يتميز القرآن الكريم، باعتباره معجزة بلاغية، بوجود العديد من الأساليب البلاغية فيه، إذ تكمن أهمية علم البلاغة في فهم عذب القرآن وجماله، والغرض منه، وأسراره وحكمته وأخباره، وتفسير آياته والأهم فهم معجزات كتاب الله العزيز.
لذلك من الضروري الإلمام بالقواعد البلاغية، وبوجود العديد من الأساليب البلاغية، كتاب الله يكمن في استمرار بلاغته وخطابه في كل العصور، فلطالما كانت البلاغة لصيقة الأدب عند ظهورها، حيث سادت الحضارة العربية تراجع وانحطاط على جميع المستويات حتى الثقافية ومنها الجانب الأدبي، فتاريخ البلاغة يعود إلى ما قبل الإسلام في العصر الجاهلي، وكانت لصيقة الأدب وبالأخص الشعر لما كان هو السائد إلا أنها لم تكن على شكل قواعد، لكنها كانت جلية في الصور الفنية الجميلة، وحسن بنائها وفي أساليب قوية، يظهر فيها المعنى جلي واضح، وحين جاء القرآن الكريم كان رافداً أساسياً للبلاغة العربية بما قدّمه من أساليب الإعجاز وقوّة البيان الشيء الذي جعل العرب على اختلاف مشاربهم منذهلين أمامه لا يملكون غير الدهشة والإعجاب، ثم إن نزول القرآن الذي يمثل البلاغة في عظمتها ورقيها، من أساليب الإعجاز، وقوة البيان، والسلاسة وحسن الرتابة، كان مبلغه على النفوس والقلوب طيباً، فملك العرب على اختلاف مشاربهم، فحقق بذلك، شرط البلاغة المتأخر من شروطها وهو التخييل، إذ لم يتوقف القرآن الكريم بلاغياً على ما جاء به من فن القول وجماله كجزء لا يتجزأ من البلاغة العربية، والسائد آن ذاك، بل فتح الباب على مصراعيه للخيال الواسع في تطرقه عن الغيبيات كيوم الحساب والملائكة، وجعل يصفها وصفاً دقيقاً مسترسلاً، وانعكس ذلك على الذهنية العربية، فوسع من قدرة الاستيعاب الأدبية، في عصر كان ذهن العربي قاصراً وضيق على قدر ضيف البيئة التي يعيش فيه، وإن كان ملتصقاً باللغة العربية.
ومن الأمور المسلّم بها أن لعلمي البيان والبديع خصائص فريدة، ومزيد من الاختصاص بتفسير كلام الله تبارك وتعالى، لأن ذلك وسيلة لإظهار خصائص البلاغة القرآنية، وما تشتمل عليه الآيات من تفاصيل المعاني، وبالطبع إظهار وجه الإعجاز، لذلك كان اسمهما سابقاً “دلائل الإعجاز”، قال تبارك وتعالى: (أولم يكفهم أنّا أنزلنا عليك الكتاب يُتلى عليهم إن في ذلك لرحمةً وذكرى لقومٍ يؤمنون)، فلا بد من دراسة هذا العلم وتدبّره وفهم معانيه، ولا سبيل لذلك إلا بتعلم علوم البلاغة، لأن هذا العلم من أهم العلوم التي يجب أن يوليها طلاب العلوم الشرعية اهتماماً كبيراً، فقد نصّ على ذلك صراحةً الإمام الزمخشري، في كتابه “الكشاف”، نقلاً عن الجاحظ، في كتابه “نظم القرآن”: (إن الفقيه وإن برز على الأقران في علم الفتاوى والأحكام، والواعظ وإن كان من الحسن البصري أوعظ، وإن كان أنحى من سيبويه، واللغوي وإن علك اللغات، أي هضمها وأجادها وفهمها حق الفهم، بقوة لحييه لا يتصدى أحد لسلوك تلك الطرائق، ولا يغوص على شيء من تلك الحقائق، إلا رجل قد برع في علمين مختصين بالقرآن، وهما، علم المعاني وعلم البيان، وتمهل في ارتيادهما آونة وتمهل في التنقير عنهما أزمنة، وبعثته على تتبع مظانهما همة).
