أكد رئيس البرلمان التونسي زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي، أن انقلاب الرئيس قيس سعيد خطوة متقدمة تتوج المحاولات المتكررة للمنظومة القديمة لاستعادة الحكم الاستبدادي.
وأشار الغنوشي، في حوار مع «المجتمع»، إلى أنه ليس لسعيّد ما يمسكه في الحكم بعد أن فقَدَ كل أسس شرعيته التي جاءت به لحكم قرطاج، كما تطرق الحوار لعدد من القضايا المتعلقة بمقاومة الانقلاب ودور حركة «النهضة» في هذا المجال.
بعد أكثر من عام على الانقلاب، وما سمي بالاستشارة الإلكترونية، والاستفتاء المثير للجدل، ما تقييمك للوضع الحالي في تونس؛ على المستوى السياسي والاقتصادي والثقافي والاجتماعي؟
– عانت تونس وشعبها من أزمات متعاقبة لعقود، أدى تراكمها للانقلاب الأول على الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة من قبل زين العابدين بن علي الذي جاء انقلابه بوعود لم يلبث أن نكثها؛ ما أدخل البلاد في عشريتين من الاستبداد، زادت من تأزيم الوضع، وأضاعت ثروات البلاد، وعمقت الفساد والظلم؛ ما أدى إلى تفكك أواصر الدولة والمجتمع، وثورة الشعب التونسي على حاكميه ودخول تونس في عشرية الثورة والإصلاح والانتقال الديمقراطي، والحرية التي تنفستها تونس بعد أن حرمت منها لأكثر من مائة سنة.
وقد جاء انقلاب قيس سعيّد كخطوة متقدمة تتوج المحاولات المتكررة للمنظومة القديمة لاستعادة الحكم الاستبدادي التي لم تتوقف منذ تخلصها من عرابها الرئيس الراحل المخلوع بن علي، ثم مساعي الانقلاب على أول حكومة منتخبة من البرلمان من خلال العمليات الإرهابية، ثم فشلها في محاولة تهديم وإيقاف مسار التوافق بعد انتخابات عام 2014م من خلال الهجمات الإرهابية المتكررة، ومن خلال محاولة مسرحة أحداث الثورة بمحاولة افتعال احتجاجات اجتماعية وفشلها المتكرر في إقناع الشعب التونسي.
واليوم وبعد مرور سنة على انقلاب سعيد، يتكرر فشل منظومة الاستبداد والفساد، لكن بشكل متسارع وبنوع من التداعي الحر نحو الفوضى والخراب؛ إذ بينما نجحت ثورة الشعب التونسي من خلال المسار الديمقراطي في التخفيف من سرعة تداعي الأزمة مع العمل على فتح أفق للتغيير والإصلاح، فإن انقلاب سعيّد استعاد كل عوامل الفشل وقام بتسريع مفاعيلها، ولذلك فإنه يصح القول: إن تونس بعد أن كانت تعاني من أزمة لها أفق للخروج منها، فإنها اليوم تعاني من كارثة لا أفق لها إلا الانهيار والفوضى وتحويلها لدولة فاشلة.
ولهذا الفشل مظاهر صارخة؛ من أولها فشل سعيّد في مقاومة الفساد والمحسوبية إذ لم تمض إلا أشهر قليلة على الانقلاب حتى ظهرت على محيطه كل علامات الفساد التي احتاجت لسنوات في مرحلة بن علي كي تبرز، وانظر الشهادات التي قدمها القضاة عن دور أعضاء من أسرة الرئيس والمقربين منهم في الحياة السياسية، وانظر الحديث عن ولاة الرئيس ووزرائه، إذ بسرعة لجأت منظومة الاستبداد لتقديم امتيازات للمنتفعين من دولة المخلوع، وتمييزهم عمن فتحت لهم الثورة فرصة للاستثمار والعمل في إطار القانون.
ولذلك يمكن القول، ودون مبالغة: إن سعيّداً لم تتجاوز مقاومته للفساد الشعارات المبهمة، بينما تورطت منظومته مباشرة في تبييض الفساد وفسح المجال لعودة أباطرته.
