يُعد فضيلة الشيخ العلَّامة د. يوسف القرضاوي (1926 – 2022م) نموذجاً للعالم الواعي بالدور التاريخي للعلماء، ومثالاً للفقيه الذي يجمع بين العلم والعمل وبين الفكر والفعل؛ إذْ لم يغِبْ وعيُه الحضاري عن الفاعلية في الحياة العامَّة وتأثيره فيها، ولم يغادر حضورُه ثغورَ المرابَطة على القضايا الكبرى للأمة، ولم يغُضَّ الطرف عنها، ومنها: قضايا الحكم والسِّياسة والثورة والجهاد والدولة والأمَّة والنهضة والحضارة؛ فكان حضورُه قوياً في التحوُّلات التي يعيشها العالم عموماً وتعيشها الأمَّة خصوصاً، حتى وُصِف بأنه الضَّمير الحي والناطق الأمين باسم الأمة في العصر الحديث، بحيث تمثِّل كتُبُه وخياراته الفكرية والفقهية والسِّياسية مشروعاً إصلاحياً متكاملاً، صاغ به ثقافة أجيال من أبناء الأمة ضمن تيار الوسطية والاعتدال، وكان مرجعاً علمياً موثوقاً، ومصدراً عملياً ثرياً في التأصيل والتأسيس للعديد من المشاريع الخادمة للإسلام.
فهو من أبرز الأعلام المعاصرين الذين أثْرَوا مسيرة الأمة وتكوين أجيالها نحو الاستئناف الحضاري من جديد، وإنْ أراد المنصفون أنْ يقدِّموا نموذجاً في هذا القرن لعلَّامة مجتهد ومجدِّد فلن يجدوا مثالاً حياً أوضح من د. القرضاوي، وهو الذي قال عنه الشيخ محمد الحسن ولد الددو: «يكفي أنْ توفَّاه الله حتى انفرد بالإمامة، فلم يكن في عصره أكبر منه حظاً من ميراث النبوَّة، فكان الوارث الأول لرسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الزَّمان..».
إنَّ استقراء الخارطة الفكرية والإبداع المعرفي للعلاَّمة القرضاوي يدلُّك على ذلك الإنتاج العلمي والمعرفي الغزير في مختلف الفنون والاختصاصات، فقد صنَّف كتباً مهمَّة في مجالات مختلفة، فألَّف في العقائد وعلوم القرآن والسُّنة، وفي الفقه وأصوله، وفي السِّياسة الشرعية والاقتصاد الإسلامي، وفي الدعوة والتربية والسُّلوك، وفي ترشيد الصحوة والحركة الإسلامية والحل الإسلامي، وفي الوحدة الفكرية للعاملين للإسلام، وفي الكتب الإسلامية العامة والترجمة للأعلام، وفي الأدب والشعر والفن، وستصدر موسوعةُ أعمالِه كاملة قريباً في أكثر من 100 مجلد، وهو الذي ألَّف أكثر من 170 كتاباً، كما شارك في الكثير من المؤتمرات والندوات والبرامج التلفزيونية خلال مسيرته الحافلة والمثيرة للجدل؛ فهو من أكثر الدعاة المعاصرين قرباً من الجماهير وتأثيراً في الشُّعوب وإحراجاً للأنظمة الاستبدادية، وقد دفع أثماناً باهظة في سبيل ذلك، وهو الذي حلَّ عام 2008م في المرتبة الثالثة من بين 20 من المفكرين الأكثر تأثيراً في العالم.
إنه عالِمٌ من زمن آخر، وسيقرأ المؤرِّخون وستكتشف الأجيال القادمة من خلال سيرته ومسيرته الثرية الرِّواية الأصح لحقيقة الإسلام وعظمته، وستعترف الإنسانية بحجم الخسارة الإستراتيجية في إقصاء هذا الدِّين من الحياة.