بالتالي، إن اللغة العربية من أشرف اللغات وأعلاهـا مكانة بها نزل القرآن الكريم الذي زاد من رفعتها وانتشارها في العالم الإسلامي وغيره، ومن أبرز من اختص في علم البلاغة وبرع فيه، العالم الجليل عبد القاهر الجرجاني، الذي يعد إمام البلاغة والنحو بلا منازع، والذي يشهد له الكثير من الفطنة والذكاء، من خلال مجهوداته الكبيرة ومؤلفاته القيمة مثل (دلائل الإعجاز، واﻟﺟُﻣل ﻓﻲ اﻟﻧﺣو، وﺷرح اﻟﺟﻣل ﻓﻲ اﻟﻧﺣو، واﻟﻌواﻣل اﻟﻧﺣوﯾﺔ، والمقتصد في شرح الإيضاح)، فقد برع الجرجاني في ﻓﻧون ﺷﺗﻰ ﺣﯾث ﯾﻌد ﻣن ﻋﻠﻣﺎء اﻟﻧﺣو واﻟـﺻرف والبلاغة واﻟﻧﻘد واﻷدب، وذاع صيته، وﻛﺎن ذا ﻣﻛﺎﻧﺔ رﻓﯾﻌﺔ ﻓﻲ ﻛل ﻫذﻩ اﻟﻔﻧون، وذﻟك ﺛﻣرة ﻟﺛﻘﺎﻓﺗﻪ اﻟواﺳﻌﺔ واطلاﻋﻪ المتواصل، لتنتهي إليه رئاسة النحو في زمانه، وهو المنتمي للمدرسة البصرية، رغم أنه تتلمذ على يد نحاة بغداد ومؤلفاتهم، هذا العالم أثرى المكتبتين العربية والإسلامية بمؤلفاته النحوية التي كان لها الأثر البارز في إثراء علم النحو والصرف والبلاغة وعلمي البيان والمعاني.
عالمنا الجليل لم يُذكر تاريخ ميلاده وعمره، هو أبو بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني، الإمام النحوي اللغوي والفقيه، ذائع الصيت، نشأن في مدينة جرجان الواقعة بين طبرستان وخراسان، في بلاد فارس، كانت حياته كلها تقشف وورع، ونشأ في ظل أسرة فقيرة بعيدة عن رغد العيش، فكان فقره عائقاً بينه وبين تلقيه للعلم، ما جعله يأخذ علومه من جرجان، وراح يقرأ كل ما وقعت يداه عليه، في اللغة والنحو والبلاغة والأدب، ما نمّى فيه حب هذه العلوم، إلى جانب ما يملكه من ملكات واضحة جعلته يسبر أغوار كل أسرار البيان العربي، فمن الممكن القول إنه كان موسوعي المعرفة لبراعته في الأدب والنحو والبلاغة، حيث تلقى هذه العلوم عن شيخين جليلين هما، (أبو الحسين محمد بن الحسين بن عبد الوارث النحوي الفارسي، وأبو الحسن علي بن عبد العزيز بن الحسن بن علي بن إسماعيل الجرجاني)، وأما تلامذته فهم كثر، منهم: (أحمد ﺑن إﺑراﻫﯾم ﺑن ﻣﺣﻣد اﻟﺷﺟري أﺑو ﻧﺻر، أﺣﻣد ﺑن ﻋﺑد اﷲ اﻟﻣﻬﺎﺑﺎذي اﻟﺿرﯾر اﻟﻧﺣوي، أﺑو زﻛرﯾﺎ ﯾﺣﯾﻰ ﺑن ﻋﻠﻲ ﺑن ﻣﺣﻣد ﺑن اﻟﺧطﯾب اﻟﺗﺑرﯾزي، أﺑو اﻟﺣﺳن ﻋﻠﻲ ﺑن أﺑﻲ زﯾد ﺑن ﻣﺣﻣد ﺑن ﻋﻠﻲ اﻟﻔﺻﯾﺣﻲ) وغيرهم، هذا العالم الجليل كان حسن السيرة وطيب المعشر، فقد أثنى عليه الكثير من العلماء، قالوا عنه: (اﻻﺗﻔﺎق ﻋﻠﻰ إمامته، وأﻧﻪ ﻓرد ﻓﻲ ﻋﻠﻣﻪ اﻟﻐزﯾر، وﻫو اﻟﻌﻠم اﻟﻔرد ﻓﻲ اﻷﺋﻣﺔ اﻟﻣﺷﺎﻫﯾر، وأنه من كبار أئمة العربية وشيوخها، ومن علماء المعاني والبيان، وأول من دون علم البيان، وأنه مقصد العلماء من كل الجهات، وغير ذلك).
