إن الظروف التي يعيشها عالمنا العربي اليوم من ثورات وأوضاع اقتصادية صعبة على بعض الدول، بسبب ما أفسدته الحكومات التي جعلت شعوبها تعاني، هذه المآسي ذكّرتنا بالعقود الأُولَى من القرن الماضي، عندما مضى الحكام والمسؤولين إلى ما مضوا إليه من الفساد والاستبداد والانعزال عن الناس، وكشف العلمانيون عن وجههم فجرّدوا أقلامهم في الصحف والمجلات لمحاربة الإسلام والشريعة، وصار الإسلام إلى غربة، جرّاء استهدافه بقوة حيث كان المُراد من ذلك تحطيم المسلمين بتحطيم قيَم الإسلام.
ولمواجهة هذا المشروع الخطير، برز رجال هم من خيرة رجال هذه الأمة، لم يتوانوا عن مساندة الحق والانتصار للإسلام، منهم من دفع الغالي والنفيس في سبيل هذه القضية وكان الثمن حياته، لأن المتعاونين مع المستعمر كثر، يريدون تشويه الحقائق وطمس الهوية الإسلامية بحجة الانفتاح والتطور والحريات، لكن مع وجود الأخيار لن تخمد شعلة الإسلام طالما هناك من يهبون أنفسهم نصرةً لله تبارك وتعالى ونصرةً للدين الإسلامي.
ومن بين هؤلاء الرجال، الشيخ محب الدين الخطيب الذي كان من أبرز رجال تلك الحقبة؛ فقد تنقل من بلد إلى بلد ينشد الإصلاح، ولم يكف قلمه عن كشف فساد الحكومات، ومؤامرات العلمانيين، وضلال المنحرفين، ولم يتناهَ إلى سمعه نهوض مشروع عربي إسلامي بحق إلا وبادر بمساندته والدعوة إليه، فمن يكون هذا الشيخ وما هو منهجه وهل نجح حقاً في الدفاع عن قضاياه؟ في هذا المقال الذي وبكل شفافية لن يوفي حق هذا الشيخ بل هو وكما أقول دائماً ومضة دافئة من غيور ومحب لبلاده ودينه الإسلامي، عسى أن تضيء هذه الومضة في يوم من الأيام وتفتح بصيرة كل من ابتعد عن دينه واستبدله بما هو بالٍ ورث أياً كانت المغريات التي وصل لها.
الشيخ محب الدين الخطيب، محقـق وكاتب الإسلامي كبير، أبو قصي محب الدين بن أبي الفتح محمد بن عبد القادر بن صالح بن عبد الرحيم بن محمد الخطيب الحسيني، ولد في حي “القيمرية” بدمشق (1305هـ) لأسرة عريقة أصيلة النسب تتصل بعبد القادر الجيلاني رحمه الله، درس الخطيب في مدرسة الترقي النموذجية المجاورة للمكتبة الظاهرية بدمشق، حيث كان والده أميناً للمكتبة، ثم التحق بمدرسة عنبر إلى أن توفي والده وخرج منها، لكنه لازم دروس العلماء حتى التقى بالشيخ العلامة طاهر الجزائري (لشيخ طاهر بن صالح بن أحمد بن موهوب السمعوني الجزائري، سوري الجنسية ومن أكابر العلماء باللغة والأدب في عصره 1852) وكانت له صداقة بأبيه، فاحتواه وربّاه وعلَّمه وبث فيه حب الدعوة الإسلامية، يقول الخطيب عن ذلك: (مِن هذا الشيخ الحكيم عرفت عروبتي وإسلامي، منه عرفت أن المعدن الصدِئ الآن الذي برأ الله منه في الدهر الأول أصول العروبة، ثم تخيرها ظئراً للإسلام؛ إنما هو معدن كريم لم يبرأ الله أمة في الأرض تُدانيه في أصالته وسلامته وصلابته وعظيم استعداده للحق).
