في مشهد مهيب يدل على عظمة الإسلام وقدرته على صناعة الإنسان القائم بحق ربه وحق نفسه وحق الناس من حوله، يسير رجل مئات الأميال ومعه كنز ثمين يسلمه إلى بيت مال المسلمين، يفاجئ من يستلم الكنز بقيمته العظيمة التي تتجاوز الكنوز التي ربحها المسلمون خلال حربهم مع الفرس، ويسألونه: هل أخذت منه شيئاً؟ فيرد الرجل معلماً لهم وللأجيال فقال: أما والله لولا الله ما أتيتكم به.. ما الذي جعله يؤدي هذه الأمانة دون أن يخضع لرغبات نفس أمارة بالسوء؟ هذه النفس التي تميل بصاحبها حتى يأكل الحرام وينسى ما تعلمه من أحكام الشريعة من خلال محاضرات الجامعة أو خطب الجمعة ودروس المسجد، ويقدم ألوف المبررات لضعفه وخضوعه لشهوات النفس وضغط الأولاد وأمهم رغبة أن يكونوا كالناس فقط في طعامهم وشرابهم وكسوتهم وسكنهم، ويغيب عنه وعنهم الآثار المدمرة للحرام على أبدانهم وحالتهم النفسية والاجتماعية، فلا يمكن للحرام أن يقوم مقام الحلال في الإشباع والإرواء وتحقيق الرضا واكتساب الطاقة البدنية والروحية.
بناء الإنسان الأمين
نعود لصاحبنا الذي سار مئات الأميال بكنز ثمين وسلمه إلى بيت مال المسلمين دون أن يأخذ منه شيئاً ولو يسيراً، ودون أن يخبرهم باسمه، مكتفياً بأن تكتب الملائكة له هذه الحسنة، وأن يدون في سجل الأمناء، لقد اكتفى بما عند الله تعالى من أجر وثواب وما عند الله خير وأبقى، ما الذي جعل نفسه المطمئنة تتغلب على نفسه الأمارة بالسوء؟ وكيف نعيد إنتاج هذه النماذج الطيبة التي تصلح الدنيا وتوقف طوفان الفساد الذي يأكل الأخضر واليابس ويعطل عجلة التنمية ويلتهم الموارد ويسبب الفقر والجهل والمرض؟
الطريق إلى ذلك يبدأ بالعودة إلى مصانع الرجال، والمناهج التي تربوا عليها؛ لكي نعيد إنتاج هذه النماذج الطيبة التي تدعو أصحاب الفطر السليمة للالتحاق بها لتتسع دائرة الأمانة وينطلق ركب العمران في العالم الإسلامي.
كلما ازداد نصيب الإنسان من الإيمان ازداد نصيبه من الأمانة
تطالعنا دواوين السُّنة، التي اشتملت على مناهج تربوية كاملة، بحديث أنس بن مالك رضي الله عنه، قَالَ: قَلَّمَا خَطَبَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلا قَالَ: “لا إِيمَانَ لِمَنْ لا أَمَانَةَ لَهُ، وَلا دِينَ لِمَنْ لا عَهْدَ لَهُ” (شرح السُّنة)، هذا الارتباط بين الأمانة والإيمان يحتاج إلى التأكيد عليه في أغلب خطب النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن بالأمانة صلاح دين الإنسان ودنياه، فكلما ازداد نصيب الإنسان من الإيمان ازداد نصيبه من الأمانة، وكلما زادت الأمانة بين الناس اتسع العمران وحصلت الثقة بين أفراد المجتمع، تخيل أنك تذهب للطبيب وأنت لا تثق في أمانته لكن الألم يدفعك دفعاً للذهاب إليه، يصف لك الدواء أو يقرر إجراء عملية جراحية؛ هل ستتعاطى هذا الدواء وتقرر إجراء هذه العملية الجراحية التي أشار عليك بها؟
وإذا استدعيت أحد الفنيين لإصلاح خلل ما بمنزلك، وقرر أن إصلاح هذا الخلل يكلف مبلغاً ما إن لم تثق في أمانته ستتصور أنه يسرقك، وأن بإمكانك أن تصلح هذا الخلل بمبلغ أقل وقطع غيار أجود، وستتصور أنه سيفسد ما جاء لإصلاحه، وهكذا تسود المجتمع موجات من الشكوك والحذر الذي يصل حد الوسواس المعوق لحركة الحياة بأسرها.
الذي حمل هذا الرجل ويحمل غيره على أداء الأمانة نظره إلى الدنيا وإلى الآخرة بمنظار القرآن، فما عند الله خير وأبقى، ومتاع الدنيا قليل، والآخرة خير لمن اتقى، ومن العاقل الذي تعميه لذة حاضرة صغيرة عن لذائذ كبيرة دائمة.
الذي حمل هذا الرجل ويحمل غيره على أداء الأمانة رغبته أن يكون من المؤمنين المفلحين الذين ذكر الله تعالى بعض صفاتهم في مطلع سورة “المؤمنون”: (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ) (المؤمنون: 8)، وقد ذكرت هذه الآية كإحدى صفات المؤمنين المفلحين، وجاءت في سورة “المعارج” وصفاً لأهل السكينة الذين لا يصابون بالهلع حين يفزع الناس، والهلع أشد درجات الخوف، ومؤدي الأمانة مطمئن قلبه.
