لا نستطيع أن نسترسل في مقدمة تليق بعظمة هذه الشخصية التي خرجت عن الإطار الفردي رغم أنها حالة فريدة من نوعها، شخصية توازي بعملها عمل مؤسسات ضخمة ومراكز أبحاث، تضم النخب من المثقفين والفنيين والإداريين، حتى في عصر التكنولوجيا، فاق عملها نُظم معلوماتية لجهة الدقة والإتقان، هذه الشخصية النموذج الحقيقي والأمثل والأوحد، لشخصية المجاهد في سبيل العلم، الذي به ترتقي الأمم.
كما كنت أشرح في مقالاتٍ سابقة عن أهمية التحقيق وبراعة المحققين خاصة النخب منهم، جلّهم بذلوا سني حياتهم في سبيل هذه الغاية، من بينهم الأستاذ محمد فؤاد عبدالباقي (1882 – 1968)، أول وأبرز مسلم وضع الفهارس الدقيقة لألفاظ القرآن الكريم والأحاديث النبوية، سيد المحققين في جيله بسبب ما أتمه من عمل يتصل اتصالاً وثيقاً بنصوص العقيدة من القرآن الكريم والحديث الشريف، ولا تخلو مكتبة مثقف مسلم من واحد من آثاره التي أفنى حياته في سبيلها، وقل مثل هذا عن المكتبات العامة إذ لا تخلو مكتبة علمية من عدد من مؤلفاته التي تحتل المكانة البارزة في قسم المراجع من أي مكتبة علمية، وهو باختصار شديد العالم الذي لا يستقيم العلم من دون الاستعانة بجهده، وصاحب المؤلفات التي لا تزال تحتل المكان الأول فيما يسميه العلماء مراجع منضدة الكتابة حيث يستحيل على أي باحث مجتهد أن يتم مقالاً علمياً في اللغة أو الأدب من دون الاستعانة بمرجع مما أتمه هذا العالم الجليل الدؤوب مثل المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم أو مع المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي الشريف، أو مع فهارس اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان (البخاري ومسلم)، أو مع تيسير المنفعة بكتابي مفتاح كنوز السنة.
ومن المعروف أن صنع الفهارس لم يكن وليد هذا العصر، وإنما قام به المسلمون منذ القديم وعبر قرون متلاحقة، فمثلاً كتب الرجال برع المسلمون في فهرستها منذ عهد الإمام البخاري وحتى عصرنا الحالي، وأيضاً كتب الجرح والتعديل وكذلك فهرسة المدن والبلاد، مثل “تاريخ بغداد” للخطيب البغدادي الذي خصصنا له مقالاً مطولاً من عدة أجزاء سابقاً، كذلك متون الحديث وتفرعاتها كمضمون ومعاني وألفاظ مشهورة وغير ذلك، وذلك منذ أواخر القرن الأول، حيث تطورت فيما بعد على صعيد الإسناد والمتن، وفي العصر الحديث كان من فرسان هذا الحقل، سيد المحققين محمد فؤاد عبدالباقي، فمن هي هذه الشخصية العظيمة؟ وما منهجها؟ وأين نشأت؟ وعلى يد من تتلمذت؟ وماذا قدمت للأمتين العربية والإسلامية؟
محمد فؤاد عبدالباقي صالح محمد، ولد في قرية ميت حلفا بمحافظة القليوبية في مارس 1882، ونشأ في حي السيدة زينب في العاصمة المصرية القاهرة، وعرف سيد المحققين طريقه مبكراً إلى المكتبة يطالع أسرار كتبها ويستعين بالاطلاع على دراسته وتنمية فكره، ثم التحق بمدرسة الأمريكان في حي الأزبكية (1897) وعمره آنذاك 15 عاماً، ولم يقدر له أن ينتظم في دراسة رسمية مألوفة، بل كان يدرس دراسة حرة حسب هواه ورغبته واستعداده، حيث أصبح مؤهلاً للعمل الجاد في سن مبكرة، وقد ظهرت قدراته العلمية والتنظيمية الفذة بصورة واضحة، وهكذا عمل بالتدريس في بعض المدارس الحرة والمدارس الحكومية، وقد ساعده على ذلك الظهور المتميز ثقافته الواسعة، إلا أن وظيفته كمترجم للغة الفرنسية في البنك الزراعي وظروف استقراره هيأت له استقراره لأن ينصرف إلى القراءة ومطالعة أمهات كتب الأدب في العربية والفرنسية، وبعد أن استقر في البنك الزراعي تفرغ للإنتاج العلمي، وعمل محرراً في مجمع اللغة العربية، وافتتح داراً للنشر الإسلامي مكث يديرها طويلاً، إضافة إلى عضويته في اللجنة الاستشارية للمجامع العلمية للمستشرقين، وانقطع إلى التأليف.