وعلى سبيل المثال، كان يجلب الشيخ الجزائري المخطوطات ويجعل الشيخ الخطيب يكتبها ليزيد في علمه، وينمّي مداركه، ويشغل وقته، وينتفع بأجر النسخ، ثم إنه وجهه مرة أخرى إلى الالتحاق بمكتب عنبر، وأرشده إلى التردد على مدرسة (عبد الله باشا العظم)؛ حيث كانت للشيوخ: أحمد النويلاتي، جمال الدين القاسمي، محمد علي مسلم، طاهر الجزائري، غرف بتلك المدرسة، وبالفعل كان يتردد عليهم، فقرأ على الشيخ أحمد النويلاتي، شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك، وحفظ بتلقينه مقامات مِن كتاب أطواق الذهب للإمام الزمخشري، وقد تعلم منه الزهد والانشغال بالعلم عن الناس، وكان الخطيب في هذه الفترة يكتب بعض المقالات العلمية والقطع الأدبية؛ يُعرّبها عن اللغة التركية ويرسل بما يترجمه وما يكتبه إلى مجلة (ثمرات الفنون) في بيروت، ولما كان في السنة السادسة بمكتب عنبر، وشى به أحد المدرسين إذ شاهد معه كتباً لا تتفق وأفكاره، فأحال الأمر إلى إدارة المدرسة التي اضطهدته! وهو ما اضطره للرحيل إلى بيروت لاستكمال دراسته وقد انتقل معه عدد من الطلاب؛ إذ كان للخطيب نشاطه الأدبي الذي استمر يبذله في بيروت حتى أتم دراسته.
وبعد إتمام الخطيب دراسته سافر إلى إسطنبول التركية والتحق هناك بكليتي الحقوق والآداب، وهناك التقى بمجموعة من الطلاب العرب الذين كانوا يدرسون في تركيا ورأى منهم جهلاً بقواعد اللغة العربية فضلاً عن آدابها وثقافتها، وتلاحظ له انهيار شخصياتهم، وذوبانهم في غيرهم وتزلُّفهم إلى غير العربية، فاتفق مع صديقه الأمير عارف الشهابي أن يعلما هؤلاء الشباب، ثم أسس من أجل ذلك جمعية (النهضة العربية) لتعليم الطلاب العربية وآدابها وثقافتها، وتذكيرهم بأصالتهم وبدورهم القيادي، وكان يحضر الصحف العربية إلى هؤلاء الطلاب عن طريق صديقه الأستاذ محمد كرد علي الذي كان يرسلها له بالبريد، واشتد نشاطه وأخذ يعقد الاجتماعات ويلقي الخُطَب والمحاضرات، حتى شعرت به السلطات التركية ففتشت مسكنه ووجَّهت إليه التحذيرات، فاضطر إلى تقليص نشاطه والاكتفاء بالدراسة بكلية الحقوق والانقطاع عن الدراسة بكلية الآداب لعدم قدرته الجمع بينهما مع نشاطه في الجمعية، وبعد عامين من دراسته عاد إلى دمشق وافتتح فرعاً لجمعية النهضة العربية فيها، لكنه بقي ملازماً مكانه لأن الأخبار كانت تقول: إن رفاقه في تركيا تعرضوا لمضايقات، فلم يذهب مرة أخرى، حتى طلبت القنصلية البريطانية باليمن إلى القنصلية في دمشق أن تختار لها شاباً يتقن العربية والتركية، وأن يكون له إلمام بالقوانين العثمانية وشؤون القضاء لحضور جلسات المحاكم عندما تكون لأحد رعايا القنصلية قضية بها؛ لمتابعة سيرها، فوقع الاختيار على الخطيب، لكن قبل سفره مرَّ بمصر ليلتقي شيخه الشيخ طاهر الجزائري وصديقه محمد كرد علي، وهناك التقى بأركان جمعية (الشورى العثمانية) وكان منهم: عبد الله جودت (الأديب التركي) ورفيق العظم والأستاذ رشيد رضا وآخرون، وذكروا له أمر جمعيتهم وأنهم يرغبون في توسيع نشاطها داخل البلاد العربية، وكتبوا له تفويضاً في أن يتخير للجمعية باليمن الرجال الصالحين، وبالفعل ما لبث أن استقرت إقامته باليمن حتى أنشأ فرعاً لجمعية الشورى العثمانية بها، واختار لرئاستها قائد الحديدة البكباشي شوقي المؤيد العظم، كما اختار لعضويتها جمعاً من الضباط، ومع ذلك واصل كتاباته إلى دمشق وإسطنبول والقاهرة متعهداً جمعية النهضة العربية.
