رحم الله الإمام العلامة الدكتور الشيخ يوسف القرضاوي، فقد كان من الدعاة النادرين، والعلماء الأفذاذ منذ أن شبّ في موطنه ومسقط رأسه صفط تراب، إحدى قرى مدينة المحلة الكبرى، التي أشرُف بالانتساب لها.
لقد فقدت الأمة الإسلامية أحد أبرز العلماء الذين عاشوا من أجل رفعة الإسلام، والسعي لنصرة قضاياه في كل ميدان، من خلال خطبه التي مارسها منذ صغره، في قريته، وفي مدينة المحلة الكبرى، في مسجد آل طه، بجوار محطة القطار، الذي كان يمتلأ عن آخره، ويمتد إلى الشارع العمومي، وفي المعهد الديني بطنطا قلب محافظة الغربية بمصر، وفي كل مكان يذهب إليه.
العلامة القرضاوي أحد أعلام الإسلام البارزين في العصر الحاضر في العلم والفكر والدعوة والجهاد، في العالم الإسلامي مشرقه ومغربه.
ولا يوجد مسلم معاصر إلا التقى به قارئًا لكتاب من كتبه، أو رسالة، أو مقالة، أو فتوى، أو مستمعًا إلى محاضرة، أو خطبة أو درس أو حديث أو جواب، في جامع أو جامعة، أو ناد، أو إذاعة، أو تلفاز، أو شريط، أو غير ذلك. ولا يقتصر نشاطه في خدمة الإسلام على جانب واحد، أو مجال معين، أو لون خاص بل اتسع نشاطه، وتنوعت جوانبه، وتعددت مجالاته، وترك في كل منها بصمات واضحة تدل عليه، وتشير إليه.
مواقف في صحبة العلامة القرضاوي
منذ أن نشأت في رحاب مدينة المحلة الكبرى، وخصوصًا في المرحلة الثانوية في النصف الأول من الثمانينيات، كنت شغوفًا مثل الكثيرين من المنتسبين للحركة الإسلامية بالاطلاع على كتب فضيلته التي كانت تمثل لنا في هذه المرحلة الزاد العلمي الرصين، والمعرفة بعلوم الإسلام ومباحثه، كما كنا نستمتع بالسماع لخطبه الحماسية التي تشع بالنور والعلم والمعرفة مع اللغة العربية العالية، والأسلوب الذي يؤثر كل من يستمع إليه، فلم يكتف، رحمه الله بالاستدلال بالآيات والأحاديث التي يحسن اختارها، بل كان دائمًا، يستشهد بالمواقف المؤثرة قديمًا وحديثًا، مستلهمًا أبيات من الشعر التي تخدم موضوعه. وفي المجمل يخرج المستمع بوجبة دسمة من العلم والمعرفة والحماس الذي يدفعه للاهتمام بقضايا أمته.
وإن أنسى لا أنسى الموقف المؤثر، الذي لا يزال ينبض في عروقي، حينما كنت في الصف الأول في كلية دار العلوم في العام 1986 بجامعة القاهرة، حيث كان اللقاء في محاضرة عامة لفضيلته بكلية الحقوق، حينما كان الأخ العزيز عصام سلطان رئيسًا لاتحاد الجامعة، فك الله سجنه، وكنت ضمن فريق الكورال الذي ينشد نشيدًا من أشعار فضيلته، بالقصيدة المشهورة التي مطلعها:
مسلمون مسلمون مسلمون … حيث كان الحق والعدل نكون
نرتضي الموت ونأبى أن نهون … في سبيل الله ما أحلى المنون
نحن صممنا وأقسمنا اليمين … أن نعيش أو نموت مسلمين
مستقيمين على الحق المبين … متحدين ضَلال المبطلين
فإذا بفضيلته يلتفت إلينا وينظر نظرة إعجاب، وكان المنشد وقتها زميلنا في نفس الكلية سامي حفني، صاحب الصوت العذب الرقيق.
