من البديهيات عند طلاب العلم أن الله تعالى لم يبح الإكراه في قبول العقيدة فقال تعالى: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ۚ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (البقرة: 256)، وقال تعالى: (وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) (الكهف: 29)، إلا أن منكري السُّنَّة لم يلتفتوا إلى هذه الآيات وزعموا أن جامعي السُّنَّة لم يكتبوها مختارين، بل كتبوها مكرهين، وأن الأمراء هم الذين أكرهوهم على كتابتها، ولولا إكراه الأمراء ما كتبوها، وما كنا سنسمع عن رجل اسمه البخاري، أو مسلم أو غيرهما!
ويستندون في هذه الشبهة على كلام كتبه أستاذهم المستشرق اليهودي جولد زيهر عن الإمام الزُهري رحمه الله نقله محرفاً كعادته في التعامل مع التراث الإسلامي، ولو كان نقله “صواباً” ما وجد فيه منكرو السُّنَّة الآن أو شياطين الإنس مغمزاً في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
بيان بطلان هذه الشبهة ونقضها
معلوم أن تدوين المعارف والعلوم لم يكن منتشراً في صدر الإسلام، بل كانوا يعتمدون على الحفظ، وقوة الذاكرة، وقد كان هذا ملاحظاً في كل العلوم العربية والشرعية، وليس مقصوراً على علم الحديث وحده، لأن التدوين بدأ بطيئاً في أواخر القرن الثاني الهجري، ثم انتشر أمره في القرنين الثالث والرابع، وبلغ ذروته في الرابع كما هو معروف عند كل الباحثين، والعصر الذهبي للتدوين والتأليف في كافة مجالات العلم والمعرفة يتمثل في القرنين الثالث والرابع.
الواقعة قبل التحريف
جاء في طبقات ابن سعد وتاريخ ابن عساكر أن الإمام الزهري كان يمتنع عن كتابة الأحاديث الشريفة للناس، ويكتفي بإسماعهم الحديث لئلا يتكلوا على الكتابة ويهملون الحفظ، وفي عهد هشام بن عبدالملك أشار على الزهري أن يكتب لولده –ولد هشام– أربعمائة حديث ليحفظها، فامتنع الزهري، لكن هشاماً ألح عليه حتى وافق الزهري(1)، ولما كتب الأحاديث الأربعمائة خرج فقال للناس، الذين كانوا يطلبون أن يكتب لهم الأحاديث فيمتنع، قال لهم بصوت عال: “أيها الناس: إنا كنا منعناكم أمراً –أي كتابة الأحاديث لهم– وقد بذلناه الآن لهؤلاء، وأن هؤلاء الأمراء أكرهونا على كتابة الأحاديث، فتعالوا حتى أحدثكم بها، فحدثهم بالأربعمائة حديث”(2).
هذه هي الواقعة بكل ملابساتها، ومما يحمد للزهري فيها أنه أبرأ ذمته، وساوى بين جميع طلاب العلم، وبين ابن الخليفة كما وضَّح للناس السبب في كتابه الأحاديث لابن هشام وهو إلحاح هشام عليه كما جاء ذلك واضحاً في كلامه، الذي رواه ابن عساكر وابن سعد، وشاركهما الخطيب في ذكره.
الواقعة بعد التحريف
كان المستشرق اليهودي زيهر أول من حرف عبارة الإمام الزهري تحريفاً خطيراً أفسد المعنى المراد عند الإمام الزهري.
فقد حرف زيهر عبارة الزهري “أكرهونا على كتابة الأحاديث” إلى قوله: “أكرهونا على كتابة أحاديث”!
والفرق بين العبارتين كبير وخطير:
فعبارة الإمام الزهري معناها أن هشاماً أكرهه على كتابة أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومعنى عبارة زيهر أن هشاماً أكره الزهري على كتابة أحاديث مفتراة لم يقلها النبي صلى الله عليه وسلم.
والمقصود من هذا التحريف عند زيهر ومشايعيه أن الزهري كان أول من تعمد الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تتابع جامعو السُّنَّة في “فبركة الأحاديث” دون أن يكون لها من الصحة نصيب.
