كثير من الإنجازات البشرية التي حصلت على مرّ التاريخ، في مختلف المجالات التي يتنافس فيها الإنسان مع قدرته وحدوده، كان لـ”الصدفة” فيها دور كبير، لكنّ عملية “نفق الحرية” ليست منها.
فلا يمكن إهمال حقيقة أنّ مجموعة عوامل واقعية وخيارات بشرية، أدّت إلى هذا الإنجاز المدهش، الذي أوقف كيان الاحتلال في موقف الذلّ والإحراج، فضلاً عن موقف الاستنفار الأمني الأكبر في تاريخه بحثاً عن مجموعة أسرى وصفها إعلاميوه وخبراؤه ومحللوه الأمنيون والعسكريون بأنهم سيغدون “أبطالاً” في نظر شعبهم.
في الغرفة الخامسة من القسم الثاني في سجن “جلبوع” العسكري شديد الحراسة، حصل خرق عند العقل الأمني “الإسرائيلي” الذي يدير السجون العسكرية، بشكل لا يمكن تبريره إلا بأنه فشل حقيقي في تقدير حجم الخبرات والإرادات والقوة المعنوية الدافعة التي يمتلكها الإنسان الفلسطيني، ألا وهو قرار وضع مجموعة مقاومين أسرى بمواصفات “خارقة”، في القسم نفسه، وعلى مدى أشهر طويلة.
كان كلّ من محمود العارضة وزكريا الزبيدي ومحمد العارضة وأيهم كممجي ويعقوب القادري ومناضل انفيعات مدرسة بحدّ ذاته، وأهل دراية وفهم ونظرية في علوم وخبرات عدة وفي مجالات شتى.
كان هؤلاء الستة، ومعهم الخمسة الذين أعانوهم على مشروعهم الكبير، يتحدّون أولاً عقل الاحتلال ومنظومته الأمنية ويستهدفون ثقته بنفسه وثقة المستوطنين بقياداتهم وجيشهم وأمنهم وحكومتهم.
خبرات واسعة جمعتها
وبطبيعة الحال، يحتاج العمل الأمني الناجح إلى شروط صعبة وخبرات واسعة وتجربة عميقة، كانت متوافرة بشكل كبير واحترافي لدى معظم أعضاء مجموعة نفق الحرية، وما نقص في أحدهم وجد في آخر، فتشكّلت ملامح مجموعة أمنية “خارقة” تامّة العناصر.
فقد كان محمود العارضة قائداً حقيقياً، ليس فقط منذ ريعان شبابه حينما انضمّ إلى مجموعات الفهد الأسود في فتح، بل منذ توليه تدبير أمور منزله والإمساك بزمام أموره قبل ذلك، وكان فلاحاً يفقه لغة الأرض ويرتاح إلى خشونتها كما ترتاح إلى عزم يديه، فلا يرى الإسمنت حاجزاً كما يراه غيره، بل يرى أنّه يستطيع أن “يحرثه” بواسطة مسمار حديدي كما كان يحرث التراب بسكة الحديد مع المزارعين من أفراد عائلته وأقاربه.
وإذا لم تنجح محاولته الأولى للتحرر سنة 2014، وقبلها مرات، فلا مانع من إعادة التجربة مع الاستفادة من الماضي لمحاولة تصحيح الخطة والتنفيذ، فهذا انعكاس لإيمان الفلاح بأرضه كما لإيمان القائد العسكري والأمني بقدراته ومشروعه وعناصره.
أما أيهم كممجي، فيكفي أنه اختار يوماً أن يتوجه لتنفيذ عملية فدائية، ولكن حال بينه وبين غايته تعطّل سيارته. تاريخه المقاوم ومطاردات الاحتلال له عقب ذلك ووضعه على لائحة الاغتيالات لم يجعله يتحوّل إلى الدفاع والاختباء، بل جعله يقدم على عملية اغتيال لأحد الضباط الطيارين العسكريين في جيش الاحتلال، وينتقم لاستشهاد أحد رفاقه في المقاومة بإطلاق النار على حافلة للصهاينة، وغيرها.
وكان زكريا الزبيدي قائد كتائب شهداء الأقصى في مخيم جنين، اكتسب خبرته الأمنية الواسعة نتيجة سنين من المطاردات من قبل أجهزة الأمن والاستخبارات، وسنين من التخطيط للعلميات الفدائية والأمنية ضدّ قوات الاحتلال في السرّ والخفاء. وهكذا كان المقاومون الآخرون محمد ومناضل ويعقوب، أصحاب خبرات وتاريخ في العمل المقاوم في مجالات متعددة.
اتحاد الخبرات احتاج إلى وحدة دوافع وإرادت
ولكنّ الخبرات وحدها لا تكفي، ففي عمل يتضمن هذا المستوى من الضغط النفسي والجسدي والخطر المحدق من جميع الجهات في بيئة هي بكل المقاييس الأمنية “حمراء” أي أنها تقع تماماً بيد العدو، ويستطيع أن يفعل فيها ما يشاء متى يشاء، يحتاج الأمر إلى أكثر من اتحاد خبرات، وهنا ظهر جانب آخر من البطولة الحقيقية.
