دعا خبراء وأكاديميون إلى ضرورة وضع خريطة للتراث عبر العصور المتعاقبة، تساعد في التعرف على رحلة الكتاب والمكتبات، السعي لتسويق ذخائر تراثنا وحضارتنا.
جاء ذلك في مؤتمر”التراث وترسيخ الهوية” الذي عقدته دار الكتب والوثائق القومية في القاهرة بمشاركة عدد من أساتذة الجامعات والخبراء وبحضور عدد من الإعلاميين والصحفيين.
ففي البداية أكدت الدكتورة مها مظلوم -مديرة مركز تحقيق التراث- أن تاريخ العلم يحتفظ بفخر بسير عدد من العلماء الذين حافظوا على التراث العربي والإسلامي، وساهموا في ترسيخه ونشره عبر العالم ومن هؤلاء “أحمد زكي باشا” الملقب بـ”شيخ العروبة” (1867 – 1934م).
وأوضحت أن أحمد زكي بن إبراهيم بن عبد الله النجار (1867ـ1934م) يعد فارسا من فرسان إحياء التراث العربي الإسلامي في العالم، وفي مصر، وأنه موسوعي كرس حياته لخدمة التراث العربي: جمعًا، وتحقيقًا، وحفظًا، وتعريفًا به في أنحاء العالم شرقًا وغربًا، والمنهج الذي وضعه في التحقيق.
وكذلك ترجماته لما تم تحقيقه على يد بعض المستشرقين؛ حيث عربه وقومه وصححه ليصل إلى الباحثين نقيا سليم الفهم والمعنى، وكان له دوره الريادي في التعريف بكيفية التحقيق للمخطوطات القابعة في مكتبات العالم.
وتابعت د. مها تقول: “وتبرز أهمية التركيز على شخصية أحمد زكي باشا شيخ العروبة في هذه الآونة؛ لأنه كان واسطة العقد بين عصر النهضة في أوروبا، وعصر الترجمة الذي بزغ نجمه في مصر على يد “رفاعة رافع الطهطاوي”، وعصر تحرير الفكر الذي قاده “الشيخ محمد عبده”؛ فكان له الدور الريادي في العودة إلى الجذور في الفكر والأدب مما جعله أحد أعلام النهضة الأدبية في مصر.
وبذلك ساهم في وصول فكر العلماء المسلمين في المجالات التي حقق فيها وهي التاريخ، والأدب، والموضوعات العامة بصورتها الصحيحة للعالم دون تحريف، وقام برحلات كثيرة خارج مصر لحضور مؤتمرات المستشرقين سعيًا وراء تحقيق حلم إحياء التراث العربي، وتحقيقه؛ ومن أجل ذلك جمع التراث من مكتبات العالم وهي مكتبات الآستانة، وأوروبا، والشرق والغرب”.
وأضافت: “يرجع إليه الفضل في التعريف بالتراث العربي القابع في مكتبات العالم مخطوطًا لا يعرف عنه شيء؛ فقد حصل على المخطوطات العربية من روائع التراث العربي المفقود؛ التي حملها الغربيون معهم من الشرق بعد الحروب الصليبية، أو من الأندلس بعد إخراج العرب منها”.
وأوضحت أن هذه المخطوطات التي تعد بالآلاف؛ والتي تم تهريبها إلى الغرب، تجمعت في مكتبات عواصم أوروبا؛ وسبق المستشرقون والباحثون الغربيون إلى تحقيق عدد كبير منها، وطبعها بعد إعداد فهارس مفصلة لها، ودراسات شاملة عن موضوعها ومؤلفها.
ضرورة إحياء التراث العربي المخطوط
وتابعت د. مها مظلوم تقول: “وكان أحمد زكي باشا أول من دعا إلى إحياء التراث العربي المخطوط، وكان حريصًا على أمرين:
الأول: أن تحصل مصر، والعالم العربي، والعالم الإسلامي على المخطوطات العربية التي هي من تراثه أصلا وسرقت منه أو بيعت؛ وكان عمله طوال أربعين عامًا هو استرداد هذه الذخائر.
