باتت الأصوات المحذرة من ظاهرة هجرة الأطباء إلى بلدان أخرى أمرا اعتياديا داخل مصر، في حين لا يواجهها تحرك رسمي ناجز، وهو ما ينذر بأن تتحول الظاهرة لأزمة مزمنة لها تداعياتها الخطرة على القطاع الطبي، حسب مختصين.
اعتياد ظاهرة هجرة الأطباء ظهر في التجاهل الرسمي والإعلامي لما تضمنه تقرير للقوى العاملة في بريطانيا، الذي كشف ارتفاع نسبة الأطباء المصريين المهاجرين إلى بريطانيا بنسبة تزيد على 200% منذ عام 2017 حتى عام 2021.
وبيّن التقرير الصادر مؤخرا أن 435 طبيبا مصريا هاجروا إلى بريطانيا في عام 2017، وارتفع العدد كل عام ليصل العام الماضي إلى 1312 طبيبا. وتأتي مصر بعد الأردن والسودان في دول الشرق الأوسط بالنسبة لعدد الأطباء المهاجرين إلى بريطانيا، حسب ما ذكره التقرير.
استقالة الأطباء
الأرقام التي ذكرها تقرير القوى العاملة البريطاني، تبدو متسقة مع سلسلة من الأرقام المعلنة حول استقالة الأطباء المصريين من وزارة الصحة بهدف الهجرة.
وفق بيان لنقابة الأطباء المصرية، فقد استقال 934 طبيبا خلال 3 أشهر فقط من يناير/كانون الثاني حتى مارس/آذار الماضي، ليصبح العدد الإجمالي للأطباء المستقيلين منذ عام 2016 حوالي 17741 طبيبا، بخلاف المنقطعين عن العمل ومن يحصلون على إجازات طويلة بهدف العمل في الخارج.
وطبقا للدراسة التي أصدرتها وزارتا التعليم العالي والصحة في مارس/آذار 2019، يصل عدد المرخص لهم بمزاولة مهنة الطب حتى آخر عام 2018 -من دون الأطباء على المعاش- نحو 213 ألف طبيب في حين لا يعمل منهم سوى 82 ألف طبيب بوزارة الصحة والمستشفيات الجامعية الحكومية والخاصة وجامعة الأزهر والمستشفيات الشرطية بنسبة 38% فقط من القوة الأساسية المرخص لها بمزاولة المهنة.
وبذلك يكون معدل الأطباء في مصر 8.6 أطباء لكل 10 آلاف مواطن، بينما المعدل العالمي 23 طبيبا لكل 10 آلاف مواطن. ويبلغ عدد خريجي كليات الطب نحو 9 آلاف طبيب سنويا، بينما يعمل 65% من الأطباء خارج البلاد، وفق تصريحات وزيرة الصحة السابقة هالة زايد.
لماذا بريطانيا؟
يقدر إجمالي نفقات الرعاية الصحية في بريطانيا لعام 2021 بنحو 277 مليار جنيه إسترليني، وهو ما يمثل 11.9% من إجمالي الناتج المحلي لبريطانيا.
أما الوضع بمصر فيعد مغايرا تماما، فبينما ينص الدستور المصري على إنفاق 3% من إجمالي الناتج القومي على القطاع الصحي يتم تخصيص أقل من النسبة المقررة.
في ميزانية 2021 – 2022، بلغت قيمة مخصصات الإنفاق على قطاع الصحة حوالي 108.8 مليارات جنيه، في الوقت الذي وصل فيه إجمالي الناتج القومي 7.9 تريليونات جنيه، (الدولار =19.71 جنيها).
ذلك التباين في مخصصات قطاعي الصحة بالبلدين يبرز معه التفاوت في عدد السكان المقدم لهم الخدمة الطبية، حيث يبلغ تعداد سكان بريطانيا نحو 67 مليون مواطن وفي مصر 104 ملايين مواطن.
ورغم أن بلدانا غربية أخرى يرتفع بها المخصص المالي للصحة، غير أن بريطانيا تظل عامل جذب للطبيب المصري لعوامل عدة، أبرزها القرب الجغرافي لوطنهم مقارنة بدول أخرى مثل كندا والولايات المتحدة.
فضلا عن عامل اللغة حيث يدرس الطالب المصري مناهج الطب باللغة الإنجليزية وهو ما يسهل عليه إجراءات الهجرة، مقارنة بدول أخرى مثل ألمانيا التي كانت تمثل الوجهة المفضلة لشباب الأطباء المصريين بغية استكمال الدراسة أو اقتناص فرصة للعمل، أما الآن فصارت بريطانيا قبلتهم الأولى.
إلى ذلك، تعاني بريطانيا من نقص كبير في عدد الأطباء وهو ما يدفعها لاستقبال المهاجرين، وتشير أرقام المجلس الطبي العام إلى أن 7377 طبيبا يحملون مؤهلات إنجليزية من بين 19977 طبيبا بدؤوا عملهم في بريطانيا عام 2021.
ومن بين أسباب ازدياد الهجرة إلى إنجلترا هو تخفيف لندن إجراءات القيود المفروضة على منح تأشيرة الدخول للكوادر الطبية بالتزامن مع معاناة العالم من جائحة “كوفيد-19”.