ومن أهم الكتب التي كانت تأسرني، ولا زالت، وأتشوق لقراءتها دومًا، كتب العلامة القرضاوي، حتى أنني من فضل الله أحتفظ في مكتبتي بأكثر من 100 كتاب من مؤلفاته، ناهيكم عن الاحتفاظ بكل كتبه على هارد دسك ضمن كتب كثيرة وعديدة، فدائمًا كتبه وعلمه وأسلوبه يؤثر في مشاعري كثيرًا، وأظن أن ذلك في كل جيل الصحوة الإسلامية، بداية من منتصف السبعينيات حتى وقتنا الحاضر، ليس في مصر فحسب بل في كل أنحاء المعمورة.
في الدوحة على قناة الجزيرة
قُدر لي أن أكون ضيفًا على قناة الجزيرة الفضائية في الدوحة منذ الخامس والعشرين من شهر يوليو/ تموز 2013م بعد الانقلاب العسكري على المسار الديمقراطي في مصر، للتعبير عن وجهة نظري فيما حدث، محللًا للأحداث التي جرت لمدة أكثر من شهرين. وأثناء وجودي في الدوحة التي استمرت حتى شهر يونيو/ حزيران 2016م، كنت حريصًا على زيارة فضيلته مع بعض الأصدقاء مثل الدكتور محمد الجوادي، والأستاذ وائل قنديل، وأحيانًا أذهب بمفردي، لأستقي من علمه، وأرتشف من توجيهاته.
ومما أثّر في وجداني كثيرًا في إحدى زياراته، وجدته منهمكًا في مجموعة من الكتب وبجواره الصحف اليومية، وإذا بي أنظر إلى الصحيفة لأرى قلمه قد عمل فيها هنا وهناك، هذا الكلام بعد أن تعدى التسعين تقريبًا، فقلت في نفسي كم نحن مقصّرون في السعي للعلم والمعرفة. ومما زادني ألمًا على الأجيال التي لا تهتم بالقراءة والعلم والمعرفة، أن مدير مكتبه الدكتور حسن فوزي، ذكر لي أنه يقرأ كل يوم ما يقرب من 12 ساعة يوميًا.
وكان من عادته، رحمه الله وطيّب ثراه، أنه في كل عام من شهر رمضان يدعو العديد من المحبين والقريبين منه لمأدبة الإفطار، وكنت أنال شرف الحضور في هذه المأدبة كل عام أثناء مكوثي في الدوحة، وفي نهاية الإفطار، كنا نتشوق لكلمته التي يتحدث فيها عن الأحداث الجارية، كأنه السياسي المحنك، والعالم الذي يعرف بواطن الأمور. ولكنه قبل أن يتحدث كان يطلب من بعض الضيوف الحديث قبله، وكان منهم دائمًا المجاهد أبو الوليد خالد مشعل، وغيره من العلماء والدعاة، مثل العلامة محمد حسن ولد الددو، والدكتور طارق سويدان. وكنا نرى في هذه المأدبة كل ألوان الطيف الإسلامي والسياسي، من الموجودين في الدوحة سواء من المقيمين أو الزوار.
وأذكر أثناء ذهابي إلى فضيلته للاطمئنان على صحته في السنوات الأخيرة، وكان أثناء اعتقال ابنته السيدة علا القرضاوي في مصر مع زوجها، فقلت في نفسي لا بد أن أواسيه في هذا الموضوع، فتحدثت ببعض الكلمات، وبعد أن انتهيت، فإذا به يحدثني عن الأمة الإسلامية، والحال التي وصلت إليه، ويحثني وأمثالي على السعي لنشر الإسلام الصحيح، والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، بسلاح العلم والمعرفة.
رحم الله أمامنا العلامة القرضاوي، فقد كان قدوة لكل الدعاة والعاملين للإسلام، ولم يبخل بوقته وعلمه لنصرة دين الله، فكان ولا يزال أنموذجًا فريدًا للمجاهدين بالعلم والمعرفة والبيان للإسلام، بمنهجه الوسطي القويم.
ـــــــــــــــــــــــــــ
نقلاً عن “عربي بوست”.