الثاني: أن يحصل على نفائس الكتب العربية التي طبعها علماء الغرب، والمستشرقون.
القراءة المعاصرة للتراث
من جانبها استعرضت الدكتورة نورا عبد العظيم الباحثة بمركز تحقيق التراث نماذج من أعمال رواد التحقيق بجامعة القاهرة وهم: الدكتور أحمد فؤاد باشا والدكتور كمال البتانوني والدكتور سحر أحمد على فضل الله أستاذ الكيمياء الفيزيائية – كلية العلوم – جامعة القاهرة.
وأوضحت أنه من الضروري القراءة المعاصرة للتراث العلمي والسعي الدؤوب لتطويره وازدهاره من خلال إعادة النظر في الأفكار ونظريات العلم بطرق نقدية موضوعية، لاستحداث نظريات حديثة تتناسب مع العصر وتطوره وتحقق التقدم والرقي لكافة الدول والمجتمعات.
وتابعت تقول: “ويُعد العمل في مجال تحقيق التراث العلمي بغرض إحيائه، أحد الأعمال الصعبة التي تحتاج إلى جهود مضنية تتضمن رصد المخطوطات وجمعها وفهرستها وترميمها وحفظها، ثم العمل على تحقيق نصوصها وتتبع نُسخها والتعرف على محتواها وإزالة الغموض الذي يعتريها، ثم تناولها بالدراسة والتحليل بحثاً عما يمكن أن تَتَضمنه من معلومات قد تفيد أو لا تفيد”.
وأكدت أن التعامل مع الكُتب العلمية التراثية يحتاج أيضاً إلى تلك الجهود للحفاظ عليها والاستفادة منها ولفهم مضمون النص المحقق فهما علمياً معاصراً، تستحق لجدتها أن يبذل فيها الجهد في التحقيق.
تحقيق التراث العلمي ضرورة
وأوضحت د. نورا أن مهارات التفكير الناقد تمارس من أجل التمييز بين الأشياء والمعلومات والحقائق والادعاءات والتأكد من شيء فيه غموض والكشف عن العيوب والمحاسن، وتحليل المعلومات والاستنباط والاستقراء وحل المشكلات.
والمطلوب -حسب الباحثة- التغلب على صعوبة تقييم مهارات التفكير العليا لدى المتعلمين، وذلك بطرح منهج “تحقيق التراث العلمي” واعتباره منهجًا مدروسًا وصالحًا لتلك المهمة ومميزاً لحضاراتنا العريقة؛ حيث إن تحويل مهارات التفكير العليا إلى عادات في عقل المتعلم يستخدمها في جميع مواقف الحياة لا يتم إلا بالتدريب بمواقف محاكاة، وهذا ما نستفيد منه في تحقيق التراث.
جهود د.مشرفة
ومن جانبه تناول الدكتور وليد مبارك المدير التنفيذي لمركز دراسات التراث العلمي بجامعة القاهرة في كلمته “ثقافة د. علي مصطفى مشرفة العلمية وجهوده في إحياء التراث العلمي”، مشيرا إلى أن د.عليّ مصطفى مشرفة (1898م – 1950م) اتصف علمه بالموسوعية والشمول وتعدد مواهبه فقد كان باحثًا حصيفًا ومؤرخًا واعيًا، ومحققًا مُدققًا، وأديبًا ناقدًا.
وتابع يقول: “ويعد علي مصطفي مشرفة أحد كبار أعلام النهضة المصرية والعربية خلال النصف الأول من القرن العشرين، ويُعد أول من قام بتدريس التاريخ الإسلامي في تاريخ الجامعات والمؤسسات الأكاديمية في العالمين العربي والإسلامي؛ إذ تولى تدريس الحضارة الإسلامية في الجامعة المصرية عند افتتاحها سنة 1908م.
وقد أسهم في إحياء الكتب التراثية، وإظهارها للناس، والتعليق على مشتملاتها، بنشر الكتب العلمية المبعثرة في متاحف العالم ومكتباته، وهو من أوائل من عملوا على النهوض بها، خدمة للعلم، وآية ذلك أنهُ عِني بنشر كتاب محمد بن موسى الخوارزمي، في الجبر والمقابلة، عام 1939م وشرحه هو وصديقه د. محمد مرسي أحمد، وعلقَّا عليه وحَلَّلا مسائله بعبارات الاصطلاح الحديث”.
