الفقر، تلك الكلمة التي باتت تلاحق اليوم أكثر من ثلث السكان الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة، وتقض مضاجعهم وتجعلهم يعيشون تحت خطه وخطره.
والفقر ليس مجرد كلمة أو وصف يطلق على من لا يملك المال، بل هو آفة اقتصادية لها العديد من الانعكاسات والآثار النفسية والاجتماعية بل وحتى الأمنية والسياسية على مجتمع يعيش تحت مظلة احتلال مسيطر وحكم سلطة لا تملك الكثير من الصلاحيات.
ويصادف 17 أكتوبر من كل عام “اليوم العالمي للقضاء على الفقر”، ويعود إحياؤه للعام 1987، عندما اجتمع فيه نحو 100 ألف شخص تكريماً لضحايا الفقر في ساحة تروكاديرو بباريس، التي وُقِّع بها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948.
زيادة في المعدلات
ووفقاً لآخر البيانات الصادرة عن جهاز الإحصاء الفلسطيني، فإن معدلات الفقر في فلسطين ارتفعت في العام 2022 ووصلت لـ29.2% مــن إجمالي المواطنين في الضفة وغزة، بعد أن كانت 25.7% في العام 2011، كما ســجلت الإحصائيات ارتفــاع معــدل الفقــر المدقع مــن 12.7% إلى 16.8%.
ويعـود سـبب هـذا الارتفاع الكبير إلى زيـادة مؤشر الفقـر في غـزة علـى الرغـم مـن انخفاضه في الضفـة، حيـث تبلـغ نسـبة الفقـر في القطـاع 53%، وهـو مـا يفـوق المعدل السائد في الضفــة 13.9% بأربعة أضعاف.
ويرتبط الفقر بالعديد من العوامل الأخرى من بينها حجم البطالة والحد الأدنى للأجور ومستوى الدخل وعدد أفراد الأسرة، فمن المنطقي أن معدلات الفقر تزيد بيــن الأفراد الذيــن ينتمون لأسر كبيرة الحجــم، كما يشــكل جنــس رب الأسرة عاملاً إضافيــاً يعطــي مؤشراً لاحتمالية التعــرض للفقــر.
كـما يعتـبر مـكان الإقامة مـن جملـة المعايير التـي تسـاهم في حـدوث تفـاوت في نسـب الفقـر في فلسطين، حيـث تشـهد مخيمات اللاجئين أعلـى نسـب للفقــر، حيث بلغــت 38.1% مقارنــة بــ 24.4% في المدن، و13.9% في المناطق القرويــة.
تغير في مفهوم الفقر
ومحلياً، مـرّ مفهـوم الفقـر بمرحلتين في التعامـل معـه مـن حيـث الإحصائيات وآليــة تحليلهــا، فقد اعتمــدت المرحلة الأولى علــى المفهوم “النقــدي” وفقــاً للتعريــف الرســمي الــذي وُضع عــام 1997 كمقيـاس وحيد للفقـر، الـذي اقتـصر علـى توفـر الاحتياجات الأساسية للأسرة.
وفي العام 2020، وضع الجهـاز المركزي للإحصاء الفلسـطيني تعريفاً جديداً للفقـر أطلق عليه “الفقر متعـدد الأبعاد”، وهــو مفهــوم يعــزز الحقــوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافيــة للأسر الفقــيرة.
ويتألــف هــذا المفهوم مــن الجوانــب النقديــة وغيــر النقديــة، ويفحــص أوجــه الحرمــان المادية والاجتماعية التــي يعاني منهــا كل مواطــن عبــر 10 مؤشرات في ثلاثة أبعــاد متســاوية الأهمية، منهــا الصحــة (مؤشران)، والتعليــم (مؤشران)، ومســتوى المعيشة (6 مؤشرات)، وهــو مــا يزيــد مــن دقــة تحديــد الفئــات الفقيــرة في المجتمع.
الفقر في قطاع غزة
في قطاع غزة يبدو الفقر أكثر وضوحاً من نظيره في الضفة الغربية، وذلك نتيجة الحصار المتواصل على القطاع منذ العام 2007، وتحكم الاحتلال بالمعابر ومساحة الصيد والحروب الأربعة التي شنها وما رافق ذلك من تدمير واسع للبنية التحتية ومنشآت تجارية واقتصادية حيوية.