ولا شك بأن العصر الذي نشأ فيه سيد المحققين كان عصر نهضة علمية بامتياز، فلقد كان مولد محمد فؤاد عبدالباقي في وقت الثورة العرابية، الأمر الذي هيأ له أيضاً التقرب من نُخبة العلماء في ذاك العصر الذي كان عصر لا استقرار على الصعيد السياسي، حيث تعرف على الشيخ محمد رشيد رضا، تلميذ الإمام محمد عبده، وراعي حركة الإصلاح من بعده وصاحب مجلة “المنار”، فقد لازم سيد المحققين رشيد رضا حتى مماته، مما فتح له آفاقاً واسعة في العلوم الإسلامية، كما التقى لمحقق الكبير أحمد شاكر فاستفاد من علمه ومنهجيته، وقد كان عبدالباقي يعد رشيد رضا التلميذ الأول للشيخ محمد عبده، وكان من أوائل من سجلوا فضله في معرفة الناس بالشيخ محمد عبده، لأن مجلة “المنار” هي التي نشرت تفسير الإمام وعرفت به، ومذاك انطلق عبدالباقي يخدم السُّنة النبوية في وقت لم تكن تلقى فيه الاهتمام الذي تستحقه، وأبلى بلاءً حسناً، سواء فيما يتصل بتحقيق أمهاتها أو التأليف فيها، أو تخريج أحاديثها، فقام بشرح وفهرسة صحيح مسلم، وموطأ مالك، وسنن ابن ماجه، وأخرجها على أحسن صورة، دقة وتنظيماً وتنسيقا وترقيماً، بما يتفق مع جلال السُّنة، وما تستحقه من عناية، وقد رزق الله تحقيقاته القبول والانتشار بين أهل العلم، من هنا كان للمعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي قصة مهمة، حيث وقع في يد الشيخ رشيد رضا النسخة الإنجليزية من كتاب “مفتاح كنوز السُّنة” لـ فنسنك، أستاذ اللغات الشرقية، والمستشرق الهولندي، (الذي قام برحلات إلى مصر وسورية غيرهما من البلاد العربية، وانصرف للعناية بالأحاديث النبوية، فوضع بالإنجليزية معجماً للألفاظ الواردة في 14 كتاباً من كتب السنن والسيرة ونقله إلى العربية سيد المحققين، محمد فؤاد عبدالباقي وسمّاه “مفتاح كنوز السنة”)، هذا العمل هو “فهرست” معين الباحث في الوصول إلى مكان الحديث في مصادره المشهورة، واستغرقت ترجمة هذا العمل 5 سنوات من العمل الجاد حتى أتمه سيد المحققين سنة 1933، وكم كانت سعادة العلامتين الشيخ رشيد رضا وأحمد شاكر بإنجاز هذا العمل، وإدراك أهميته بحسب المصادر.