هذه هي الحقيقة، وأنت ترى أن هذه الشبهة لم تقم على أي أساس سوى التحريف المعتمد، ولا عجب، فإن اليهود –ومنهم زيهر– لهم مهارة في التحريف والخيانة، فقد حرفوا التوراة وشوهوا صورة الحق فيها، فما الذي يمنع زيهر من تزوير النصوص الإسلامية تزويراً يحقق بعض أو كل مطامع اليهود في تشويه الإسلام، أو القضاء عليه؟! وليست مشكلتنا اليوم مع زيهر، فقد هلك هو وهلك معه حقده على الإسلام، وإنما مشكلتنا مع هؤلاء “الخونة” الذين اتخذوا من سُّنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم غرضاً يطلقون عليه سهامهم الطائشة بسوء نية، وسوء لسان.
وتراهم لم يقفوا عند المعنى الذي أراده سلفهم “زيهر” بل ضخموا هذه “الكذبة” وادعوا أن السُّنَّة “كلها” كتبت في قصور الأمراء وعلى أهوائهم، وهي الشبهة التي تحدثنا عنها من قبل ووضحنا بأسلوب علمي موضوعي لا تهافت فيه ولا تحامل بطلان هذه الشبهة.
امتناع الزهري أولاً
وليس في امتناع الزهري عن كتابة الحديث أولاً، ولا في إعلانه عن كراهيته للكتابة أمام هشام ثانياً، ليس في هذين ما يمكن أن يكون ترشيحاً وتقوية لا دعاءات منكري السنة الآن، ولا لزيهر من قبل.
زيهر يقول: إن الإمام الزهري اعترف بصراحة عن تزوير أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم استجابة لرغبة الخليفة هشام بن عبد الملك، وهذا تحريف متعمد لكلام الإمام الزهري، ولا يُفهم منه أن موقف الزهري كان لاعتماده أن السُّنَّة مزورة، لأن هذا الموقف وقف مثله الخليفة الأول أبو بكر الصديق من جمع القرآن في مصاحف كما وقفه زيد بن ثابت الأنصاري حين عهد إليه الشيخان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما بجمع القرآن، وقال: فوالله لو كلّفوني نقل جبلٍ من الجبال ما كان أثقل عليَّ ممّا أمرني به من جمع القرآن، قلت: كيف تفعلان شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟، قال: هو والله خير، فلم يزل أبو بكر يراجعني حتّى شرح الله صدري للذي شرح به صدر أبي بكر وعمر، فتتبّعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال، ووجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري، لم أجدها مع غيره (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ) (التوبة: 128)، حتّى خاتمة براءة، فكانت الصحف عند أبي بكر حتّى توفّاه الله، ثمّ عند عمر حياته، ثمّ عند حفصة بنت عمر”(3).
والأمور العظيمة يخشى الأتقياء وأهل الورع الإقدام عليها تقديراً لها، ورؤية أنفسهم أضأل ما يكونون أمام عظمتها مثل الفُتيا، فما أكثر من كان لا يجرؤ عليها من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم أهل للفتوى والقضاء.
فهل يقول هؤلاء المنكرون لحجية السُّنَّة: إن معارضة أبي بكر رضي الله عنه أولاً في جمع القرآن في مصاحف كانت لريب في نفسه نحو القرآن؟
وهل يقولون: إن زيد بن ثابت رضي الله عنه كره أن يقوم بجمع القرآن من صدور الحفاظ، ومن الرقاع لاعتقاده أن القرآن الكريم لا يوثق بروايته وحفظه؟!
إنهم لن يستطيعوا أن يقولوا بهذا، ونسألهم –بناء على ما تقدم– ما الفرق بين موقفي أبي بكر وزيد بن ثابت، وبين موقف الزهري(4)؟
فهل يرتدع منكرو السُّنَّة ويثوبون إلى رشدهم؟
_____________________________________
(1) تاريخ دمشق، ابن عساكر، تحقيق: علي شيري، دار الفكر، بيروت، ط1، 1419هـ/ 1998م، (55/ 333).
(2) الشبهات الثلاثون المثارة لإنكار السُّنة، المؤلف: د. عبدالعظيم المطعني، 1/176.
(3) صحيح البخاري: عن زيد بن ثابت، الرقم (4986)
(4) أصل هذه الشبهات من كتاب: “هذا بيان للناس.. الشبهات الثلاثون المثارة لإنكار السنة النبوية”، د. عبدالعظيم المطعني، مكتبة وهبة، طبعة 1420هـ/ 1999م.