ولما تأسس في القاهرة حزب (اللامركزية العثماني) برئاسة رفيق العظم، انضم الخطيب له، وعندما تأسس في بيروت ثم في باريس جمعية (العربية الفتاة) كان الخطيب يمثلها بمصر وينفذ قراراتها التي لها علاقة بحزب اللامركزية، وفي وقت معاصر كانت جمعية الشورى العثمانية التي كان يمثلها الخطيب في اليمن قد تحولت إلى جمعية (الاتحاد والترقي)، وبحسب المصادر أن الخطيب انخدع في البداية، كغيره من أعلام هذه الحقبة، بشعارات هذه المؤسسات ودعواتهم الإصلاحية كما صرح بذلك في أكثر من موضع، وقد تكشف له وللأستاذ رشيد رضا، أهداف هذه المؤسسات بعدما خلعت جمعية الاتحاد والترقي السلطان عبد الحميد رحمه الله، وأخذ الأستاذ رشيد رضا يهاجم زعماءها ويكشف أهدافهم، وفي ذلك يقول الخطيب في مقال (السيد رشيد رضا) المنشور بصحيفة الفتح: (إني أُقِر بكل صدق بأني وجميع من استعنت بهم وتعاونت معهم من رجالات العرب وشبابهم لم يخطر على بالنا الانفصال عن الدولة العثمانية؛ لا لأن الاستقلال عن دولة ضعيفة مريضة أمر مكروه، ولكن لعلمنا أن تمرُّن الشعوب على أخلاق السيادة يحتاج إلى وقت..)، ولعل هذا ما حدا بالأستاذ رشيد رضا أن يؤسس مدرسة (الدعوة والإرشاد)، واختياره الخطيب ليشاركه في التدريس بها، كما حدا بالأخير إلى عدم المشاركة في أي من أعمال جمعية الاتحاد والترقي وجمعية العربية الفتاة وحزب اللامركزية العثماني، وذلك بعد عودته إلى القاهرة كما صرح بذلك الدكتور محمد عبد الرحمن برج في كتابه (محب الدين الخطيب ودوره في الحركة العربية) قائلاً: (ولا يُعْلَم للخطيب أي دور بعد عودته للقاهرة)، يقصد في أعمال هذه المؤسسات، بل سعى الخطيب إلى تأسيس (المكتبة السلفية ومطبعتها) وجمعية (الشبان المسلمين) التي كانت تُعنَى بنشر مبادئ الإسلام ومحاربة الإلحاد.
هذا أمر طبيعي وموجود في كل المجتمعات، ولعل اسمها الصريح اليوم (المعارضة) التي تحمل برنامجاً إصلاحياً شاملاً أراد من خلال ذلك تهذيب المجتمعات والنهوض بها، لكنها دائماً ما كانت تصطدم بأطماع السلطات وأحقاد الواشين، فكل من حمل هذا اللواء تعرض للسجن أو التعذيب وحتى الإعدام، وكنا قد ذكرنا عن نماذج مشابهة إن كان سيد قطب، أو الإمام حسن البنا، ومحمد باقر الصدر، وغيرهم الكثير، الشيخ الخطيب هو أساس متين لهذه المدارس التي حملت لواء الدفاع عن الأمة الإسلامية ومن الطبيعي أن يتعرض لمضايقات كثيرة، حاله كحال ممن سبقه ومن أتى بعده، فالشيخ محب الدين الخطيب، محقق تراث جمع بين الصحوة القومية وبين الدعوة والصحوة الإسلامية، وهذا طبيعي عندما يكون تلميذاً للعلامة الكبير طاهر الجزائري، الذي كان مسؤولاً ومشرف دار المخطوطات الظاهرية، بالتالي بزغ نجم الخطيب كمؤسس لجمعية الشبان المسلمين ليس في المنطقة فحسب، بل في العالم، وكان الداعم الأبرز لفكرة تأسيس الجماعات والجمعيات والأحزاب، والإمام حسن البنا ثمرة من ثمار جهود الشيخ الخطيب، خصوصاً في المجال الحركي والتنظيمي.