جوانب مضيئة
ويمكننا أن نقف على جوانب مضيئة في مسيرته الحافلة، تاركين الحديث عن مجالاتٍ أخرى لفرصٍ قادمة:
ففي مجال الإنتاج العلمي والاجتهاد الفقهي، نجده متفرِّداً في التأليف والتأصيل، فهو يجمع –كما وُصِف بحقٍّ- بين دقَّة الفقيه، وحرارة الداعية، ونظرة المجدِّد، وأصالة العالِم، وإشراقة الأديب، وتتميَّز مؤلَّفاته بالاستناد إلى أصول الاستدلال العلمي المعتمد على الكتاب والسُّنة ومنهج السَّلف الصالح وما توصَّل إليه العلم الحديث، فهو يجمع بين الأصالة والمعاصرة، وبين التدقيق العلمي والبعد الفكري والتوجُّه الإصلاحي، كما أنه متحرِّر من التقليد الأعمى والعصبية المذهبية والتبعية الفكرية.
وقد أصبح مرجعاً فقهياً عالمياً معتمداً لدى الكثيرين من المسلمين، وقد بيَّن منهجه في الفتوى في مقدمة كتابه «فتاوى معاصرة»، وفصَّل ذلك في رسالته «الفتوى بين الانضباط والتسيُّب»، ويقوم هذا المنهج على التيسير لا التعسير، وعلى الحجَّة والدليل، وعلى التحرُّر من العصبية والتقليد، وعلى الانفتاح على المذاهب المعتمدة والانتفاع بالثروة الفقهية المختلفة، وعلى مراعاة خطورة الفتوى بإعطائها حقَّها ومستحقَّها من الشَّرح والتعليل.
وفي مجال الحركة والدعوة والصحوة، فهو ابن كبرى الحركات الإسلامية المعاصرة، وهي جماعة الإخوان المسلمين منذ عام 1949م، وهي الجماعة التي أسَّسها الإمام الشهيد حسن البنا عام 1928م بعد سقوط الخلافة الإسلامية رسمياً عام 1924م، ومع تحرُّرِه تنظيمياً منها، فإنَّه بقي مرجِعاً علمياً للعاملين للإسلام وللمسلمين جميعاً، وقد نظَّر للحركة الإسلامية وأصَّل في ترشيد الصَّحوة، فألَّف كتاب «أولويات الحركة الإسلامية في المرحلة القادمة»، كما ألَّف في ترشيد الصَّحوة الإسلامية كتاب «الصحوة الإسلامية وهموم الوطن العربي والإسلامي»، و«الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرُّف»، و«الصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروع والتفرُّق المذموم»، و»نحو صحوةٍ راشدة.. تجدِّد الدِّين وتنهض بالدنيا».
وفي مجال الدعوة لم يترك وسيلة من وسائل الدعوة إلاَّ وكان له نصيبٌ منها، من المساجد والجامعات ووسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية، والمؤتمرات والملتقيات والندوات، والتنسيق والعمل مع مختلف التنظيمات والهيئات العاملة للإسلام في القارات الخمس، وقد وَهَبه الله القدرة على مخاطبة العامَّة والخاصَّة، والجمع بين مخاطبة العقول والقلوب، والتوفيق بين «التراث والتجديد»، والقدرة على الجمع بين الدعوة النظرية والحركة العملية، وربط التديُّن الفردي بهموم الأمة وقضايا العالم، والملَكة في الجمع بين «العقل الفقهي» و«العقل المقاصدي» و«الفقه الحضاري».
وفي مجال العمل والاجتهاد الجماعي المؤسَّسي، تمتَّع بالثقة وكان أهلاً لها، رسمياً وشعبياً، وهو ما أهَّله إلى تبوُّؤ مكانة متميِّزة في العطاء الجماعي والمؤسَّساتي، فقد كان عضواً مؤسِّساً في العديد من المجامع الفقهية والمجالس العلمية والمراكز الفكرية والهيئات الدعوية والمؤسَّسات الاقتصادية والجمعيات الخيرية، فهو عضو المجلس الأعلى للتربية وهيئة الإفتاء الشرعي في قطر، ورئيس هيئة الرقابة الشرعية لبنك قطر الإسلامي الدولي، ولمصرف فيصل الإسلامي بالبحرين وكراتشي، ولبنك التقوى في سويسرا، وعضو مجلس الأمناء لمنظمة الدعوة الإسلامية في أفريقيا، وعضو مجمع الفقه الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة، وخبير المجمع الفقهي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي بجدة، وعضو مجلس الأمناء للجامعة الإسلامية العالمية في إسلام آباد بباكستان، ومجلس الأمناء لمركز الدراسات الإسلامية في أكسفورد، وعضو رابطة الأدب الإسلامي في الهند، وعضو مؤسس لجمعية الاقتصاد الإسلامي بالقاهرة، وعضو مجلس إدارة مركز بحوث إسهامات المسلمين في الحضارة في قطر، ونائب رئيس الهيئة الشرعية العالمية للزكاة في الكويت، وعضو المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية (مؤسسة آل البيت بالأردن)، وعضو مؤسِّس للهيئة الخيرية الإسلامية العالمية بالكويت، ورئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.