وبالغوص في مؤلفات الجرجاني يتبين لنا أنه قد ألمّ بأغلب ما صنّفه السابقون عليه في علوم الدين والفلسفة والكلام والأدب واللغة، وعلم البلاغة الذي يعد من أجلّ العلوم وأشرفها، لأنها نشأت في ظل الدراسات القرآنية والعربية، حيث كان لإمام البلاغة، الأثر الكبير والمكانة العظيمة في تاريخ البلاغة العربية، فهي لم تكن قبله إلا أفكاراً متناثرة، وعبارات مفرقة، ومعلومات متداخلة، وفي أحيانٍ كثيرة ربما كان يتخللها بعض الخطأ، ولكنه بوضعه كتابي (دلائل الإعجاز، وأسرار البلاغة) قد أزاح عن هذا العلم ما كان يكتنفه من غموض، حيث بذل في سبيل تلك الغاية جهوداً جبّارة حتى استطاع في النهاية أن يضع لنا أسس علم المعاني، وعلم البيان، وعن ذلك قال الإمام فخر الرازي: (وفق الله تعالى، الإمام مجد الإسلام، عبد القاهر الجرجاني حتى استخرج أصول هذا العلم وقوانينه، ورتب حججه وبراهينه، وصنف في ذلك كتابين لقب أحدهما (دلائل الإعجاز)، والثاني (أسرار البلاغة)، وجمع فيهما من القواعد الغريبة، والدقائق العجيبة، والوجوه العقلية والنقلية، والشواهد واللطائف الأدبية، والمباحث الغريبة، ما لا يوجد في كلام من قبله من المتقدمين، ولم يصل إليها غيره من العلماء الراسخين)، فقد خطى الإمام الجرجاني بهذا العلم، خطوات عظيمة للنهوض به إلى الإمام، حتى وصل إلى مرحلة النضج والاكتمال، لذلك نجده في كتابيه المُشار إليها أعلاه، أنه بنى منهجاً واضحاً ومتميز المعالم، محدد الصفات، عالج فيه المسائل معالجة أدبية صرفة، وأﻗﺎم ﻧظرﯾﺗﻪ اﻟﻌظﯾﻣﺔ ﻓﻲ اﻟﻧظم ﻋﻠﻰ أﺳس ﻣن ﺗرﻛﯾب الكلام وتأليف النحو، حيث ألبسها ثوباً جديداً لم يكن معروفاً من قبل.
لقد اتبع إمام البلاغة أسلوباً فريداً من خلال قراءته لمعارف سابقيه، وقراءة التراث اللغوي والنحوي والبلاغي، فاستوعب ما فيه وشربه وفهمه بشكل ممتاز، ثم أخرج ما تعلمه للدارسين بثوبٍ جديد، فاتسم البحث البلاغي عنده بالخصوبة واﻟﻌﻣق ودﻗﺔ اﻟﻧظر وﺳﻌﺔ اﻷﻓق، ﺣﯾث ﻛﺎن ﯾﺣﺗﻛم إﻟﻰ اﻟذوق وﯾﻌﻣل ﻋﻘﻠﻪ ﻓﻲ اﺳﺗﺷﻔﺎف ﻣراﻣﻲ اﻟﻧص واﺳﺗﻛﻧﺎﻩ أﺳرارﻩ وﺳﺑر أغواره، فالجرجاني يعد عالماً بلاغياً لأنه نهج منهج البلاغيين في التماس الحد الجامع المانع لكل فن من فنون البلاغة، وعنايته باستخراج الأقسام وسمولها لعلم المعاني والبيان.