وإلى الآن لا نزال في بدايات هذا المفكر والشيخ الكبير، فكان نشاطه دؤوباً وحركياً بفضل الله سبحانه وتعالى، ومن الممكن القول، إن هذا النشاط لم يحظَ به أحد قبله أو بعده خاصة ربطاً مع ظروف الأمة التي كانت تعاني منها من استعمار وبداية تشكل حقبة جديدة بعد انهيار الخلافة العثمانية التي كان لا يريد لها أن يأفل نجمها بقدر ما كان متمسكاً بعروبة الأرض والأوطان، كان يريد للعرب أن يديروا شؤون بلادهم لا العثمانيين، فكان نفسه العروبي حاضراً دائماً بالتوازي مع التزامه الديني والدفاع عن الأمة الإسلامية، ففي أوائل الحرب العالمية الأولى انتدبته إحدى الجمعيات العربية السرية للاتصال بأمراء وزعماء العرب ليتخذوا موقفاً ملائماً مشتركاً يعود على البلاد بالخير، فسافر إلى عدن ثم إلى بومباي ثم إلى الكويت فالعراق فاعتقلته السلطات الإنكليزية في (البصرة) تسعة أشهر ثم أطلقوا سراحه جرّاء وشاية من عملاء الشريف حسين، فعاد إلى مصر دون إتمام مهمته، لقد كان اللولب الحركي للثورة العربية الكبرى ويسعى للتأسيس لها، وثوابته في هذا الشأن وكل شأن كان يسير في ركبه لا يمكن لها أن تتغير، فالثابت الأساس هو الإسلام لأنه كان من أتباع السلفية (المنفتحة) وكان مرناً يقدم مصالح الأمة على المسائل الحدّية في العقيدة أي كل واحد واعتقاده شرط ألا يتضارب أو بتعارض ذلك مع مصلحة الأمة، والتوفيق بين الدين والعروبة، فكان المهم له تحرير الشعوب من القيد الأجنبي، لكن الذي أجهض مشروعه النهضوي هذا وحركته بشكل عام في التأسيس للثورة العربية الكبرى والتي نتج عنها كما ذكرنا أعلاه اعتقاله من قبل الإنجليز في العراق بسبب وشاية ثلاثة من عملاء الشريف حسين، فلو نجح لكان حال الأمة أخذ منعطفاً آخراً في حال نجاحه في تنظيم كل المسلمين حول العالم، ورغم اعتقاله في سجن البصرة لكنه لم يجلس هادئاً بل مارس الإصلاح داخله، وألف رسالته “حملة رسالة الإسلام الأولون” الصغيرة في عدد صفحاتها، والغنية في مخزون معلوماتها وفائدتها، وكأنه يوثق للحقبة التي تتقاطع مع واقعنا اليوم.
فلا عجب أن تتكون شخصية الخطيب هذه وهو الخارج كما أشرنا آنفاً من أسرة عريقة وأب واعظ، كان أمين دار الكتب الظاهرية، ثم تولى التدريس والوعظ في الجامع الأموي، وله عدة مؤلفات منها “مختصر تاريخ ابن عساكر” في خمسة أجزاء و”مختصر تيسير الطالب” و”شرح للعوامل”، فهذا الشبل من ذاك الأسد.