إلا أن لمسألة الترجمة حكاية أخرى، فقد أرسل شيخ المحققين رسالة إلى المستشرق الهولندي طالباً منه تصريحاً كونه صاحل المؤلَف، وبالفعل رد الأخير وأرسل له الجزء الأول، لكن عندما اطلع عليه وجد به أخطاء كثيرة، أعاد إرسالها إلى فنسنك الذي سُرَّ كثيراً، العبرة من الحكاية أن هذا المؤلف قام على عمله أكثر من 40 مستشرقاً حول العالم، وشخص واحد صحح لهم، والمعجم المفهرس لألفاظ الحديث، يقوم على إيراد الألفاظ الواردة في الحديث النبوي وترتيبها على حروف المعجم، مع ذكر عبارة من الحديث التي وردت فيه الكلمة، فالمصادر التي اعتمدها فنسنك كانت صحيح البخاري، وصحيح مسلم، وسنن أبي داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، بالإضافة إلى مسند أحمد بن حنبل، وسنن الدارمي، وموطأ مالك، إذ يعتبر هذا الكتاب من الكتب العظيمة التي يسّرت الوصول إلى الأحاديث، من هذه المهنية العالية حظيت مؤلفات سيد المحققين باهتمام كبير مثل “اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان|، حيث إن أعلى درجات صحة الحديث هو ما اتفق عليه الشيخان (مسلم والبخاري) ويجمع الكتاب ألفين وستة أحاديث مرتبة على أبواب الفقه، ولا يقل كتاب “جامع مسانيد صحيح بخاري” أهمية عن سابقه، وهو كتاب يجمع أحاديث كل صحابي أخرج له البخاري على حدة، ورتب أسمائهم حسب الحروف الهجائية كما كان البخاري مرتباً لكتابه على كتب الفقه وأبوابه.
وكما دخل سيد المحققين ميدان فهرسة السُّنة النبوية من باب الترجمة، دخل ميدان فهرسة ألفاظ القرآن الكريم أيضاً من الباب نفسه، فقد ترجم كتاب “تفصيل آيات القرآن الكريم” لـ جول لا بوم عن الفرنسية، لكنه بنظر المحقق عبدالباقي لم يكن كافياً، فرغب بوضع معجم دقيق لألفاظ القرآن الكريم يعين الباحثين في الوصول إلى أي آية كريمة في القرآن إذا استعان بكلمة منها، حيث رتب الكلمات الواردة في القرآن الكريم حسب حروف المعجم مع مراعاة ردها إلى أصولها اللغوية، هذا العمل تطلب منه جهداً كبيراً مستعيناً بكتابه “نجوم القرآن في أطراف القرآن” للمستشرق الألماني فلوجل، معتمداً على معاجم اللغة وتفاسير الأئمة اللغويين، عارضاً ما يجمعه على الثقات من أصدقائه من علماء اللغة حتى يكون عمله مكتملاً خالياً من أي خطأ وذلك من شدة مراجعته الدقيقة، حيث لم تخلُ مكتبة إسلامية من معجمه هذا.
لا شك بأن هذه الشخصية العظيمة ذكراها باقية بحجم سني العمر التي سخرتها لخدمة الأمة الإسلامية، من البحث إلى التصنيف، فالشيخ عبدالباقي أثبت في زمانه وإلى الآن أنه نابغة كل العصور وليس عصره فقط، فالتخصص بالحديث النبوي الشريف ليس بالأمر السهل، كذلك تنسيقها وفهرستها كما أوضحنا آنفاً، فانطلق في خدمة السُّنة النبوية الشريفة وتحقيق أمهات الكتب، والتأليف وتخريج الأحاديث، كان يوصف بأنه صائم الدهر، كما يصفه العلامة خير الدين الزركلي في قاموس “الأعلام”، كان إفطاره يومين في السُّنة كلها هما عيد الفطر، وعيد الأضحى المباركين، وكما رأينا أن سيد المحققين لم ينتظم في مدرسة بسبب ترحال والده الكثير، ربما كانت مدرسته الأوسع والأهم هي مجالس العلم والأدب التي كان ينتظم فيها على امتداد العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي، وكان يشهدها رجال ذوو قامات كبيرة في العلم وفضل نابع في التكوين المعرفي المستند إلى أرضية وطيدة راسخة من تراث العرب والمسلمين، منهم د. عبدالوهاب عزام، وكان حجة في الأدب الفارسي والإبداع المكتوب بالأوردية، ومنهم الأستاذ الأكبر مصطفى عبدالرازق، شيخ الأزهر الأسبق، وخريج السوربون وأستاذ الفلسفة الإسلامية في جامعة فؤاد الأول (القاهرة)، وكما ذكرنا أيضاً الشيخ أحمد محمد شاكر، أحد أفراد الأسرة الشاكرية التي ما زال لها أيادٍ ناصعة البياض على تراث العروبة والإسلام، وكان على رأس هؤلاء رشيد رضا، صاحب تفسير “المنار” الشهير والتلميذ البار للشيخ محمد عبده رأس مدرسة التجديد الإسلامي في العصر الحديث.