ضرورة حضارية
وأشار د.وليد إلى أن مشرفة من أوائل المصريين القائلين بوجوب إيجاد التعاون العلمي والثقافي فيما بين البلاد العربية بعقد المؤتمرات العلمية العربية، ويحضر المصري والعراقي والشامي والأردني والحجازي والليبي والسوداني واليمني وكل ناطق بالضاد، يكون من أغراضها نشر علم علماء العرب من أمثال الخوارزمي والحسن ابن الهيثم والبيروني وغيرهم من الجهابذة الأعلام.
وأوضح أن د.مشرفة أولى اهتمامًا خاصًا بتنمية التراث العلمي الثقافي من خلال المعارض؛ حيث سعى حتى وافقت الحكومة اللبنانية على إعارة كلية العلوم بالقاهرة معرض تاريخ العلوم عند العرب، كما أسهم في نشر الثقافة العلمية العربية وإثرائها بالعديد من الأحاديث والبرامج الإذاعية المصرية والعربية.
وتابع يقول: “والمتتبع للإنتاج الفكري لـ “مشرفة” يجد أنه احتفى بالخوارزمي عالمًا كبيرًا من علماء الحضارة الإسلامية ولهذا التنبُّه الشديد لقيمة الخوارزمي العلمية بادر إلى إخراج كتابه “الجبر والمقابلة”، وجعله مقررًا للدرس على طلاب كلية العلوم بالجامعة المصرية.
وكان مشرفة يقول: إن أول واجب على مفكرينا وقادة الرأي فينا أن يوجهوا الرأي العام في البلاد العربية صوب الفكرة العلمية، التي تواجه الحقائق وتعنى بالجوهر، وتطلب اللب لا القشور، ونشر الكتب العلمية المبعثرة في متاحف العالم ومكتباته”.
وأشار د. وليد إلى أن د. علي مشرفة حاول أيضًا إبراز الثقافة العلمية في التراث العربي والاهتمام باللغة العربية في كتابه: “العلم والحياة”، فدعا إلى اعتماد اللغة العربية لغةً للعلم والثقافة العلمية، وكان لا يترك فرصة تسنح لخدمة بلاده إلا انتهزها، فأقام معرضًا علميَّا بكليته، سمي “مهرجان العلم”، وسعى كذلك لإعارة معرض الطاقة الذرية لكلية العلوم لدى جمعية علماء الطاقة الذرية بإنجلترا، فأعد قطارًا إعدادًا خاصًا سمي “بالقطار الذري”.
الربط بين الماضي والحاضر
وتناولت مروة الشريف، الباحثة بمركز تحقيق التراث “جهود رواد التحقيق في عقد حلقة الوصل بين الماضي والحاضر” وركزت على “جهود عبد الحميد صبرة” كنموذج، وقالت: “مما لا شك فيه أن الحضارة الإسلامية تعرضت لمحاولات اقتصاص واغتيال من سياقات التاريخ الحضاري العالمي، وكذلك تعرضت الإنجازات العلمية العربية الإسلامية للانتقاص أو الإنكار، وبخاصة في الفلك والطب والهندسة والرياضيات”.
وتابعت: “إلا أنّ الأمر تغير تغيراً كليا بعد الحرب العالمية الثانية على مستوى الدراسات النظرية والتاريخية، كما على مستوى النشرات العلمية للنصوص الطبية والفلكية والرياضية وعلوم النبات والحيوان. وبسبب التقدم في مجال نشر النصوص، حدث تقدم في الدراسات في شتى المجالات، وصولاً إلى إمكان كتابة الموسوعات، وكتابة تاريخ للطب العربي أو للفلك العربي أو لعلم المناظر أو للكيمياء أو الرياضيات… وغيرها”.
