الأدميرال جهاد يايجي، رئيس الفريق التركي المفاوض في اتفاقية الغاز التركية الليبية، قائد سلاح البحرية التركية السابق، رئيس ومؤسس “مركز الإستراتيجية البحرية العالمية”، خبير ببحار المنطقة جيداً؛ أمواجها وبواطنها.. أسرارها وكنوزها.. نفطها وغازها، وقد تمكن باقتدار مع الفريق التركي الذي يديره من الكشف عن مكامن ثروات البحر المتوسط وتحديد حقوق تركيا فيها، وفي الوقت نفسه تمكن عبر ما يمتلكه من خرائط ودراسات عن الكشف عن حقوق جميع الدول المتشاطئة على البحر المتوسط التي كانت غائبة عنهم، لكن الاتفاقية التي وقعتها تركيا مع ليبيا مؤخراً في هذا الصدد كشفت عن كنوز كبرى جعلت الجميع يهرولون بحثاً عن نصيبهم.
اتفاقية الغاز التركية الليبية وفرت 40 ألف كيلومتر إضافية على المياه الإقليمية بين تركيا وليبيا
وقد أطلعني الرجل في لقاء مطول وهو خبير ببحار المنطقة جيدًا، وكيف تمكن باقتدار مع فريقه المعاون من الوصول إلى تفاصيل مكامن ثروات البحر المتوسط وتحديد حقوق تركيا فيها، وفي الوقت نفسه أحيا حقوق جميع الدول المتشاطئة على البحر المتوسط رغم أنف اليونان الطامعة في كامل الثروة.
التقيته في مكتبه بمدينة إسطنبول، ودار حديثنا حول حصيلة ما لديه عن ثروات البحر المتوسط، ومتى كان اهتمام تركيا بثروات البحر المتوسط من الطاقة؟ وما الذي حرك هذا الموضوع؟
– قال: كنت أتابع ما يكتب وينشر في الغرب حول هذا الموضوع، وقد درسته جيدًا، وكانت حصيلة دراساتي نشر عدة مقالات عام 2009م عن ثروات البحر المتوسط شرحت فيها كل ما نشر وتردد في الغرب يومها عن تلك الثروات.
ثم أصدرت عام 2019 كتابًا عن المصادر الغنية بالطاقة في البحر المتوسط بعنوان “تركيا ومعركة اقتسام شرق البحر الأبيض المتوسط”، وهو يرصد معارك تركيا القادمة في البحر المتوسط، وقد لفت ذلك الكتاب وتلك المقالات التي كتبتها انتباه أوساط الخبراء ودوائر رسمية لكنوز البحر المتوسط، وبدأت الاتصالات التركية الليبية المكثفة التي أسفرت عن الاتفاق الذي تم عقده بين الجانبين عام 2019.
الاكتشافات الأخيرة تغطي احتياجات تركيا من الغاز 572 عاماً والمنطقة بين قبرص ورودس تغطي احتياجات قبرص 32 عامًا
عن ماذا كشفت أبحاث المسح الجيولوجي التي أجريتموها في المنطقة وأحدثت كل هذه الضجة؟
– تؤكد خرائط المسح الجيولوجي أن المنطقة التي تطل على البحر المتوسط من قبرص التركية بالاشتراك مع تركيا تغطي احتياجات تركيا من الغاز 572 عامًا، والمنطقة بين قبرص ورودس تغطي احتياجات قبرص 32 عامًا.
أما الاتفاقية التركية الليبية فقد وفرت 40 ألف كيلومتر إضافية على المياه الإقليمية بين ليبيا وقبرص التركية، وهي تساوي 4 أضعاف مساحة قبرص التركية الكلية، وستكون مناصفة بين البلدين (تركيا وليبيا)، وتحتوي على غاز قيمته 30 تريليون دولار.
مستقبل الأجيال القادمة موجود في البحار حول العالم فهي تمتلك 50% من النفط و30% من الغاز
وماذا عن آفاق التعاون بين ليبيا وتركيا التي يمكن أن تفتحها هذه الاتفاقية في المستقبل؟
– ستسهم بلا شك في إحداث طفرة حضارية، كما أنها تفتح الطريق لزيادة التعاون الأمني والعسكري والعلمي والاقتصادي والفني والتكنولوجي وتبادل الخبرات والتدريب، والتطوير وزيادة إنتاج البلدين وتطوير التعاون الثنائي إلى نوع من الشراكة الإستراتيجية في شتى المجالات، الأهم هو تعاون الجانبين في تأمين وحماية تنفيذها؛ وهو ما يعني تواجداً تركياً مكثفاً في المنطقة لإدارة هذه الشراكة مع ليبيا.
أين اليونان المتواجدة في المنطقة منذ سنوات؟ ما دورها؟ وما نصيبها من هذه الثروات، خاصة أنها في خلافات مع تركيا؟
– تتعامل اليونان مع هذا الموضوع بنوع من الجشع، وتحاول دائماً السيطرة على المنطقة، مدعية أنها من حقها، بل إنها هددت بالحرب طمعاً في اقتطاع نصف المساحة الجديدة المكتشفة من المياه الإقليمية (20 ألف كيلومتر).
