في تزامن لافت، بين التصريحات الحكومية الرسمية، وبيانات متكررة داعمة، عادت قضية التبرع بالأعضاء البشرية إلى واجهة الحديث في مصر في الأيام الأخيرة، بعد الإعلان عن وجود اتجاه رسمي لتقنين التبرع وتوثيقه، ما جدد الجدل الديني حول الجواز من عدمه في ظل رفض البعض لمبدأ التبرع بالأعضاء تأسياً بفتوى سابقة للإمام الراحل الشيخ محمد متولي الشعراوي، في مقابل تبني السلطات المصرية لفتاوي جواز التبرع بشروط.
بدء إجراءات حكومية للتوثيق وفتاوى رسمية تبيح التبرعات بشروط
الأخذ بالأحوط أفضل
في البداية، سألنا أبرز الرافضين للتبرع في المشهد المصري وهو أستاذ الفقه المقارن والشريعة الإسلامية بجامعة الأزهر د. أحمد كُريمة، الذي قال، في تصريحات لـ”المجتمع”: إن المواطن المصري مدعو للأخذ بالأحوط في ظل من يفتي بجواز التبرع بشروط، وأنه وآخرين بناء على سؤال أطباء ثقات يفتون بحرمة التبرع بالأعضاء قبل وبعد الوفاة.
وأوضح كُريمة أنه والإمام الراحل محمد متولي الشعراوي والمفكر الإسلامي الراحل بجامعة الأزهر د. عبدالعظيم المطعني يفتون بعدم جواز نقل أو غرس الأعضاء من حي إلى حي أو من ميت إلى حي، حيث إنه يتطلب نقل العضو وقتاً معيناً لا يتوافق مع شروط الموت في الفقه الإسلامي الذي قرر أن الموت يعني مغادرة تامة للروح يستحيل معها الحياة، ولكن ما يحدث أنه يتم انتزاع العضو في مرحلة فيها نوع من الحياة التي تسمى “الموت الإكلينيكي”، وذلك بإجماع حصل عليه من أطباء ثقات، وفق وصفه.
وأشار كُريمة إلى أن هذا رأيه الشخصي الذي لا يعبر عن مؤسسة الأزهر، ولكنه مستند إلى رأي الشرع وإجماع الأطباء الثقات، موضحاً أن المصريين الذين يساورهم الشكوك في الأمر بسبب الجدل حوله وعدم حسم الفتوى، مدعوين إلى التحاكم إلى الشرع والأخذ بالأحوط فالرجال يعرفون بالحق ولا يعرف الحق بالرجال.
وأضاف أن الفقهاء قرروا في مثل هذه المسائل الأخذ بالأحوط، خاصة أن هذه الأعضاء ملك لله عز وجل، ولا يملك شخص أن يبيع أو يهب ما لا يملك، وليس لإنسان إلا الانتفاع بأعضائه ولقد قال تعالى: (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا)، وقال تعالى: (أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ)، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن مجرد نقل شعر أدمية إلى أدمية، وقال: “لَعَنَ اللَّهُ الواصِلَةَ والمُسْتَوْصِلَةَ”، فما بالنا بنقل أعضاء أدمية؟!
وشدد على أنه في حال دخول الإنسان الغيبوبة أو الموت الإكلينيكي لا يحق لزوجته أو أهله عامة ترتيب أحكام بموته دون مفارقة الروح لجسده مفارقة تامة، وبالتالي لا يحق لهم الميراث ولا التبرع بأعضائه كما يقول البعض، موضحاً أن هناك أناساً تعود للحياة من الغيبوبة بعد وقت، وفق ما هو مرصود في جميع أنحاء العالم.
وأعرب عن خشيته مع تسهيل الأمر إلى تحوله إلى تجارة يستفيد منها القادرون مالياً فقط هنا أو هناك، في ظل وجود من يقومون بالاتجار بأعضاء البشر، رغم أن الاتجار جريمة في القرآن والسُّنة والقانون المصري.