كما فشل سعيّد في تحسين الوضع الاقتصادي، إذ فشلت حكومته الثالثة عن زحزحة الأزمة الاقتصادية وآثارها الاجتماعية، وقد أدت سياساته لتحويل أزمة الاقتصاد لكارثة لم يعرفها الشعب التونسي منذ الحرب العالمية الثانية، إذ زاد تدهور قيمة الدينار التونسي، واختفت المواد الأساسية من الأسواق مع ارتفاع وتضاعف أسعارها، والوضع مؤهَّل لمزيد من التدهور، وللأسف فإن الطرف الوحيد الذي سيدفع ثمن ذلك هو المواطن والفئات، لا أقول الضعيفة فقط، بل كل الفئات المجتمعية باستثناء منظومة الفساد التي لا يمسها ضنك في ظل حماية المستبد لها واستعدادها لتقديم كل الخدمات المدفوعة الثمن له.
كيف استطاع الانقلاب أن يستمر أكثر من عام؟ من يدعم الرئيس من الداخل والخارج؟ وهل هناك أدلة ملموسة على هذا الدعم؟
– الأكيد أن لسعيّد داعمين، فلا يمكن لأي طرف أن يحكم ويستمر في الحكم إن لم يكن له من يدعمه، وأقل شيء في المشهد التونسي أن هناك إلى اليوم دبابة أمنية وأخرى عسكرية تحجزان باب البرلمان، إذ ليس لسعيّد ما يمسكه في الحكم؛ فهو فقَدَ كل أسس شرعيته التي جاءت به لحكم قرطاج منذ انقلابه على الديمقراطية، وقد مثل الاستفتاء في الحقيقة الإعلان الأخير عن عزلة سعيّد عن الشعب التونسي وانحسار شعبيته في جزء من بيروقراطية الدولة وأدواتها الإكراهية، بينما كان يمثل أكثر رئيس يتمتع بقاعدة شعبية وصل للرئاسة بفضل انتخابات حرة وديمقراطية، وبدستور لم يصبر أن انقلب عليه بعد أن أقسم على القرآن أن يحترمه.
ومن جهة أخرى، فإن هناك حديثاً عن تلقي سعيّد دعماً من بعض دول الجوار الإقليمي، ونحن لا نفهم عداء هذه الدول الشقيقة للديمقراطية التونسية، خلاف ذلك لا نعلم مسانداً له؛ فأغلب الدول تعارض سياسته ومنهجه ولا ترى له مستقبلاً، ولا أرى أنه باق إلا بسبب كثرة الاضطرابات التي يعرفها العالم والخشية من ضرب الاستقرار الذي أصبح أولوية، وكذلك بسبب ضعف جزء معتبر من معارضته وتغليبها انقساماتها الداخلية عن الاهتمام بالمصلحة الوطنية وأولوية العودة للديمقراطية والتخلي عن نهجه الإقصائي وشيطنة خصومها.
البعض يتساءل: لماذا استسلم الشعب التونسي لرجل مدني تحول لدكتاتور، وشعوب «الربيع العربي» بعضها سالت فيها الدماء أنهاراً، وأخرى ما زالت تقاوم؟
– ليس مطلوباً من أي شعب أن يعرِّض حياته للخطر، وعلينا أن نبذل جهدنا في حفظ الدماء والأعراض، فذلك من مقاصد ديننا الحنيف العليا، وإن واجبنا كحركة تنهل من الإسلام فهماً ومنهجاً في التعامل مع الفضاء العام وفي وضع سياساتها أن نرعى القيم العليا في شعوبنا وفي أبنائنا وفي مناضلينا ومنها حرمة الدماء، وقد أمر الله تعالى بحفظ دين الناس من أن يفتنوا، وأن نحفظ دماءهم وحياتهم، وقد ربط الله سبحانه بين العدل وإحياء الأنفس وحفظ حياتها، كما ربط بين الظلم والإسراف وقتل الناس.
إن الباطل والظلم لا شك زائلان وعاجزان عن الحياة، وهذه بلادنا بلاد الإسلام أرض مباركة ليس للظلم والفساد فيها جذور؛ ولذلك فليس له فيها مستقبل، ولكن بعض الناس يستعجلون، وإننا وقد انقلب علينا الظالم المستبد فانسحبنا من أمام جبروته جنَّبنا مؤسسات الدولة الدماء؛ لأن منتسبيها هم أبناء شعبنا ويجب ألا يتورطوا في دماء إخوانهم في الوطن، كما جنبنا بقية أفراد الشعب من التقاتل الأهلي، ونحن اليوم بعد سنة من الانقلاب أصبحنا في محضن الشعب بعد أن كنا متهمين بين الناس ومعزولين، بينما سعيّد اليوم في عزلة عن الشعب الذي صفق له منذ سنة، ولو ذهبنا في مذهب غير ذلك ما كان ممكناً تحقيق مثل هذا الإنجاز إلا ربما بعد سنوات عديدة أو عقود، فالطريق الأسلم أجدى وثماره تأتي ولو بعد حين.