بالتالي، تأتي مكانة كتب شيخ البلاغيين، بأنها امتازت على كتب البيان، فيما وضعه السابقون، وقد ﺗﺣدث اﻹﻣﺎم ﻋﺑد اﻟﻘﺎﻫر ﻓﻲ كتاب “دلائل الإعجاز” قائلاً: (ثم إنك لا ترى علماً هو أرسخ أصلاً، وأبسق فرعاً، وأحلى جنى، وأعذب ورداً، وأكرم إنتاجاً، وأنور سراجاً من علم البيان)، والكتاب تحدث أيضاً عن الفصاحة والبلاغة والمجاز والاستعارة والكناية والتشبيه، ولكنه ﻗد ﺟﺎء ﺑﻬﺎ ﻓﻲ ﺛﻧﺎﯾﺎ ﺗﻔﺳﯾرﻩ ﻟﻧظرﯾﺔ اﻟﻧظم اﻟﺗﻲ أدار ﻋﻠﯾﻬﺎ اﻟﻛﺗﺎب، وﻟم ﯾﻔرق ﻋﺑد اﻟﻘﺎﻫر ﺑﯾن البلاغة والفصاحة والبيان والبراعة وكل ما شابه ذلك، مما يعبر به عن فضل القائلين عن أغراضهم ومقاصدهم، ثم أشار إلى نظرية النظم التي بها أحس بجمال النظم العربي وبلاغته، فبين أن الناظم إذا أراد أن ينظم كلاماً في أي غرض، فإنه يبدأ بترتيب المعاني في نفسه أولاً، ثم يحذو على ترتيبها الألفاظ، وعلى ذلك، فالذي يطلق عليه النظم، هو ترتيب المعاني في النفس، لا ترتيب الألفاظ في النطق، فقد كان هدف إمام البلاغة في كتابه “دلائل الإعجاز” أن يبرهن على أن القرآن الكريم معجز بالنظم، وأن بلاغة الكلام لا ترجع إلى ألفاظه، وإنما إلى ما بينها من صلة وارتباط، ولذلك نجد أن الجرجاني أطال الحديث عن نظريته مستعيناً بالصور البيانية في إثباتها.
أما فيما يتعلق بالمؤلف الآخر للعالم اللغوي الجرجاني، “أسرار البلاغة”، وبه أتم ما بدأه في كتابه “دلائل الإعجاز”، إلا أن لهذا الكتاب اهتمام خاص في بيان قيمته البلاغية وسرها من الوجهة النفسية، من حيث مراعاة وقع الكلام في النفس، ومن حيث مراعاة أحسن الطرق لإفهام النفس الإنسانية، وهدف شيخ البلاغيين في هذا الكتاب يختلف عما كان عليه في الكتاب الآخر، فهو لم يؤلفه لغرض ديني، أو مسألة تتعلق بالإعجاز، وإنما ألفه لغاية بلاغية، ووضع فيه الأصول والقوانين وبيان الأقسام، وذكر الفروق بين العبارات والفنون البيانية، وبذلك يكون دلائل الإعجاز فيه أصول علم المعاني، وفي علم البيان في أسرار البلاغة، فبالرغم من أن الاستعارة والتشبيه والكناية كانت معروفة عند العلماء السابقين، إلا أن الجرجاني درس الأسرار والدقائق التي تشتمل عليها الصور البيانية من استعارة وتمثيل وتشبيه ومجاز، حيث حدد أقسامها وفروعها، وأفاض في ذكر أمثلتها، وتحليلها تحليلاً نفسياً رائعاً، إلى جانب أنه درس الكناية درساً مفصلاً، بالتالي هذه الأبواب التي تطرق إليها من حقيقة ومجاز وتشبيه وتمثيل واستعارة وكناية هي التي جمعت عند المتأخرين باسم “علم البيان”، وكان لعبد القاهر فضل تقسيمها وتحديدها وبيان سر الجمال فيها، وﻗد اﺷﺗﻣل ﻛﺗﺎﺑﻪ أﺳرار اﻟبلاغة ﻋﻠﻰ ﺑﻌض أﻟوان ﻋﻠم اﻟﺑدﯾﻊ ﻛﺎﻟﺗﺟﻧﯾس واﻟﺗطﺑﯾق، واﻟﺳﺟﻊ، والمزاوجة والتقسيم وحسن التعليل والتجريد، ﻓﺎﻗﺗﺻر ﻓﻲ ﻫذا اﻟﻌﻠم ﺑوﺿﻌﻪ ﻓﻲ إطﺎر اﻟﻧظم.