وعندما دخل الفرنسيون دمشق عام 1920، غادرها الخطيب إلى مصر، وعمل في تحرير جريدة الأهرام وأسس المكتبة السلفيّة ومطبعتها كما أشرنا آنفاً، وأصدر مجلة الزهراء، ثم أسس مجلة الفتح التي تعد من أقوى المجلات الإسلامية التي ظهرت في العالم العربي، واستمرت 25 عاماً في مرحلة من أصعب المراحل التي مرت بها الأمة الإسلامية في تاريخها الحديث، وقد “تبنت الفتح في تلك المرحلة العصيبة قضايا العالم الإسلامي، واستقطبت حولها كتاباً كثيرين من بلاد العالم الإسلامي كله، وتصدت للدفاع عن حقائق الإسلام وحقوق المسلمين”، يقول الشيخ محب الدين عن مجلة “الفتح”: “الفتح أنشئت لمماشاة الحركة الإسلامية، وتسجيل أطوارها، ولسد الحاجة إلى أحد يترنم بحقائق الإسلام، مستهدفاً تثقيف النشء الإسلامي، وصبغه بصبغة إسلامية أصيلة يظهر أثرها في عقائد الشباب وأخلاقهم وتصرفاتهم، وحماية الميراث التاريخي الذي وصلت أمانته إلى هذا الجيل من الأجيال الإسلامية”.
لم يكن الخطيب إلا مدافعاً عن أمته في مواجهة كل الأخطار، حيث نشر في مجلة المؤيد أعمالاً ضد المبشرين البروتستانت وفضح ما يكيدونه للمسلمين وألف إثر ذلك “الغارة على العالم الإسلامي”، وكان الشيخ من أوائل العلماء الذين تنبّهوا لأخطار الصهيونية وحذروا منها وكشفوا الغطاء عن حقائقها وأسرارها ومحاولة اليهود في الوصول إلى فلسطين، هذا الخطر الذي بتنا نرى بأم العين آثاره المدمرة خاصة من تخاذل بعض الأنظمة العربية في بيع القضية الأم “فلسطين”.
محطة الخطيب في مصر
ذكرنا أن الخطيب ومنذ أن وطأت أقدامه مصر، أسس جمعية الشبان المسلمين بالتعاون مع عدد من شخصيات مصرية منهم أحمد تيمور ومحمد الخضر حسين شيخ الأزهر الأسبق، كان الهدف منها مقاومة الإلحاد والتغريب وشبهات المستشرقين والدعوة لمكارم الأخلاق والتعامل المرن مع الحضارة الغربية باقتباس النافع والمفيد وتقديم البديل للشباب لقضاء وقت فراغهم في أنشطة رياضية مفيدة، وكان للجمعية دور ملموس في الشباب المصري، ومن أعضائها حسن البنا، قبل إنشائه جماعة الإخوان، وكانت مجلة الفتح بمثابة الناطق الإعلامي للجمعية فتنشر أخبارها وندواتها، حينها طلب حسن البنا من الخطيب المساعدة في إنشاء جريدة جماعة الإخوان المسلمين، وترأس محب الدين تحرير الجريدة وطبعها بالمطبعة السلفية، وبقي يرأسها ثلاث سنوات، وعقب ذلك واصل الخطيب الكتابة في العديد من الصحف والمجلات التابعة لجماعة الإخوان، أما خلاف الخطيب مع الشيعة والذي لن ندخل في تفاصيله، لكن نذكر أنه كان رافضاً لفكرة التقريب بين المذاهب التي نادى بها الشيعة في مصر العام 1946، وفي ذلك قال الخطيب: (لماذا لم يسعَ الشيعة لإنشاء دار تقريب في طهران أو قم أو النجف أو جبل عامل أو غيرها..)، على عكس الإمام البنا الذي كان يميل إلى مبدأ التقريب مع الشيعة.