هل ما زال الشعب يقاوم الانقلاب على الديمقراطية؟ وما الوسائل التي يستخدمها؟
– وأي مقاومة أعظم من أن يفشل سعيد في تجيير إرادة الشعب التونسي ليناصره في سياساته وبرنامجه؛ فهو لم يحصل في استفتائه على الغالب حتى على عُشر أصوات التونسيين برغم إكراهه للناس على الخروج والمشاركة تهديداً لهم في رزقهم ومعاشهم، وحتى لو صدقنا البهتان الذي أعلن عن عدد المشاركين بقرابة 30%، فإن ذلك لا يعطي لسعيد شرعية ولا تفويضاً لمشروعه؛ فالتزوير كان واضحاً، ولم تنقل صورة الطابور الانتخابي من أي مركز اقتراع؛ ولذلك فالشعب يقاوم ولا شك، ودورنا أن نكون في مستوى هذه المقاومة، وأن نرتقي لمستوى توقعات الناس منا، وأن نعطيهم أملاً في المستقبل.
فنحن في خدمة هذا الشعب، والمطلوب منا أن نصبر عليه وأن نفهم آهاته ونداوي جراحاته وليس لنا في ذلك منّة عليه ولا مزية، وأن نعتذر له عن تقصيرنا؛ فهو قد رفعنا على الأعناق وزكانا، ولذلك فإن هذا الشعب يستحق منا كل الاحترام، ويستحق منا الصبر وأن نعمل على تأهيل أنفسنا حتى نقدر على خدمته، ويزكينا الله لنصرة هذا الشعب حتى يؤمن نفسه من الخوف والجوع؛ فهذا واجبنا وهذا ديننا.
بعض الأصوات تتهم «النهضة» بعدم الفعالية في تحريك الجماهير؛ فما ردكم على ذلك؟ وماذا تفعل الحركة لمقاومة الانقلاب؟
– النهضة حزب مدني (عكس عسكري)، وليس لنا من سبيل لمقاومة الانقلاب والاستبداد إلا العمل السلمي والمدني بما يحفظ البلاد من الفوضى ويحفظ دماء الناس وأعراضهم، وأن نصبر على ذلك ونواجهه بسياسة هابيل لأخيه قابيل؛ (لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ) (المائدة: 28)، وفي إطار هذا المبدأ القرآني العظيم تعمل «النهضة»، وعملت خلال السنة الماضية؛ إذ لم نتأخر عن النزول للشارع بما فضح ادعاءات الانقلاب في الشرعية والشعبية، وبينا أننا أكثر طرف مع شركائنا قدرة على ملء الشارع وهو ما عجز عنه غيرنا.
ونحن ما زلنا على منهجنا ونهجنا في المقاومة السلمية والمدنية، ونقترب في ذلك من أوسع طائفة من مقاومي الانقلاب، وانظر وضع «النهضة» التي كادت تنفرد برفض الانقلاب يوم وقوعه ولم تنته السنة الأولى منه حتى أصبح الجميع يشاركها هذا الموقف، بل أصبحنا نقاومه في إطار جبهة وطنية اسمها «جبهة الخلاص»، ويشاركنا موقفنا بقية مكونات المجتمع السياسي والمدني.
أما الشارع الاجتماعي فيجب الصبر عليه، وأن نهيئ أنفسنا لنواكبه ولا نتأخر عنه، وعلى النخب أن تتواضع في تعاملها مع الشعوب، وأن تتخلى عن وهمها لها في قيادة الحراك الاجتماعي، فهذه أوهام وأحلام النخب؛ فالشعوب لا تحركها النخب بل هي تتحرك عندما تتوفر الظروف المناسبة لتحركها، والشعوب تصبر على نخبها المستبدة من حكامها حتى إذا حسمت فيها نفضتها كما ينفض الغبار عن الثوب المغبر.
ومهما كان حجم هذه النخب المستبدة فهي لا تقدر على إيقاف حركة الشعوب وأمواجها الهادرة، ولذلك علينا أن نتواضع ونكف عن الوهم ونصبر، وأن نبذل جهدنا في مناصرة شعوبنا، ولا نقودها للهلاك بتعجلنا ولا نعجل عليها ولا نسمح لأنفسنا بجلدها، بل نصبر ونصابر ونرابط معها في ساحة الحرية حتى يأتي وعد الله.