وﻗد اﻫﺗم اﻹﻣﺎم اﻟﺟرﺟﺎﻧﻲ ﻓﻲ ﻫذا اﻟﻛﺗﺎب اﻫﺗﻣﺎﻣاً ﺧﺎﺻﺎً ﺑﺑﯾﺎن أﻣر اﻟﻣﻌﺎﻧﻲ ﻓﻲ اﺗﻔﺎﻗﻬﺎ واختلافها وتجمعها وتفرقها، وأفضل أجناسها وأنواعها، وبذلك يكون عبد القاهر الجرجاني واضعاً لعلم المعاني وواضعاً لعلم البيان، إذ كان يرى أن علوم البلاغة، علم واحد تتشعب مباحثه وتترابط مع بعضها بعضاً، وتتآلف تحت مسمّى واحد ألا وهو علم البلاغة وخصائصه الجمالية، وبذلك يكون إمام البلاغة قد أثرى البلاغة العربية والبيان العربي، إثراء جليلاً، بما كتب في نقد الأساليب وتحليلها، واستنباط الفروق والخصائص فيما بنيها، وبما عرض له من أحكام بلاغية مفصلية، كان لها ولا يزال الفضل في إرساء معالم هذين العلمين.
من هنا، ترجع شهرة الجرجاني إلى كتاباته في البلاغة، فهو يعتبر أحد أهم مؤسسي علم البلاغة، ويعد كتاباه: (دلائل الإعجاز) و(أسرار البلاغة) من أهم الكتب التي أُلفت في هذا المجال، وقد ألفها الجرجاني لبيان إعجاز القرآن الكريم وفضله على النصوص الأخرى من شعر ونثر، وترك الجرجاني آثاراً مهمة في الشعر والأدب والنحو وعلوم القرآن، من ذلك ديوان في الشعر وكتب عدة في النحو والصرف منها أهمها: كتاب “الإيضاح في النحو” وكتاب “الجمل”، أما في الأدب وعلوم القرآن فكان له “إعجاز القرآن” و”الرسالة الشافية في الإعجاز”، ويرى الجرجاني أن الفصاحة والبلاغة، هما مصدر الإعجاز في القرآن، لا عن طريق تخير الألفاظ ولا الموسيقى ولا الاستعارات وألوان المجاز، وإنما عن طريق النظم، إذ أن نظم القرآن وتأليفه، هما مصدر الإعجاز فيه، ويقول الجرجاني: (فإذا بطل الذي أعجزهم من القرآن في شيء مما عددناه.. لم يبقَ إلا أن يكون في النظم والتأليف).
وبعد أن انتهى من وضع إرثه خدمةً للبشرية والإسلام والمسلمين، وحجز موقعٍ له إلى جانب كبار العلماء في زمانه وكل الأزمنة، توفي شيخ البلاغيين (471 هـ)، لكن علمه مازال باقياً، يغترف منه كل ظمآن إلى المعرفة ويهدي إلى السبيل الصحيح في بيان إعجاز القرآن الكريم، بعد أن وحّد بين ركني العمل الفني، اللفظ والمعنى، وقضى على القسمة الجائرة بين التعبير العاري والمزخرف، ووحد بين اللغة والشعر، وبين النحو والبلاغة، ووضح طبيعة الخلق الفني. فبدا ناقداً متميزاً، أعاد للدرس البلاغي حيويته، وحدد خطوات منهج نقدي استمد أصوله وخصائصه من مادة درسه وهي الأدب، فكان أقرب النظريات النقدية والبلاغية العقلية في تراثنا إلى النقد الأدبي الحديث. وقد استحق أن يكون من كبار أئمة العربية والبيان، كما يقول السيوطي في “بغية الوعاة”.
___________________
(*) كاتب ومفكر كويتي.