لقد كانت حياة سيد المحققين حياة رائعة بصبرها الصابر وتصميمها القادر على التجديد، لقد كان الشيخ عبدالباقي دائم التبتل من أجل الدين في صورة مشرقة مشرفة أقرب إلى الله من كثير من القيام والقعود.
أطال الله في عمر الشيخ وسيد المحققين عبدالباقي حتى بلغ العقد التاسع، لكنه ظل متمتعاً بصحة موفورة، ونشاط لا يعرف الكلل، وحياة منتظمة أعانته في إنتاج الأعمال التي يحتاج إنجازها إلى فريق من الباحثين، وبارك الله فيما كتب، فانتشرت كتبه شرقاً وغرباً، وعم الانتفاع بها، وظل يؤدي رسالته حتى آخر يوم في حياته، لم ينل عبدالباقي من التكريم ما يستحقه، وسطا كثيرون على أعماله مع إعادة إنتاج هذه الأعمال، لكن القراء والباحثين يعرفون فضله وسطوهم، ويعرفون أن كل الجهود في المجالات التي ارتادها ليست إلا عالة عليه، وعلى دأبه وصبره وفهمه ووقته.
لقد كان سيد المحققين مرجعاً لكل باحث وطالب علم، خاصة في الحديث والقرآن الكريم، فلقد رجع إليه عميد الأدب العربي، طه حسين في كتابه “علي وبنوه”، كذلك د. هيكل في كتابه “عن عمر”، وأيضاً العقاد فيما يتعلق بصحيح الأحاديث، وقال شيخ المحققين: “إلى طلاب علوم الرسالة المحمدية من عقائد وعبادات ومعاملات آداب اجتماعية وأخلاق مرضية مصوغة أحسن صياغة في أسمى أسلوب، وفي أعلى طبقة من طبقات البلاغة الإنسانية، فدونكم هذا الكوثر، اكرعوا منه كرعاً حتى تضلعوا، فوالذي نفس جميع الخلائق بيده ما ازددتم منه عبّاً إلا ازددتم لدى الله قرباً”.
كل هذه السيرة العطرة للشيخ عبدالباقي تبين أن فترة القرن الثامن عشر إلى أوائل القرن العشرين، تبين أن تلك الفترة ضمت خيرة المتخصصين في التراث الإسلامي، حيث سخّر الله تبارك وتعالى هؤلاء الناس لتحقيق التراث بما يملكون من قدرة عجيبة لهذه الغاية، فالكتب التي حققها عبدالباقي لكل منها حكاية، وتُعتبر من أهم الكتب الإسلامية، وهذا طبيعي لأن العباقرة لا أحد يستطيع التفوق على إستراتيجيتهم العبقرية، التي هي فقط لخدمة الأمة الإسلامية دون أي مقابل سوى نشر العلم والفائدة في سبيل الله تعالى، وعلى الصعيد الشخصي وبدون مبالغة، سعيد كل السعادة لاختياري هذه الشخصية والحديث عنها، وأتمنى أن نجد طلاب دراسات عليا يتخصصون برسائلهم حول كتب هذا المحقق العظيم وتراثه، فعصر النهضة المصرية كان زاخراً بالعظماء، أتمنى أن يعود هذا العصر كما كان مليئاً بالعلماء الذين لا يمكن لذاكرة مسلم حق أن تنساهم.
____________________
(*) كاتب ومفكر كويتي.