وأضافت: “وفي السياق نفسه ما عاد من الممكن تجاهل العلوم العربية باعتبارها جزءاً تكوينياً في الحضارة الإسلامية، وفي الإنجاز العلمي العالمي في الوقت نفسه، وكان التراث العلمي العربي محظوظاً أيضاً من حيث إن القائمين على نشر نصوصه ودراساته بينهم اليوم عدد كبير من العرب والمسلمين ذوي الشهرة العالمية أمثال: عبد الحميد صبره ورشدي راشد وسلمان قطّايه وأحمد سليم سعيدان وأحمد يوسف الحسن وأحمد فؤاد باشا وجورج صليبا وغيرهم”.
وأوضحت أن التراث العلمي والفلسفي والثقافي، العربي الإسلامي، هو اليوم جزء أساسي في تاريخ العلم والثقافة في العالم.
وكان لإسهامات عبد الحميد صبرة في العلوم العربية جُهد لا يخفى على القاصي والداني؛ فقد وضع العديد من المؤلفات والترجمات باللغتين العربية والإنجليزية، فضلا عن تحقيقاته الرائدة في التراث العلمي العربي؛ حيث تُمثل هذه المؤلفات أساسا رصينا لأجيال جديدة من مؤرخي العلم تساعدهم على فهم التراث العلمي العربي فهما صحيحا.
اعتقاد خاطئ
وأشارت الباحثة مروة إلى أن “صبرة” التفت بعد ذلك إلى العلم في العالم العربي، وقضى ما تبقى من عمره في إعادة النظر في مفهوم الثورة العلمية، وتصحيح الظن الخاطئ الذي قد يعتقد أن التطور العلمي نشأة وتطور منبعه غربي.
وتابعت تقول: “وعن إسهاماته في تحقيق التراث فهي متنوعة وقد ترجم بعض الكتب العلمية العربية إلى اللغة الإنجليزية، خاصة كتابات الحسن بن الهيثم، الذي نبغ في القاهرة بجانب اشتغاله بالفلك والرياضيات ونبوغه في علم البصريات، بنزعة تجريبية، وكان لهذه الكتب الفضل في تغيير وتطوير الأفكار المتصلة بالمنهج العلمي في أوربا والعالم أجمع”.
ولفتت الانتباه إلى أن الثقافة العلمية العربية كانت وقتها تشع من أكثر من منبر؛ فقد كانت بغداد التي أسسها المنصور، ثاني الخلفاء العباسيين، أول هذه المراكز، وأنشأ وقتها المأمون أول معهد للدراسات العليا في الإسلام “بيت الحكمة”، وكان هذا المعهد دارا للترجمة ومدرسة للتعليم العالي.
وقبل قيام الدولة العباسية كان الأمويون قد فتحوا إسبانيا، وهناك عملوا على إنشاء حضارة أندلسية، وما إن حل القرن الـ10 حتى أصبحت قرطبة مركزا مهما من مراكز الثقافة الإسلامية.
توصيات المؤتمر:
وفي ختام المؤتمر تم عرض التوصيات التي خرج بها المؤتمرون، وهي:
1- ضرورة وضع خريطة للتراث عبر العصور المتعاقبة، تساعد في التعرف على رحلة الكتاب والمكتبات.
2- السعي لتسويق ذخائر تراثنا وحضارتنا.
3- تصنيف معاجم مختصة بالأعلام المصريين والعرب وإسهاماتهم في المجالات العلمية المختلفة كالنحو واللغة والأدب، أو كل علمٍ على حدة، وكذلك تصنيف معاجم علمية مختصة بالتراث العلمي ومصطلحاته؛ لتكون عُدَّة المحقق.
4- إنشاء مراكز بحثية أكاديمية لدراسة الأدوات والآلات المستخدمة في العلوم التراثية، وعمل نماذج محاكاة لها، أو إقامة متحف لنماذج المحاكاة هذه، مع توفير الميزانية الخاصة لذلك، وتعاون المؤسسات لتحقيق النفع والاستفادة منها.
5- تنظيم دورات تدريبية حول قراءة الخطوط المختلفة عند التحقيق.
6- إصدار بحوث إسهامات العلماء المصريين والعرب في التراث العلمي في كتاب منفصل.