وفي مجال الفقه السِّياسي، فالإسلام عنده لا يكون إلا سياسياً، وذلك لسببين رئيسين:
الأول: أنَّ الإسلام يوجِّه الحياة كلها؛ فهو ليس عقيدة لاهوتية أو شعائر تعبُّدية في علاقةٍ خاصةٍ بين الإنسان وربه فقط، بل هو منهجٌ متكاملٌ ينظِّم الحياة، ويوجِه الفرد والمجتمع والدولة، ويتَّجه إلى صناعة النهضة وبناء الحضارة
الثاني: شخصية المسلم شخصية سياسية؛ فالإسلام يضع في عنق كلِّ مسلم فريضة اسمها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنصيحة لأئمة المسلمين وعامتهم، وهو يربِّي المسلم على مقاومة الفساد والاستبداد، وهو من أفضل الجهاد، كما قال صلى الله عليه وسلم: «أفضل الجهاد كلمة حقّ عند سلطان جائر»، ويغرس في نفس المسلم رفض الظلم ومقاومة الظالمين، ويعيش المعاني السِّياسية حتى في الصلاة والدعاء تجاه ذلك، فيقول في دعاء القنوت: «نشكرك الله ولا نكفرك، ونخلع ونترك من يَفجرُك»، ويحذِّر من السُّكوت على المنكر العام أو الخاص، فيقول القرآن: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ {78} كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ) (المائدة)، ويصنع تلك الشخصية الحسَّاسة تجاه تفجير الوعي بالواجب في التغيير، فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «مَن رأى منكم منكراً فليُغيّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان»، وهو تعبئةٌ نفسيةٌ وشعوريةٌ ضدَّ كلِّ أشكال وأنواع المنكر، وهي تعبئةٌ إيجابيةٌ وليست سلبية، مستمرةٌ للأنفس والمشاعر والضَّمائر لا بد أن تُترجم في عمل ثوريّ إيجابي، يحْذَر النذير النبوي للأمة؛ إذ يقول: «إذا رأيت أمتي تهابُ أن تقول للظالم: يا ظالم فقد تُوُدِّعَ منهم»، أي أنها فقدت الأهلية في الحياة.
ولذلك وجدنا العلاَّمة القرضاوي قد اهتمَّ بالفقه السِّياسي تنظيراً وتأصيلاً وتنفيذاً، ووجدنا له حضوراً في المواقف السياسية المثيرة عربياً وإسلامياً وعالمياً، ومن أهمِّ الكتب التي أبدع فيها كتاب «من فقه الدولة في الإسلام»، الذي بسط فيه القول عن طبيعة الدولة في الإسلام ومكانتها ومعالمها وموقفها من الديمقراطية والتعددية والمرأة وغير المسلمين، وكتاب «السِّياسة الشرعية في ضوء نصوص الشريعة ومقاصدها»، الذي فصَّل الأسس والمرتكزات التي يقوم عليها فقه السِّياسة الشرعية، كما ألَّف ونظَّر لرؤيته السِّياسية في حلِّ الأزمة الحضارية للأمة، فألَّف كتاب «أين الخلل؟»، و«الإسلام والعلمانية وجهاً لوجه»، و«ملامح المجتمع المسلم الذي ننشده»، و«غير المسلمين في المجتمع الإسلامي»، وسلسلة حتمية الحل الإسلامي، مثل: «الحلول المستوردة وكيف جَنَت على أمتنا»، و«الحل الإسلامي فريضة وضرورة»، و«بيِّنات الحل الإسلامي وشبهات العلمانيين والمتغرِّبين»، و«الإسلام حضارة الغد».