واستطاعت بشدة جشعها خداع كل من عقدت اتفاقيات معهم حتى “إسرائيل”! وقد اكتشف “الإسرائيليون” مؤخراً ذلك؛ مما دعاهم للتحرك لإعادة دراسة الاتفاقية التي وقعوها مع اليونان من قبل، واضطرت اليونان لزيادة الامتيازات “الإسرائيلية” في الاتفاقية بين الطرفين، كما تحرك الشارع عندهم لمساءلة الحكومة التي وقعتها.
من يتخلَّ عن حقوقه في البحار سيدفع ثمناً غالياً جداً وسيكتب التاريخ أن من يفرط فيها سيُعدّ خائناً لحقوق الوطن
ما نتابعه بشأن الاتفاقية التركية الليبية أنها أحدثت ردود فعل متوترة لدى اليونان ومصر و”إسرائيل” لمحاولة وقف تنفيذها، ما تعليقك؟
– المسألة متشابكة بين اليونان وكل من مصر و”إسرائيل” في مواجهة تركيا، فقد فضلت كل من مصر و”إسرائيل” للتعاون والاتفاق -كل على حدة- مع اليونان في هذا الموضوع بعيداً عن تركيا، فمصر تجاهلت الاتفاق مع تركيا وذهبت لليونان وجنوب قبرص (قبرص اليونانية)؛ فخسرت بذلك مياهاً إقليمية تساوي مساحة قبرص مرتين ونصف مرة، تحتوي ما يساوي مليارات الدولارات من النفط والغاز، والسبب أن مصر خضعت لتقدير اليونان باعتبار المياه الإقليمية من خلال الجزر، والأصوب أن المياه الإقليمية للدول تحتسب باعتبار اليابسة، وهي بالنسبة لليونان بعيدة جداً عن البحر المتوسط، وفق القانون الدولي، وليس باعتبار الجزر، ولو عقدت مصر اتفاقية مع تركيا مماثلة لاتفاقيتها مع ليبيا لنالت تلك المساحة التي تساوي مساحة قبرص مرتين ونصف مرة، وفي ذلك إهدار لحقوق الأجيال القادمة.
نفس الأمر حدث بالنسبة لشاطئ غزة على البحر المتوسط، ومن البداية اقترحنا على السلطة الفلسطينية عقد اتفاقية كانت ستوفر للشعب الفلسطيني ما يعادل 10 أضعاف مساحة فلسطين من المياه الإقليمية.
اقترحنا على السلطة الفلسطينية عقد اتفاقية مماثلة لاتفاقيتنا مع ليبيا كانت ستوفر للشعب الفلسطيني ما يعادل 10 أضعاف فلسطين من المياه الإقليمية
وقد عرضت في إحدى دراساتي حقيقة ثروة الغاز عند شاطئ غزة وفلسطين، وذكرت أنه لو أن الاتفاقية التي تمت في هذا الصدد بين اليونان و”إسرائيل” تمت بين الأطراف الثلاثة؛ تركيا والفلسطينيين و”إسرائيل”، يكون الغاز شراكة بينهم بدلاً من أن تلتهمه اليونان وحدها، وقمت بتوصيل هذه الدراسة إلى الطرف “الإسرائيلي” بطريق غير مباشر عن طريق جامعة “تل أبيب”، وهناك اهتموا بالموضوع، وبدأت “إسرائيل” في إعادة دراسة اتفاقيتها الموقعة في هذا الصدد مع اليونان عام 2010؛ مما حدا باليونان للمسارعة بإبداء استعدادها لتقديم مزيد من عائدات الغاز لـ”إسرائيل”، بينما صمتت السلطة الفلسطينية!
أقول: إن الاتفاق التركي الليبي هو الذي حرك كل ذلك وفتح الطريق أمام جميع الدول المطلة على المتوسط للتنبه لحقيقة ثروات المتوسط والمطالبة بنيل حقوقها في هذه الثروات، وكانت الصورة الواضحة للجميع أن الاتفاقية التي عقدتها تركيا مع ليبيا هي الأفضل والأكثر عدلاً في الحفاظ على حقوق الجميع.
مصر تجاهلت الاتفاق مع تركيا -أسوة بليبيا- وذهبت لليونان وقبرص اليونانية فخسرت مياهاً إقليمية تساوي مساحة قبرص مرتين ونصف مرة
من خلال علاقتك الطويلة بالبحار ودراساتك، كيف هو مستقبل الطاقة فيها؟
– إذا علمنا أن مساحة البحر المتوسط تبلغ حوالي 2.5 مليون كلم2 بطول حوالي 3860 كلم من مضيق جبل طارق وحتى مدينة إسكندرون في تركيا، وأقصى عرض له حوالي 1600 كلم ما بين ليبيا وسلوفينيا، كما أن أقصى عمق لمياهه هو 5200م بمتوسط 1500م، ندرك أن هذا البحر يزخر بثروة ضخمة من النفط والغاز وغيرهما من الثروات.
وإضافة إلى ذلك، فإن هناك حقيقة علمية تؤكد أن البحار حول العالم تمتلك 50% من النفط، و30% من الغاز؛ وبالتالي يجوز لنا القول: إن مستقبل الأجيال القادمة موجود في البحار، وإن من يحافظ على مياهه الإقليمية دون التفريط فيها سيكون صاحب ثروة ضخمة من الطاقة (النفط والغاز)؛ وفي ذلك حفاظ على أمن الشعوب وحاضرها، ومن يتخلَّ عن حقوقه في البحار سيدفع ثمنًا غاليًا جدًا، وسيكتب التاريخ أن من يفرط فيها سيُعدّ خائناً لحقوق الوطن.