لكن هذا لا يعني أننا نتفق والخطيب في رفضه التقريب بين المذاهب، وإن كانت له أسبابه التي ذكرها في نقده لكتاب “فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب” للنوري الطبرسي، فكلاهما كان يحمل مشروعه وكلاهما كان يسعى للدفاع عما يراه صحيحاً وملائماً بصرف النظر عن أي سجال في هذا الإطار.
بالعودة إلى مرحلة الثورة العربية الكبرى وقيامها في الجزيرة العربية وفي بلاد الشام العام (1916) التحق بها الخطيب آملاً في أن يجد ضالته التي ينشدها وهي الخلافة العربية الإسلامية الراشدة، فشرع في تأسيس (المطبعة الأميرية)، وأشرف على تحرير صحيفة (القبلة) التي كان يصدرها الشريف حسين بن علي في مكة المكرمة، وكانت صحيفة دينية سياسية واجتماعية وإخبارية تصدر مرتين في الأسبوع، كما أصدر صحيفة (الارتقاء) وكانت صحيفة أدبية وتاريخية أسبوعية، ولم يلبث أن أوقف نشاطه في الجريدتين المذكورتين بعدما تبيَّنت حقيقة الشريف حسين وأنه لم يكن يريد ثورة إصلاحية إسلامية، فتخلى عنه؛ إذ لم يكن راضياً عن عمله بصحيفة القبلة، وكان يقول: (إن الشريف حسين وأولاده يريدون الأوطان مزارع للملوك).
لم يتوقف الشيخ ولم يبرح دعوته؛ وإنما استمر في طريقه الذي اختطه لنفسه؛ فإلى جانب إصدار الكتب والرسائل العلمية، وتحقيق كتب التراث والتعليق عليها، والإشراف على ما يطبع في مطبعته الكبيرة، استمر في نضاله، إلى أن انزوى في آخر حياته في مكتبته وقطع صلته بالناس وانكب على التأليف والتحقيق، بلغ عدد الكتب والرسائل التي نشرها تأليفاً وتحقيقاً أكثر من 80 كتاب ورسالة في أتعس ظروف الأمة ولم يكن مشغولاً بهذا النشاط عن النشاط السياسي والحركي، فعلاً إنه رجل ذو خصائص عجيبة غريبة، فقد كانت له خزانة كتب كبيرة، تواترت الأخبار أنها كانت تضم نحو عشرين ألف مجلد، ما بين مخطوط ومطبوع، وبها مجموعة كبيرة من الكتب النادرة، وكانت فهارسها تبلغ خمسة وستين مصنفاً، وكان الخطيب قد جعلها قبل وفاته وقفاً على أهل العلم من ذريته، وقد بنى ولده قصي داراً بناحية (الدقي) خصص الطابق الأول منها لتلك المكتبة، وأما مصنفاته: فقد كانت تآليفه قيّمة تمتاز بالتوثيق العلمي والمرجعي، والأسلوب الأدبي الرفيع، والبيان البديع، والقوة في التعبير. أهمها:
اتجاه الموجات البشرية في جزيرة العرب، قصر الزهراء بالأندلس، ذكرى موقعة حطين، مع الرعيل الأول في الإسلام، الأزهر: ماضيه وحاضره والحاجة إلى إصلاحه، الحديقة: وهي عبارة عن مختارات في الأدب الإسلامي في مختلف العصور وفي مختلف الموضوعات تقع في أربعة عشر سفراً صغير الحجم، جُمعَت في ما بعد في أربعة أسفار، الغارة على العالم الإسلامي، وغير ذلك الكثير، وأما الكتب التي حققها أو علق عليها بتعليقات قيمة، فأهمها: العواصم من القواصم للقاضي أبي بكر بن العربي، وهو إخراجه الأهم وإصداره الأعظم، المنتقى من ميزان الاعتدال للإمام الذهبي، أيمان العرب في الجاهلية للنجيرمي، الخراج لأبي يوسف القاضي، المَيْسِر والقِداح لابن قتيبة.