بيئة طاردة
أسباب عدة تدفع الأطباء المصريين للاستقالة، منها ما يخص المقابل المادي إلى جانب مناخ العمل، الذي يشتمل على النواحي الإجرائية والإدارية ومستوى جودة المستشفيات والتشريعات التي تحكم عملهم.
ويقول الطبيب المقيم بكندا ورئيس لجنة العلاقات الخارجية الأسبق للبرلمان المصري جمال حشمت، إن المناخ الحاكم في مصر طارد للأطباء، لأنهم لا يجدون بعد رحلة تعلم مرهقة أي تقدير وظيفي أو مالي في ظل أوضاع اقتصادية ومعيشية صعبة، بل باتوا ضحايا لحوادث الاعتداءات في المستشفيات الحكومية، ولذلك قرار السفر للخارج بات هو الأقرب للطبيب الجديد.
وفي حديثه للجزيرة نت، يضيف حشمت أن رحلة الطبيب تبدأ منذ تخرجه، حيث من المفترض أن يحصل على درجات علمية ودورات تدريبية متواصلة بحيث يترقى في مهمته وعلمه، وهو ما يجده مناسبا في الخارج أكثر من مصر، بينما تتركه الأخيرة يواجه مكان عمل غير مكتمل التجهيز وضميرا مهنيا موجوعا من ضغوط الحياة.
ويؤكد العضو الحالي بمجلس نقابة أطباء مصر إيهاب الطاهر، أن الطبيب الشاب لا يستطيع عيش الحد الأدنى من الحياة الكريمة إلا إذا عمل في عدة جهات حكومية وخاصة، مما يجد معه صعوبة في التوفيق بين جهات العمل ودراسته العليا وتدريبه.
وفي تصريحات صحفية، يشير عضو مجلس نقابة الأطباء إلى أن الطبيب خلال ساعات عمله الشاقة يواجه العديد من الأخطار، مثل التعرض المباشر إلى العدوى وتحميله عبء نقص أي مستلزمات طبية، والحالة المتردية لمعظم أماكن إقامة الأطباء بالمستشفيات.
ويلفت الطاهر الانتباه إلى تزايد حالات الاعتداء على الأطباء من قبل أهالي المرضى دون وجود قوانين رادعة لحمايتهم أثناء عملهم، لافتا إلى محاسبة الأطباء في قضايا أخطاء المهنة بموجب قانون العقوبات بخلاف كل دول العالم التي توجد تشريعات خاصة للمحاسبة الطبية للتفريق بين المضاعفات المرضية والخطأ الطبي والإهمال الجسيم.
هجرة بلا عودة
في مقال له حمل عنوان “أزمة هجرة الأطباء” رأى مدير تحرير صحيفة أخبار اليوم رفعت فياض، أن العمود الفقري للخدمة الطبية في مصر بدأ يتآكل جراء الهجرة المتزايدة للأطباء.
وأوضح أن بريطانيا اجتذبت في السنوات الثلاث الأخيرة آلاف الأطباء المصريين “بعد أن لمست مستوى التعليم الطبي الجيد عندنا وأصبحت تعينهم بلا معادلة، وللأسف من يهاجر منهم هم بمثابة كريمة الأطباء الشبان عندنا” حسب قوله.
ونفس الأزمة تخص كثيرا من المبعوثين الأطباء حيث -بحسب فياض- لا يعودون إلى الوطن مرة أخرى بعد أن وجدوا مناخا جيدا بالنسبة لهم ماديا وأكاديميا.
وتطرق المقال إلى ما وصفه بالدور السلبي للإعلام الذى كثيرا ما يشوه صورة الأطباء عند حدوث أي مشكلة طبية لمريض وكأن الطبيب هو المتسبب فيها، مشيرا إلى تأسيس عدد من المحامين جمعية مناهضة إهمال الأطباء “أحيانا قبل علاج مرضاهم”، وفق قوله.
وحذر من خطورة ظاهرة هجرة الأطباء، مطالبا بضرورة البحث عن سبل لمواجهتها حتى لا تتفاقم أكثر مما هي عليه الآن.
جهود حكومية
في المقابل، أثنى الطبيب بالمعهد القومي للكبد محمد عز العرب، على جهود الدولة لتحسين القطاع الطبي، وهو ما يؤدي لحل مشكلة هجرة الأطباء.
وأشار العزب -في تصريحات متلفزة- إلى زيادة المخصصات المالية للصحة في الموازنة الجديدة مقارنة بالعام الماضي، ومحاولات توفير التدريب المهني الجيد للطبيب والحماية له خلال تأدية عمله.
وارتفعت قيمة مخصصات الإنفاق على القطاع الطبي للعام المالي المقبل إلى 128.1 مليار جنيه مقابل 108.8 مليارات جنيه مخصصة لعام 2021-2022 بزيادة نحو 19.3 مليار جنيه.
وأوضح عز العرب أن دول الخليج كانت تعد عامل جذب للأطباء المصريين في العقود الماضية، لكن مؤخرا أصبح هناك اتجاه إلى الدول الأوروبية.
ووجه حديثه للأطباء المصريين في الخارج “تعالوا استقروا وشاركوا في التنمية.. وضعنا في تحسّن”.