الذي حمل هذا الرجل ويحمل غيره على أداء الأمانة فراره من بغض الله تعالى للخائنين؛ {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} (الأنفال: 58)، وإذا أبغض الله تعالى شخصاً بغّضه للخلق كافة وحرمه من الاستمتاع بما بين يديه من نعم.
ولعظيم مكانة الأمانة في الإسلام كان لا بد من التربية عليها منذ الصغر، وأن تكون الأسرة كلها أكبر نماذج لأمانة الكلمة وغيرها من ألوان الأمانات.
مفهوم واسع
يتسع مفهوم الأمانة ليشمل المنقولات والمعاني على خلاف ما يعهده بعض الناس، ويقصرون مفهوم الأمانة على مال أو وثيقة تحفظ وتسلم لأصحاب الحق مهما تكلف الأمين من عداوات أو خسائر مادية بسبب حفظه للأمانة.
فالبدن أمانة ينبغي الحفاظ عليها، وما نملكه في أبداننا هو حق الانتفاع بما أودع الله تعالى فيها من نعم، ولا يصح لنا أبداً أن نتلفه أو نضرة بطعام يسبب المرض أو يزيد منه أو بالدخان أو المسكر أو المخدر أو بالعمل الشاق أو بالهم الذي يتلف الأبدان أو بالانفعالات التي تحرق الأعصاب أو بالعمل الشاق الذي لا تتحمله قوانا البدنية.
وأشد ألوان خيانة الجسد والروح حرمانهما من الجنة، فقد أعدها الله تعالى للصالحين من عباده، وبالمعصية نحول بيننا وبين الجنة.
مفهوم الأمانة يتسع ليشمل المنقولات والمعاني على خلاف ما يعهده بعض الناس
والأهل أمانة {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (التحريم: 6)، فواجب على المسلم كما يحفظ نفسه من نار الدنيا وأخطارها أن يحفظ نفسه وأهله مما يجلب غضب الله تعالى وعذابه.
فلا يتركهم فريسة لشياطين الإنس والجن، ولا يتركهم دون معايشة تجعله أقرب الناس إليهم وتمكنه من الاطمئنان على أحوالهم وتعديل ما اعوج منها.
الأمانة والإعلام
إن كثرة الحديث عن الخيانة بأنواعها الأسرية والمالية والوظيفية يهون من شأنها ويفتح الباب لشياطين الإنس والجن لكي يوسوسوا لمن يفكرون بالخيانة قائلين: لست وحدك، يا عزيزي كلهم لصوص، ولعل صياغة الخبر وبيان العقوبة الدنيوية والأخروية وما حدث للخائنين يقلل من آثار انتشار الخيانة.
قد تقول: إن المواقع الإخبارية تعتني أول ما تعتني بالخبر الغريب الذي يلفت الانتباه ويجذب أكبر عدد من القراء وليس من بين أولوياتها أن تعظ الناس وتحضهم على مكارم الأخلاق هذا عمل مؤسسات أخرى، أقول: كل المؤسسات إذا لم تنطلق من منظور قيمي وأخلاقي فهي مؤسسات تتعامل مع الإنسان بعواطفه واهتماماته على أنه سلعة تقدر بثمن بخس أو باهظ، ومؤسسات بهذا المعنى وهذه الغاية لا يمكن أن تقدم للإنسان ما ينفعه أو تحذره مما يضره، وتبقى مسؤولية القارئ الذي ينبغي أن يجبر هذه المؤسسات على احترام قيمه ومشاعره، فكل سلعة لا تجد لها رواجاً تبور وتكسد.
آثار مدمرة
ضياع الأمانة خراب للدين والدنيا، ضياع الأمانة يعني استحلال المال والنفس والعرض، وهذه من كبائر الذنوب يرتكبها الإنسان وهو يعتقد أنها حرام، ثم يبرر لنفسه أكل أموال الناس والاعتداء على الآخرين وأعراضهم، ثم يرى أن ذلك من حقه، بل من واجبه، وأنه إذ لم يكن ذئباً أكلته الذئاب، وقد قيل: المعاصي بريد الكفر، وضياع الأمانة علامة من علامات قرب القيامة، قَالَ صلى الله عليه وسلم: «فَإِذَا ضُيِّعَتِ الأَمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ»، قَالَ: كَيْفَ إِضَاعَتُهَا؟ قَالَ: «إِذَا وُسِّدَ الأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ» (صحيح البخاري)، ضياع الأمانة يعني نشر الخوف وعدم الثقة بين الناس.
إننا نتحدث كثيراً عن ضياع الأمانة ونتشاكى ونتباكى ولا نتحدث عن وجودها ولا نبرز الأمناء وكثير ما هم، إن وجود القدوة الحسنة يشعر الناس أن الدنيا ما زالت بخير، وأن العناصر الطيبة موجودة في كل مجتمع وإن كان لا يتحدث عنها أحد.