وكان الشيخ الخطيب يجيد التركية والفارسية والفرنسية، وقد ترجم كتباً منها: سرائر القرآن: ترجمه عن التركية، الدولة والجماعة لأحمد بك شعيب: ترجمه عن التركية، مذكرات غليوم الثاني: ترجمه عن التركية، الغارة على العالم الإسلامي تأليف: أ. ل شاتليه فرانسو: ترجمه إلى العربية، وله عشرات المقالات التي كتبها في موضوعات شتى في مجلات: الزهراء، الأزهر، ثمرات الفنون، حضارة الإسلام، المقتبس، المسلمون، المنار، الشهاب، وصحف: الفتح، المؤيد، القبلة، العاصمة، الأهرام، القبس، وغيرها من الصحف والمجلات، ومعظم مقالات هذه الصحف والمجلات غير منشور، بل إن أعداداً كثيرة منها قد فُقدَت بمرور الزمن، مع ما فيها من القيمة العلمية والتاريخية؛ حيث كان يكتب فيها أساطين العلم والثقافة.
وكان للمحقق الكبير أحمد شاكر صلة وإعجاب بالشيخ محب الدين، وصفه ذات مرة بـ “الكاتب القدير”، أما السيد محب الدين الخطيب فيرى في أحمد شاكر الصديق والعالم والمحقق، وكان يُعجب كثيراً بنشره لكتب التراث، وقد أشار لذلك في مجلة (الزهراء) وتمنى أن يُنشر على يديه كثير من الكتب المفيدة، وعندما عزم محب الدين على نشر كتاب الخراج ليحيى بن آدم القرشي عهد إلى أحمد شاكر بتصحيح الكتاب والتعليق عليه، وطبعه في المطبعة السلفية.
يقول الشيخ الأديب على الطنطاوي: “كنت أسمع منذ بلغت السن التي يميز فيها الطفل ويفهم الكلام أن لي في مصر خالاً، هو شقيق والدتي رحمها الله .. ولما تعلمت الكتابة كتبت إليه أول رسالة، نسختها من كتاب (الإنشاء العصري) ولم أزد عليها شيئاً إلا الاسم، فقد كان موضعه خالياً، فوضعت فيه اسم خالي، فتلقيت منه جواباً بخط لا أجد أحداً يكتب مثله، خط مفرد، فيه روح جديدة، وفيه معنى كريم، شعرت به وإن لم أفهمه، وقد كان لهذه الرسالة (التي مر عليها الآن أربعون سنة) أكبر الأثر عندي..”.
أسهم الشيخ محب الدين في فضح خطط المنصرين، وأخطار الصهيونيّة، وكانت له جهود في نشر عقيدة أهل السنة والجماعة، ونشر كتبها، والدفاع عن الصحابة رضي الله عنهم، والاتصال بكبار العلماء ونشر مؤلفاتهم، كما كان مشرفاً على اللجان التي تشكلت لجمع المال من أجل المجاهدين الذين يستعدون لملاقاة الفرنسيين الغزاة في ميسلون قرب دمشق.