تاج الدين: الأمر موجود في كل الدول العربية ويرفع المعاناة
جدل مؤثر
من جانبه، يرى الباحث في الفكر الإسلامي د. عصام جمعة، في حديث لـ”المجتمع”، أن الجدل الديني سيؤثر بلا شك على قناعات المصريين في نسب التبرع وتوثيقه، في ظل وجود أسباب أخرى تساهم في العزوف عن الأمر من الأساس، ومنها الخوف من إنهاء حياة بعض المرضى وعدم التحقق من موتهم.
وأضاف جمعة أن ثقافة عقد اللجان للإشراف والمتابعة وتنفيذ الضوابط الموضوعة يلاحقها تاريخ من عدم الثقة والضبابية وعدم الشفافية في اللجان عموماً بمصر، وبالتالي فإن الحديث عن وجود لجان لمتابعة الضوابط الشرعية للضوابط أمر يستحق الاعتناء لتغيير صورتها الذهنية مبدئياً لدى الشعب.
وتساءل جمعة: الأزمة الأخرى هي أن التبرع بالأعضاء هل سيصل لمن يستحق أم من يدفع أكثر؟ مضيفاً أن هذه المعضلة الكبرى التي قد تواجه مسألة التبرع في ظل وجود تاريخ سلبي عن وصول من يدفع أكثر لما يريد في أمور أخرى في مصر، بصورة وصلت للتحقيق والملاحقة القضائية.
وأشار إلى أن هناك حالة إجماع على حرمة بيع الأعضاء، سواء بين الموافقين على التبرع بشروط أو المعارضين للتبرع بالأساس، ولكن المخاوف تزداد في ظل عدم وجود ثقافة مجتمعية إلى استغلال العوز لدى بعض الناس في التجارة بالأعضاء البشرية، وهو أمر غير قانوني وسقطت فيه مافيا وعصابات في أوقات سابقة.
وطالب من يهمه الأمر إلى الدعوة إلى حوار مجتمعي حول الأمر، ليصدر أي تصور في القضية بمشاركة مجتمعية، تساهم في التوعية والتثقيف، مؤكداً أنه بدون إشراك المجتمع في الأمر سيظل الموضوع في مساحة نخبوية وحكومية فقط.
كُريمة: النقل حرام شرعاً وعلى المصريين الأخذ بالأحوط
إعادة للواجهة
وبدأت إجراءات إعادة قضية التبرع بالأعضاء للواجهة المصرية متتابعة بشكل لافت في الفترة الأخيرة وحتى وقت كتابة هذه السطور، وفق رصد مراسل “المجتمع”.
البداية كانت من مستشار رئيس الجمهورية لشؤون الصحة والوقاية د. محمد عوض تاج الدين الذي كشف عن أنه يوجد اتجاه رسمي لدراسة إضافة اختيار التبرع بالأعضاء في بطاقة الرقم القومي على غرار ما هو معمول به في كثير من بلدان العالم، وفق تصريحاته الرسمية.
وأعلن عن بدء دراسات وتجارب ما قبل الإكلينيكية لزرع الرئتين أو الرئة في مصر، موضحاً أن عملية التبرع بالأعضاء موجودة في كل الدول العربية، وهو أمر يرفع المعاناة عن كاهل المرضى.
ولم تمض أيام كثيرة، حتى أصدر الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي قراراً بتطوير معهد ناصر ليصبح مدينة طبية عالمية، تضم داخلها أكبر مركز إقليمي لزراعة الأعضاء في مصر والشرق الأوسط وأفريقيا بالتعاون مع كبرى الشركات العالمية المتخصصة بهدف إنشاء منظومة متكاملة تشمل قاعدة بيانات مميكنة لعمليات الزرع، والمرضى، والمتبرعين.
