لا تزال حركة المقاومة الإسلامية (حماس) تثير الاهتمام حول خياراتها السِّياسية وقراراتها العسكرية وعلاقاتها الدولية، وخاصة عندما توضع في ميزان النقد، لتداخل العامل السِّياسي مع البُعد العقائدي في مواقفها وفي الموقف منها، كحركةٍ سياسيةٍ وعسكريةٍ بمرجعيةٍ إسلامية، لصعوبة التوفيق بين مثالية النصوص الشرعية التي تستند إليها وبين واقعية الممارسة السِّياسية التي تتفاعل معها، وتعقيدات استدعاء النص المطلق إلى الواقع البشري النِّسبي.
ولا تخلو حالات الاجتهاد في الميدان السِّياسي من تزاحم المبادئ وتعارض المصالح، ومع تشوَّه مفهوم “المصلحة” وبخاصةٍ عند ارتباطها بتقلُّبات السِّياسة، فإنَّ أصل الشريعة قد جاءت من أجل تحقيق مصالح العباد في المعاش والمعاد، يقول ابن القيم الجوزية (توفي 751هـ/ 1350م) في كتابه “أعلام الموقِّعين عن ربِّ العالمين”: “فإنَّ الشريعة مبناها وأساسها على الحِكَم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدلٌ كلُّها، ورحمةٌ كلُّها، ومصالحٌ كلُّها، وحكمة ٌكلُّها؛ فكلُّ مسألةٍ خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرَّحمة إلى ضدِّها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث؛ فليست من الشريعة”.
فبين المبدئية الشَّرعية من غير تزمُّت، وبين المصلحية السِّياسية من غير انتهازية، وبين الحقِّ في الاجتهاد تأويلاً وتنزيلاً يقع الاختلاف في تقدير المصلحة، وأنَّ الإنصاف يقتضي عدم ادِّعاء الحقيقة المطلقة من أحد المختلفين.
لقد أصبحت “حماس” عنوانًا متكاملاً لنموذجٍ ناضجٍ لتجربةٍ إسلاميةٍ ضمن مدرسة الوسطية والاعتدال، ولا تخفى تعقيدات آليات اتخاذ القرار عندها بين السِّياسي والعسكري، وبين الداخل والخارج، وبين مكوِّنات الحركة في غزة والضِّفة والقدس والشتات والأسرى في سجون الاحتلال، وبين الغرف المشتركة مع شركائها والمتحالفين معها.
وتزداد المسألة حساسيةً عندما تزداد القوَّة لديها فتزداد المسؤولية الأخلاقية عليها، وهي التي امتلكت شرعيةً سياسيةً وشعبيةً من خلال فوزها بالانتخابات، كما امتلكت شرعيةً مبدئيةً أخلاقيةً بإبداعاتها الجهادية.
ومن المسائل السَّاخنة التي أثارت حولها زوابعَ من الانتقادات السَّاخطة، التي وصلت إلى تخوينها وشيطنتها وتوظيف النصوص الشرعية ضدَّها: استئناف علاقاتها مع سورية.
ومع أنها مسألةٌ سياسيةٌ اجتهاديةٌ وتقديريةٌ، ضمن دائرة “الخطأ والصَّواب”، التي لا تُحرم الأجر فيها في كلِّ الحالات، وفق منطوق الحديث النبوي الشريف: “مَن اجتهد وأصاب فله أجران، ومَن اجتهد وأخطأ فله أجرٌ واحد”، إلاَّ أنَّ العقل الفقهي لبعض العلماء والدعاة أقحموا هذا الموقف ضمن البُعد العقائدي في دائرة الحقِّ والباطل، وأنَّ موقفها لا يتفق مع المبادئ والقيم والضَّوابط الشَّرعية، وهو ما أبان عن حجم الهوَّة بين “المنظِّر الفقهي” وبين “الممارس السِّياسي والجهادي”.
لقد غادرت “حماس” دمشق في فبراير 2012م، أي بعد عامٍ كاملٍ من اندلاع الثورة السُّورية، بعد أن رفضت التدخُّل في الشَّأن الداخلي بتأييد النظام السُّوري على حساب الثورة الشَّعبية، والتي تحوَّلت من ثورةٍ سلميةٍ إلى فتنةٍ لا أوَّل ولا آخِر لها، بعد عسكرة الثورة وانقسام المعارضة في الداخل والخارج، وفتح المجال أمام التدخلات الأجنبية، مما جعل سورية مسرحًا لحروبٍ بالوكالة، وميدانًا لتصفية حساباتٍ إقليميةٍ ودولية بدماء السُّوريين.