كانت بلاد الشام في الفترة التي نشأ فيها محب الدين الخطيب موئلاً للبعثات التبشيرية الفرنسية اليسوعية والبروتستانتية الأمريكية والتي كانت المنافسة بينهما في فتح المدارس والكليات قائمة في بيروت والقدس، ويمثل محب الدين الخطيب جيل الشباب العربي الذي لم ينهل من مدارس التبشير وهو الجيل الذي وجد في شخصية طاهر الجزائري نموذجاً يقتدي يُؤخذ العلم منه، حيث شهدت دمشق في الفترة التي ولد فيها الخطيب زيادة في عدد المدارس والمعلمين كما كان لوجود مدحت باشا حاكماً على دمشق في الفترة القريبة السابقة علي مولده دوره الذي لا ينكر في نهضة دمشق، فكان الشيخ الخطيب يعتمد التجديد في منهجيته انطلاقاً من ظروف الأمة التي كانت عليها، فكان يرى أن التجديد يكمن في “أن نأخذ من كل مكان ما نحن في حاجة إليه من أسباب العزة والقوة، وأن نحتفظ بكل ما في كياننا الوطني والديني مما لا يعد من عوامل الذل وبواعث الوهن..”، أما القومية في فكره، فيقول: “أنا بصفتي متوطنا في مصر، اخترتها من دون آفاق الدنيا فإنني شريك لكل مصري في جامعة الوطن وهي من أقرب الجامعات إلي، لأني متصل بها مباشرة، أنفعها بجهودي، وأنتفع منها في أعمالي ، فإذا لم أقم بمصالح هذه الشركة بأمانة وإخلاص كان ذلك تقصيراً يصيبني قسط منه ، وتقع علي نتائجه”، ومن كل ما سبق يتجلى المشروع النهضوي عند محب الدين الخطيب، ويتبلور في إصلاح حال اللغة العربية، وبعث الحضارة الإسلامية، وتنمية الروح، وشد أواصر الصلة مع الجمعيات الإسلامية العاملة على الساحة، فرغم أن الخطيب كان من أنصار السلفية فهي تلك التي غير المتخندقة كما يعتقد البعض، بل تلك التي توازن بين الوطن والدين ولا تفرط بمصالح الوطن، إذ لطالما دأب الخطيب على حض قرائه على اتباع القرآن والسنة وطريقة السلف في فهمهما، فقد كان قوي الإيمان بخصائص الأمة العربية وأصالتها واستعدادها للخير وجدارتها بحمل رسالة الله وبطيب عنصرها ونقاء جوهرها، وطالما تغنى بهذه الأمة وباستعداداتها، ومع ذلك لم يفهم من العربية يوماً ما شيئاً غير الإسلام، وكان ينال من الكُتاب المسلمين الذين يفرقون بين العروبة والإسلام ويعتبرهم من جملة من ساهم في القضاء على الخلافة الإسلامية.
أخيراً، لم يكن الخطيب إلا مدافعاً عن أمته في مواجهة كل الأخطار، “المقاطعة عنوان الرجولة والحزم، والأمة التي تثبت على مقاطعة من يسيء إليها تشعر الأمم كلها بالحرمة لها، وفي مقدمة من يحترمها أعداؤها. وبالمقاطعة تعرف الأمة مواطن ضعفها، وتنتبه إلى ما ينقصها في صناعتها وتجارتها”، مقالة كتبها الخطيب العام 1929، لكنها تتردد اليوم على ألسن الغيارى على هذه الأمة، الأمة المنكوبة بعد رحيل رجالها من أمثال الشيخ محب الدين الخطيب، أمة كان ليكون حالها أفضل لولا الخيانة، فقد رحل المبدعون لكن الخونة لا يزالون يتربعون على عرش الأمة، فكل نكبات الأمة سببها الخيانة، وكل من حمل لواء النهوض تتم تصفيته، تصفية قلمه وفكره، هناك من يريد لهذه الأمة أن تنهار، لكن من يعود إلى هذا التراث المشرف الخالد لعظماء الأمة شرفٌ كبير له أن يقول أنا ابن هذه الأرض، التي قارعت الاحتلال والمستعمر وطردته، ولن يكون الصهيوني أفضل حالاً في حال وجدنا نماذج جديدة من روح الخطيب ورفاقه، إن أوجاعنا تحتمل أن نصبر لعلاجها، وهذا يتحقق عندما نوحد الصف وننبذ الفرقة ونعلي الصوت، نحتاج إلى إحياء من أحيوا هذه الأمة في زمنٍ مضى، نحتاج إلى أكاديميات تجدد هذا التراث وتلزم به أنباء البلاد كي يتعلموا كي يمارسوا نشاطهم لا أن يكونوا اتكاليين مستهلكين وأصنام، الشيخ محب الدين الخطيب بكل أمانة، بعد الإبحار في سيرته المشرفة التي ما هي وكما أقول دائماً إلا ومضة، فعلاً إنه رجل أحيا أمة.
____________________
(*) كاتب ومفكر كويتي.