تعيش أوروبا اليوم 5 تحديات مجتمعة، وهي: نتائج الحرب الروسية على أوكرانيا، وتصاعد موجة أقصى اليمين الذي طرق باب السلطة في كل من السويد وإيطاليا، وما يسمى بالهجرة غير القانونية لحشود الهاربين من جحيم الفقر والبؤس والحرب والظلم عبر البحر المتوسط، وتداعيات جائحة كورونا، وتغيّر المناخ وما يتعلق به من موجة حرائق بسبب ارتفاع درجات الحرارة بشكل غير مسبوق، كل ذلك في ظل تحولات جيوسياسية كبرى.
ولم يسبق لأوروبا أن تعيش ظروفاً اقتصادية وسياسية وإستراتيجية جد صعبة منذ الحرب العالمية الثانية، إذ لم تتعاف بعد من تداعيات جائحة كورونا لتدخل في أجواء متوترة بسبب الهجوم الروسي على أوكرانيا الذي زاد الطين بلة كما يقال.
تداعيات وباء كورونا
ولعل حصيلة جائحة كورونا من حيث الخسائر الاقتصادية والتداعيات الاجتماعية لا يمكن تحديدها في الوقت الحاضر بالنظر إلى كون الجائحة ما زالت منتشرة والحديث اليوم عن موجة ثامنة وتاسعة.
ومن أهم النتائج البارزة تغيير منظومة العمل، بحيث لجأت الكثير من الشركات إلى السماح لموظفيها بالعمل في بيوتهم مما تسبب في نتائج سلبية من حيث مردودية الإنتاج، علاوة على ارتفاع نسبة البطالة بسبب إفلاس بعض الشركات واضطرارها لتسريح عدد من العمال؛ وهو ما يعني إغراق كاهل الدولة بالمساعدات الاجتماعية لأناس فقدوا مورد العيش، أما المجال الثاني الذي تضرر من جائحة كورونا فهو القطاع الصحي من مستشفيات وخدمات صحية شهدت عموماً تراجعاً بسبب الضغط الكبير غير المسبوق على المؤسسات الطبية طوال فترات انتشار الوباء، والآن بدأت تتعافى تدريجياً بعد مرور أوج الجائحة.
الحرب على أوكرانيا أربكت المنظومة الغربية الأوروبية على كل المستويات
تهديد خطير من الشرق
لكن الحرب الروسية على أوكرانيا أربكت المنظومة الغربية الأوروبية على كل المستويات، والتخوفات متنامية من تعقد الوضع في ظل إصرار بوتين على حربه بل التصعيد في الخطاب عبد التهديد باستخدام السلاح النووي، الإشكال أن أوروبا تشعر بالورطة الكبرى، وبأنها أُقحمت في حرب بالوكالة عن الولايات المتحدة، فليس لها خيار سوى اتباع الإستراتيجية الأمريكية التي باتت تستهدف الرئيس بوتين ونظامه بالتركيز على محاسبة مسؤولي جرائم الحرب، والمراهنة على انقلاب الرأي العام الروسي على بوتين.
بيد أن الأوروبيين يدركون أن للحرب هذه ضريبة باهظة، وهم ينخرطون -مُكره أخاك لا بطل- في عملية تضامن كامل مع أوكرانيا بما يعني مزيداً من تسليح الجيش الأوكراني، ذلك أن من تداعيات هذا التضامن حالة مستمرة ومتصاعدة من الاستنزاف الاقتصادي، ومن مخاطر استهداف بوتين المباشر لأوروبا والتضييق على موارد الطاقة الحيوية لديها.
