي نقد السند تتبعوا الرواة واحداً واحداً، حتى لكأنهم كانوا يرونهم رأي العين، أما في نقد المتن، فقد وضعوا قواعد كلية ضابطة يمكن بمراعاتها معرفة الحديث المقبول، ومعرفة الحديث المردود، فعلماء الحديث لم يهملوا نقد المتن كلية، بل لهم فيه عمل حكيم محمود، وإن جحده الجاحدون فليس ما تقدم موضع جدل عندنا، وإن كان كلام منكري السُّنَّة يوهم بأن علماء الحديث لم ينقدوا المتون أي نقد، واسعاً أو ضيقاً، لكن هل يؤاخذ علماء الحديث على هذا السلوك؟ وهل عدم التوسع في نقد المتون دليل على أن الأحاديث المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم مكذوبة يجب تركها ونزع الثقة عنها؟!
وفي الرد على هذين السؤالين نقول في إيجاز شديد:
لا يؤاخذ علماء الحديث على توسعهم في نقد الأسانيد، وقلته في نقد المتون، لأن لكل من الأمرين ما يقتضيه؛ لأن النقد الأول موضوعه الرجال الذين تسلسلت الرواية عنهم، وهم لا يحصون عدداً، فالحديث الواحد يكون في سنده عشرة رجال أو أقل أو أكثر ولا بد من فحص كل واحد منهم فإذا فرضنا أن “أ” كتب مصنفاً في الحديث خرَّج فيه ألف حديث، وكان متوسط السند خمسة رواة في كل حديث فمعنى هذا أنه لا بد أن يكون لديه دراية بسيرة خمسة آلاف رجل، وليس هذا بالأمر السهل اليسير، ومعرفة سيرة هؤلاء الرواة كلهم ضرورة لا بد منها لتوثيق الحديث المروي، ومعرفة لقبه: صحيح، حسن، ضعيف، موضوع، مُسند، متصل، مرفوع، موقوف، مقطوع، مرسل، مُعضَل..(3).
ونقد السند هو في حقيقة الأمر خادم لمتن الحديث، ولولا خدمة الحديث نفسه ما كان نقد السند، فالأمران متصلان لا منفصلان، وإن غابت هذه النقطة عن منكري السُّنَّة أجمعين.
نقد السند أولى:
وعلى نقيض ما يدَّعي منكرو السُّنَّة وأعداؤها، من رمى علماء الحديث بالقصور في الاهتمام بنقد السند دون نقد المتن، فإن علماء الحديث كانوا موفقين من الله تعالى في عملهم لأن نقد السند أولى من نقد المتن.
فقد عرفنا أن نقد السند موضوعه أخبار وسيرة الرواة، وهي أمور مخبوءة؛ لأنها أسرار حياتهم وسلوكياتهم، فذكر الراوي في الحديث لا يكشف عن سيرته، ولا يُحدث عن أخباره، فكان تتبع هذه السير والأخبار والأسرار ضرورياً في توثيق الحديث والسنن، ونحن –الآن– إذا قرأنا حديثاً بسنده، وعرفنا أسماء الرواة لا تتضح لنا من أسمائهم أخبارهم وسيرهم التي كانوا عليها وهم أحياء، وكفانا هذا كتب الجرح والتعديل، وما قاله علماء النقد في كل راوٍ منهم، أما متن الحديث فهو يحمل في طياته أخباره ومعانيه، وفي استطاعة أهل العلم أن يعرفوا الحديث المقبول من الحديث المردود بمجرد النظر العابر في معناه ومضمونه، فمثلاً ما يروى في الموضوعات على أنه حديث مثل: “الحديث في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل البهائم الحشيش”(4) ندرك ببديهة النظر أنه مكذوب موضوع لم يقله النبي صلى الله عليه وسلم، ولو كان سنده من أصح الأسانيد: مالك عن نافع عن ابن عمر مثلاً، فالمتن يحمل معه مقتضيات الحكم عليه دون السند، ولو كان علماء الحديث قد عكسوا فتوسعوا في نقد المتن واقتصدوا في نقد السند لكانوا فعلاً أهلاً للمؤاخذة واللوم.
نقد المتون:
جارينا منكري السُّنَّة على أن علماء الحديث تركوا النقد التفصيلي للمتون، بل إن الشائع عند الدارسين من غير منكري السُّنَّة هو هذا القول: علماء الحديث لم ينقدوا المتون نقداً تفصيلياً، بل وضعوا لها أمارات وعلامات كلية، يعرف بها المتن السليم من العليل، لكننا نرى إضافة إلى هذا الفهم، أن علماء الحديث لهم عمل آخر في نقد المتون؛ هو أن الأحاديث المقبول متنها يذكرونها دون إبداء أي ملاحظات عليها، وهذا معناه أن متن هذه الأحاديث برئ من النقد والمؤاخذة، فهو نقد إيجابي صامت كما في البخاري، ومسلم، وأبي داود، والترمذي، والنسائي، أما الأمارات والضوابط التي وضعوها لنقد المتون فهي موضوعة لغير الثقات من جامعي الأحاديث، أي للكتب التي تجمع الأحاديث بدون تمحيص، فهذه الكتب، التي لم تحظ من جامعيها بعناية فائقة، أو ما يروى في كتب التفسير والفقه –أحياناً– فإن هذه القواعد مفيدة لمن يطالع فيها حتى يسهل عليه معرفة ما ليس بحديث.
وبهذا تندفع هذه الشبهة التي هوَّل من شأنها منكرو السُّنة، وقد ظهر لنا بكل وضوح أن ترك نقد المتن ليس معناه بطلان ذلك المتن، أو شيوع الشك في صدقه، فهل يرتدع منكرو السُّنَّة ويثوبون إلى رشدهم(5)؟
____________________________________
(1) انظر: كتاب “هذا بيان للناس.. الشبهات الثلاثون المثارة لإنكار السنة النبوية”، د. عبدالعظيم المطعني، (1/ 107).
(2) للمزيد، انظر: كتاب “علم الجرح والتعديل”، المؤلف: عبدالمنعم السيد نجم، الناشر: الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
(3) الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث لابن كثير، تحقيق: العلامة أحمد محمد شاكر، (1/ 18).
(4) قال الحافظ العراقي: لم أقف له على أصل، قال عبدالوهاب ابن تقي الدين السبكي: لم أجد له إسناداً، وقال الألباني: لا أصل له “تخريج الإحياء” (1/ 136)، “طبقات الشافعية” للسبكي (4/ 145)، “الضعيفة” (4).
(5) أصل هذه الشبهات من كتاب “هذا بيان للناس.. الشبهات الثلاثون المثارة لإنكار السنة النبوية”، د. عبدالعظيم المطعني، مكتبة وهبة، طبعة 1420هـ/ 1999م.