لذلك، فإننا إذ نقاوم هذا الانقلاب إنما نبغي الخير للناس كافة وليس لنا وحدنا كحزب أو فئة من الناس، بل نريده لكل أبناء شعبنا بجميع طوائفنا؛ ولذلك فإن أيدينا مفتوحة للجميع كي نعمل مع بعضنا لمقاومة الاستبداد، ولا بد أن نصل معهم لاتفاق لكيفية الانتفاع بخيرات الحرية والديمقراطية جميعاً، ونحن مستعدون في هذا أن نعطيهم من عندنا حتى يطمئنوا لخير الحرية والديمقراطية، وأنه خير عام لا ينتفع به فقط حزبنا أو فئتنا.
لماذا لا تتفق كل القوى المعارضة للانقلاب على دعوة الجماهير للنزول في الشوارع للتظاهر حتى يسقط الانقلاب؟
– ما زال هناك من النخب من هو أسير عدائه لـ«النهضة» وحقها بالمشاركة في الفضاء العام، وهذه النخب في عقيدتها تعيش غربة عن المجتمع؛ ولذلك فشلت في الحفاظ على ولاء الشعب التونسي، وفشلت في الانتفاع بثمار الديمقراطية، ولذلك فهي لا ترى خيراً في الديمقراطية ما دامت هناك حركة أصيلة فشلوا في منافستها ديمقراطياً فتراهم يقدمون التخلص من حركة «النهضة» على مقاومة الاستبداد.
ومع ذلك، فلا بد من تفهم مخاوف البعض من الديمقراطية؛ فالذين كانوا معنا في مقاومة استبداد بن علي يروننا نتقدم كل الانتخابات، بينما يجدون أنفسهم على هامش الحياة السياسية والديمقراطية.
إلا أنه لا بد من معالجة أخلال الديمقراطية التي همشت مناضلين ديمقراطيين، ونحن في «النهضة» مستعدون للوصول معهم لتوافقات وتعاقدات تمكن البلاد من الوصول لديمقراطية قوية ومنتجة ومدمجة، وحافظة للديمقراطيين ومعترفة لفضل المناضلين في سبيل الحرية والعدالة والكرامة للشعب التونسي، وهذا لا يتحقق إلا بتوسيع الحوار والتوافق والتضامن والتآلف.
هل انتهى ربيع تونس وعادت لترزح في ربقة الاستبداد والتبعية؟
– ما تمر به تونس والمنطقة مرحلة في مسار تاريخي نتقدم فيه نحو الحرية والعدالة لشعوبنا وشعوب العالم، والعالم اليوم أشد حاجة للإسلام، ولا مخرج للدول في منطقتنا إلا بالتصالح مع الإسلام، وأن يتصالح الإسلام مع الدولة كذلك.
تونس جزء من محيطها العام، ومحيطها جزء من العالم، ولا يمكن عزل الواحد عن الآخر، وتمر البشرية اليوم بمخاض تغيرات إستراتيجية في المنظومة الدولية، وفي خضم كل هذا نؤمن بأن ربيع أمتنا وشعبنا لا يمكن أن ينبلج فجره ويستقر إن لم تتم تسوية التناقضات المخلة في قيم المنظومة الغربية بين دفاعها عن الديمقراطية وحق الشعوب في تقرير مصيرها والظلم والقهر الذي يتعرض إليه إخواننا في فلسطين، أو مسلمو الإيغور، مثلهم في ذلك مثل الشعب الأوكراني أو بقية شعوب العالم التي تتوق للحرية وذلك بعض ما نعنيه بالإسلام الديمقراطي.
سعيد يمثل استبداداً فاشلاً، إذ كما لم تتوفر شروط النجاح للديمقراطية، فإن شروط استبداد سعيّد غير متوفرة، فقد نجحت تونس في الصمود عشر سنوات، وهي سنوات تربى فيها جيل جديد لم يعرف شيئاً عن الاستبداد، ولم يعرف إلا الحرية، وهذا الجيل لن يصبر على الاستبداد، وانظر إلى نسب مساندة الشباب لسعيّد؛ إذ تقول بعض تقارير سبر الآراء: إن نسبة الداعمين للرئيس لم تتجاوز 2%، بينما كانت تتجاوز 40%، وأغلبهم ممن تقدم بهم السن في اتجاه الهرم والشيخوخة؛ ولذلك فنجاحنا في الصمود في وجه المحاولات المتكررة للانقلاب غرست بذوراً ستثمر لا محالة، ومن ذلك ما أخذت تعبر عنه المؤسسة القضائية من إصرار على الاستقلال والحياد ورفض التعليمات التي وصمت القضاء والصحافة طيلة حكومات الاستبداد، وفي هذا الاتجاه تسير البلاد.