الأمن الغذائي إلى متى؟
وما زاد الأمر تعقيداً التسرّبات والانفجارات في أنبوب الغاز “نورد ستريم”، وعواقبها الوخيمة المتمثلة في الكارثة البيئية المتوقعة بسبب انتشار مادة الميثان في البحر والجو، وهي أشد خطورة بكثير من مادة أوكسيد الكربون، خاصة إذا وضعنا في الاعتبار موجة الحرائق التي شهدتها بعض بلدان أوروبا في الصيف الماضي بسبب ارتفاع درجات الحرارة بشكل غير مسبوق، فهذه التغيّرات المناخية تنذر بموجة من الجفاف وشح في الموارد المائية في السنوات القادمة، التي ستكون لها انعكاسات هائلة على طاقة الإنتاج الفلاحي في ظل أزمة الحبوب التي تسببت فيها الحرب على أوكرانيا، وإن كانت أوروبا تمكنت إلى حد كبير من توفير نوع من الأمن الغذائي لشعوبها لقدرتها -مقارنة بالدول الفقيرة- على شراء حاجياتها الاستهلاكية، ولكن ما هو الضامن في استمرار حالة الاستقرار هذه على مستوى الأمن الغذائي إذا اجتمع تحديان؛ اتجاه أوروبا إلى شبه قطيعة مع نظام بوتين بسبب التهديدات الأمنية القادمة من شرق أوروبا، وارتفاع موجة الجفاف؟
حاجة أوروبا إلى حلول دبلوماسية وإستراتيجية بما يخدم مصالحها في علاقتها مع بلدان محورية
العقلية المصلحية
في هذا السياق، تتأكد يوماً بعد يوم حاجة أوروبا إلى حلول دبلوماسية وإستراتيجية -بما يخدم مصالحها- في علاقتها مع بلدان محورية في تزويدها بالطاقة وربما بالموارد الفلاحية، وأغلب هذه البلدان تقع في حوض المتوسط شرقاً وجنوباً وفي منطقة الشرق الأوسط، وينتمي جلها إلى منظومة البلدان العربية الإسلامية مثل قطر والجزائر بالنسبة للطاقة.
ولعل زيارة الرئيس الفرنسي ماكرون إلى الجزائر تأتي في هذا السياق لإذابة الجليد في العلاقات الدبلوماسية بين البلدين ومحاولة إشعار الطرف الجزائري بأن فرنسا تريد فتح صفحة جديدة في هذه العلاقات تسير في اتجاه التعاون على أساس نوع من الندّية بعيدا عن الأسلوب القديم المتأثر بنزعة تفوق موروثة من الحقبة الاستعمارية، دون تقديم اعتذارات عن هذه الحقبة ومآسيها، وهو ما يفسّر ثقل الموروث التاريخي، وإعطاء الأولوية في هذه العلاقات إلى التبادلات الاقتصادية، يكون الطرف الفرنسي الأوروبي المستفيد الأول منها.
توظيف سياسي للهجرة
اللافت للنظر أن أوروبا تبحث عن مصالحها بالدرجة الأولى ولا يهمها إجمالاً مصالح شعوب البلدان جنوب البحر المتوسط والشرق الأوسط وأفريقيا، والنتيجة موجة من الهجرة غير القانونية لحشود الهاربين من جحيم الفقر والبؤس والحرب والظلم عبر البحر المتوسط، على قوارب الموت كما تسمى بسبب ارتفاع حوادث الغرق في صفوف هؤلاء اللاجئين إلى أوروبا.
وبدل المطالبة بمراجعات في السياسة الأوروبية على مستوى العلاقة مع أنظمة تحتكر المال والسلطة في أغلب الحالات، ترتفع أصوات من أحزاب اليمين المتطرف أساساً لتقول: إن أوروبا ليست ملجأ لهؤلاء المهاجرين الذين يجب طردهم وإغلاق الحدود وتشفع هذه المطالب بخطاب كراهية للإسلام والمسلمين، والحديث عن مخطط لأسلمة أوروبا وتغيير هويتها المسيحية، وتجد هذه الأحزاب بخطابها الشعبوي مصداقية أوصلت بعضها إلى سدة الحكم كما حصل في السويد وإيطاليا وليس غريباً فرنسا أيضاً في الدورة الانتخابية القادمة، ولعل تمكّن اليمين المتطرف تدريجياً من سلطة القرار في أوروبا يمثل أهم التحديات البارزة لمستقبل أوروبا التي تقف اليوم على مفترق طرق حاسم.