بالتزامن مع هذا التصريح الرسمي، تجددت تصريحات عديدة لمشاهير من الوسط الفني ومغمورين بالشارع المصري تعلن توثيق التبرع بأعضائها بعد الوفاة في مصلحة الشهر العقاري، المعنية بأمور التوثيق، والتابعة لوزارة العدل، التي دخلت هي بدورها أيضاً على الخط، حيث أصدرت منشوراً رسمياً، في 30 سبتمبر الماضي، يوضح طريقة توثيق إقرارات وشروط التبرع بالأعضاء البشرية، بناء على تكليف وزير العدل المستشار عمر مروان، الذي حمل رقم (28) لسنة 2022.
وقانوناً، أصدرت مصر القانون رقم (5) الصادر عام 2010، لتقنين زراعة الأعضاء والتبرع بها، لمواجهة تصاعد عمليات الاتجار بالأعضاء البشرية، بعقوبات تصل إلى بالسجن المؤبد وغرامة تصل إلى 300 ألف جنيه، لمن يتاجر بالأعضاء البشرية.
جدل الفتاوى
ويسيطر على الفتاوى الدينية بمصر حول التبرع بالأعضاء الانقسام ما بين رافض ومحرم أو مؤيد بشروط.
قائمة الرافضين، يتقدمها الإمام الشيخ الراحل محمد متولي الشعراوي، الذي يعتبر مرجعية للعديد من المشايخ الرافضين للتبرع حالياً.
وأفتى الشيخ الراحل محمد متولي الشعراوي منذ التسعينيات بحرمة التبرع، قائلاً: إن أعضاء الإنسان ليست ملكه حتى يتصرف فيها، وإنها أمانة عليه إيصالها لخالقها كما هي.
وأكد الشعراوي عدم جواز التبرع ولا الشراء؛ لأن التبرع بالشيء فرع الملكية له، وبيع الشيء فرع الملكية له، وما دمت لا تملك ذاتك، ولا أبعاضك فلا يصح أن تتصرف فيها لا بالتبرع ولا بالبيع، وفق رأيه.
جمعة: هناك أسباب كثيرة لعزوف المصريين عن التبرع
في المنتصف يقف أستاذ العقيدة بجامعة الأزهر رئيس الأروقة العلمية والقرآنية بالأزهر الشريف د. عبدالمنعم فؤاد، حيث يرى عدم جواز نقل الأعضاء كونها ملكاً للخالق وليست ملكاً للإنسان، لكنه يقر بوجود اختلاف بين العلماء في ضوابط وشروط التبرع بالأعضاء بعد الوفاة، مع ميله لعدم الجواز، واحترامه للرأي الآخر الذي يجيز التبرع بالأعضاء.
في مسار التأييد الشرعي بشروط، يتصدر المشهد مستشار رئيس الجمهورية للشؤون الدينية د. أسامة الأزهري الذي أفتى بجواز التبرع بالأعضاء بعد الوفاة، ولكن بشروط، في مقدمتها ألا يكون نقل العضو أو التبرع به في مقابل المال.
وفي هذا السياق، أفتى مفتي الديار المصرية د. شوقي علام بجواز التبرع بالأعضاء ولكن بشروط، في مقدمتها، وفق فتوى حديثة على موقعه الرسمي، أن يكون بدون مقابل مادي مع الالتزام بعدد من الضوابط الشرعية للترخيص بنقل الأعضاء الآدمية من الحي إلى الحي ومن الميت إلى الحي.
وأوضح أن ذلك ما ذهب إليه المفتون السابقون للديار المصرية ومنهم: الشيخ حسن مأمون؛ في فتواه سنة 1959م، والشيخ أحمد هريدي؛ في فتواه سنة 1966م، والشيخ جاد الحق علي جاد الحق؛ في فتواه المنشورة سنة 1979م، والشيخ محمد سيد طنطاوي؛ في فتواه المنشورة سنة 1989م.
وأشار علام إلى أن ذلك ما يتبناه كل من مفتي الديار المصرية الأسبق د. نصر فريد واصل، وشيخ الأزهر الشريف د. أحمد الطيب، ولجنة الفتوى بالأزهر عن هذا الموضوع سنة 1981م، ومجمع البحوث الإسلامية في عام 1997.