فقد كان الأسرى يتشاركون ميزةً جعلت هذه الخبرات قابلة لأن تتّحد ضمن وحدة منسجمة، وتعمل بشكل فعال خلال هذه الظروف “المستحيلة”، كانوا جميعهم ينتمون إلى تاريخ مشترك يملؤه النضال والتحدي من جهة، والمعاناة من جرائم الاحتلال المستمرة ضده من جهة أخرى، أساسه في مخيم جنين.
يشكّل التاريخ المشترك لجماعة ما هويةً قابلة للاستنهاض عند أي استحقاق يفرض نفسه ويحتاج إلى تعاون وتكامل وتضحية، لا سيما عندما تكون هذه الهوية الجامعة مهددة، وهو ما توفرت عناصره في مجموعة نفق الحرية. فبانتماء الأبطال الستة للمخيم المقاوم، كانت الاختلافات التنظيمية والخلافات التي فرّقت العديد من المقاومين خارج المعتقل بعيدةً عن التأثير على هويتهم المشتركة، فهم فلسطينيون وأبناء مقاومة مخيم جنين وأبناء تضحياته وآلام أهله من الاحتلال قبل أن يكونوا أبناء تنظيم سياسي أو فصيل مقاوم.
مخيم جنين الذي لم يتوقف يوماً عن توليد الطاقات المقاومة والشخصيات النضالية الشابة، ولم يدخل حتى اليوم في دوامة التسويات وقبول المعادلات التي يسعى العدو لفرضها بالرغم من التضحيات والدماء التي قدمها، منذ 1953 وحتى أمس القريب مع عمليات تصدي شباب المخيم لهجمات قوات الاحتلال الخاصة وإمطار قواته بالرصاص كلما حاولوا التقدم داخله، كان عنصراً أساسياً من عناصر تشكّل وحدة الدافع عند أبطال نفق الحرية.
فمن زكريا الزبيدي الذي استشهدت والدته في مجزرة المخيم عام 2002 بنيران قناص “إسرائيلي”، ومنذ 1988 كان يتناوب هو وأخوته على سجون الاحتلال فلا يخرج أحد إلا واعتقل الاحتلال أخاه. إلى محمود العارضة، الذي حرمه الاحتلال توديع والدته وتوفيت وهو في السجن، فكتب لها في رسالته “بعد التحية والسلام، حاولت المجيء لأعانقك يا أمي قبل أن تغادري الدنيا، لكن الله قدّر لنا غير ذلك”.
إلى محمد المحكوم بـ3 مؤبدات، ويعقوب المحكوم بـ3 مؤبدات، وأيهم المحكوم بالمؤبد، ومناضل الذي كان ينتظر الإفراج عنه ليعود إلى المشاركة في عمليات المقاومة ليعود إلى الأسر، كلّها مشاهد تظهر حجم التحدي والإرادة والرغبة المستميتة في كسر إرادة العدو وأوهامه عن أنّ احتلال فلسطين يمكن أن يصبح يوماً ما أمراً طبيعياً عند أهلها.
أدّت العوامل الواقعية هذه مجتمعةً، إضافة إلى أخرى لم يسع المجال لذكرها، إلى تشكّل هذه المجموعة ذات المواصفات الخاصة، والتي كانت حقاً مجموعةً تمتلك من الخبرات المتكاملة والدوافع المشتركة والإرادات الموحدة ما يجعلها تتفوق على عقل الاحتلال، وتكشف عورة منظوماته الأمنية والاستخباراتية والتحليلية.
وفي هذا المقام، يرى البعض أن إعادة الإمساك بالأسرى الأبطال بعد تحرّرهم، كان سبباً أكبر لتوجيه الأنظار إلى حقيقة الإنجاز الذي قاموا به ومعناه وأبعاده، وإلى أثره البعيد في نفوس الشباب الفلسطيني والعربي وقلوب المقاومين الذين كانوا يتعرّضون كلّ يومٍ إلى أخبار التطبيع والخيانة والتخلي عن القضية من قبل أطراف سياسية ورسمية عربية لطالما اعتبروها ظهراً للمقاومة.
فالإنجاز لم يتوقف على خروج أجسادهم من فتحة النفق الضيقة، بل في أنّ ما قاموا به أخرج المقاومة الشعبية الفلسطينية من “حفرة” ضيقة الإمكانات وسط التضييق الأمني والعسكري والاستخباري، إلى أفق العمل الشعبي الواسع والمقاوم، باستعمال كلّ الإمكانات المتوفّرة، وضمن إدارة ذكية وتخطيط بعيد وبالاعتماد على الخبرات المختلفة، وفي إطار إرادات موحدة تتمثل في كسر إرادة الاحتلال وعنجهيته وإظهار ضعفه وهشاشة أساطيره.