كما تستمر سـلطات الاحتلال في فـرض قيود مشددة على الصــادرات والــواردات مــن والى القطــاع، مــا عــزز ارتفــاع نســب البطالــة في صفــوف المواطنين الذيــن يمارسون مهـنًا كالصيـد والزراعـة وأعمال البنـاء والصناعـات المختلفة، التـي تدهـورت نتيجـة اسـتمرار الحصـار.
كل ذلـك ساهم في تعميـق الأزمات الاقتصادية للمواطنين، حيـث يعاني 53% مـن سـكان القطاع الفقر، في حين يعاني 68.5% من انعــدام الأمن الغذائي، من بينها أسر تعاني من انعدام الأمن الغذائي الشديد ومن فجوة استهلاك كبيرة تشكل نسبتها 40.6%، وأسر تعاني من انعدام الأمن الغذائي بدرجة متوسطة أي أنها تواجه صعوبات في توفير كمية ونوعية الطعام المستهلك وتبلغ نسبتها 23.6%.
الاحتلال السبب الرئيس
يعتبر استمرار الاحتلال وسيطرته على المناطق السبب الرئيسي للفقر، فهو من ناحية يمنع الفلسطينيين من استغلال ثرواتهم الطبيعية لا سيما في الأراضي المصنفة “C”، ومن ناحية أخرى يعمل على إبقاء الاقتصادي الفلسطيني تابعاً للاقتصاد “الإسرائيلي”.
وبشكل غير مباشر، تعمل “إسرائيل” على استغلال حالة الفقر والبطالة التي تعاني منها نسبة لا بأس بها من الشعب الفلسطيني واستثمارها لأهداف سياسية وأمنية، من خلال ما بات يعرف بـ”التسهيلات الاقتصادية”.
وطوال العقود الماضية، عملت “إسرائيل” على تحويل الضفة والقطاع لسوق للمنتجات “الإسرائيلية” ومصدراً للأيدي العاملة الرخيصة، وأصبحت المناطق المحتلة تشكل ثاني أهم مستورد للبضائع “الإسرائيلية” بعد الولايات المتحدة الأمريكية.
كما لا تزال “إسرائيل” ماضية في تحكمها بالمعاملات التجارية الفلسطينية من خلال استمرارها في التحكم في المعابر والحدود وتقييد حركة الفلسطينيين بين الضفة الغربية وقطاع غزة؛ مما يعرقل التواصل الجغرافي والاقتصادي بين مناطق السلطة الفلسطينية.
أسباب ذاتية
في المقابل، يرى فريق من المختصين أن الاحتلال ليس هو السبب الوحيدة لارتفاع نسب الفقر بين الفلسطينيين، حيث تعاني السلطة الفلسطينية من غياب الخطط الإستراتيجية بعيدة المدى للحد من هذه الآفة.
وفي أحسن الأحوال تكتفي الحكومة الفلسطينية بصرف مخصصات شهرية رمزية ومتقطعة للأسر الفقيرة عبر وزارة الشؤون الاجتماعية، وسط غياب شبه تام للمشاريع التشغيلية التي تحول الفقير لمنتج.
كما عجـزت الحكومـة الفلسـطينية عن القضـاء عـلى الفقـر أو التخفيـف مـن حدتـه، نتيجـة عـدة أسـباب أهمهـا اسـتمرار الأزمة المالية التـي تعاني منهـا بفعل تراجـع التمويـل الدولي لهـا، إضافـة إلى الاهتمام بقطـاع الأمن علـى حسـاب تطويـر القطاعـات الاجتماعية والصحيـة والتعليميـة.
ولم تنجح الحكومة بتحديد الأهداف الواقعية للاقتصاد المحلي عبر زيادة معدل نمو الدخل القومي وتحقيق العدالة في التوزيع، وتخفيض مستوى البطالة عبر إيجاد فرص عمل جديدة، وزيادة نسبة التمويل الذاتي للمشاريع ضمن الموازنة العامة.