ومع المسلَّمة المعروفة عن “حماس” بعدم تدخُّلها في الشؤون الداخلية للدول، وأن معركتها الحقيقية مع العدو الصهيوني داخل فلسطين، فإنَّ الظروف قد تغيَّرت جذريًّا بين قرار “الخروج من سورية” سنة 2012 وبين خيار استئناف العلاقات معها سنة 2022، فالمشكلة الرئيسة لثورات “الربيع العربي” هي غياب المشروع السِّياسي المشترك بين مكوِّناتها، وانعدام القيادة الموحَّدة وعدم دقة الأهداف الإجرائية الواقعية لها، والأخطر من ذلك: هو عسكرة هذه الثورات الشَّعبية، والتورُّط بها في الدِّماء المعصومة، والسُّقوط في المربَّع الذي تتقنه الأنظمة، وهو السِّلاح، وبعيدًا عن الحسابات الضيِّقة وغير الدقيقة لمعادلات الرِّبح والخسارة في علاقات “حماس” مع الدول أو مع الثورات الشعبية، فإنه ليس مطلوبًا منها أن تتحمّل المسؤولية السِّياسية في مساندة هذا أو ذاك، وخاصة عندما يكون ذلك على حساب “القضية المركزية”، فكيف إذا فقدت هذه الدول أو هذه الثورات بوصلتها الحقيقية؟
لقد أصبحت حركة المقاومة الإسلامية (حماس) عنوانًا كبيرًا ومرجعًا موثوقًا للقضية الفلسطينية، وهي بذلك تتطلع إلى مشروعٍ وطنيٍّ تحرُّريٍّ شامل، تجمع بين التربية الدعوية والممارسة السِّياسية والمقاومة العسكرية، وهو ما يلزمها بالتعامل مع الدول وليس مع الأحزاب فقط، بعيدًا عن الحسابات الضيِّقة للأنظمة أو النظرات الأيديولوجية القاصرة للجماعات، وهو ما يعني المزيد من الانفتاح في العلاقات على ما تراه إضافةً لها في مشروعها التحرُّري، وهو ما قدَّرته في الانحياز إلى هذا الخيار ضمن محور المقاومة، باستئناف العلاقات مع سورية.
كما أنَّ هذا الموقف مرتبطٌ بتقدير المصلحة اتجاه القضية الفلسطينية خصوصًا، ولا علاقة له بالموقف من النظام السُّوري في تعامله مع الأزمة السُّورية، ولا بالتدخُّل أو الانحياز في الشأن الداخلي لسورية، وهو الموقف المبدئي الذي لا يختلف في علاقة “حماس” مع مختلف الأنظمة العربية الأخرى، مهما كانت فاسدةً أو فاشلةً أو مستبدةً أو حتى مطبِّعة مع العدو الصُّهيوني، ولو أعطت “حماس” لنفسها حَقًّا معياريًّا في الحُكم على الغير فلن يستقرَّ لها قرارٌ إجماعيٌّ، ولن تسلم في كلِّ الحالات من الانتقاد من هذا أو ذاك.
ثم ما الذي تغيَّر في النظام السوري –مثلاً- بين عهد حافظ الأسد بالأمس، وعهد بشار الأسد اليوم؟ فلماذا كانت العلاقة حلالاً بالأمس (من عام 1998 إلى 2012) وأصبحت حرامًا الآن؟
فقد أرسى قواعد هذه العلاقة مؤسِّس الحركة الشيخ أحمد ياسين، الذي زار دمشق في مايو 1998م، وحظي باستقبالٍ رسميّ من الرئيس حافظ الأسد، الذي لا يقلُّ انتقادًا في سياساته -في نظر هؤلاء- عن ابنه.
إنَّ سورية لم تغيِّر موقعها ولا موقفها من القضية الفلسطينية، رغم خلافه السِّياسي والأيديولوجي -وحتى الطائفي- مع بعض فصائل المقاومة الفلسطينية، وعلى رأسها “حماس”.
ولا يخفى على أيِّ مراقبٍ حجم الجغرافيا التي تُسحب من تحت أقدام “حماس”، وخاصة بعد الثورات المضادَّة لـ”الربيع العربي”، وحجم التوترات التي تعيشها بعض البلدان العربية، وموجة التطبيع الغادرة من بعضها، وتطرُّف البعض في تصنيفها كمنظمةٍ إرهابية، والجهود المضنية والمحاولات المستميتة في تصفيتها، وتراجع الدعم الرَّسمي والشَّعبي لها، وتقليص الوجود السِّياسي والعسكري وخطوط الإمداد لها، مما يتطلب البراغماتية والواقعية السِّياسية في فكِّ هذا الخناق العربي والإقليمي والدولي حولها، والبحث عن المشترك في الصِّراع ضدَّ العدو الصُّهيوني، والترفُّع عن الخلافات الأيديولوجية، والانفتاح على كلِّ الخيارات الممكنة، والانسجام مع لحظة الانفراج في نوافذ الفرص لفكِّ هذه العزلة متعدِّدة الأوجه عنها، وهي الحكمة التي يجب أن تتقنها الحركة، فهي ليست مجردَ فصيلٍ عسكريٍّ مقاوم، بقدر ما تحمل مشروعًا سياسيًّا أوسع، ورؤيةً حضاريةً أكبر، وهي معنية بالتركيز على قضية الأمة الأولى، وغير ملزمةٍ بتحمُّل مسؤولية أزمات غيرها، وهو ما يتيح لها تكثير الأصدقاء بدل التفنُّن في صناعة الأعداء.
إنَّ تمسُّك “حماس” بخيار المقاومة وعدم المساومة عليه، هو ما زاد من حجم الضغوط عليها مما اضطرَّها إلى الإبقاء على خطوط التواصل مع الجميع مفتوحة، والبحث عن مِظلَّة الدَّعم الخارجي كغيرها من حركات التحرُّر في العالم، وإيجاد بيئاتٍ حاضنةٍ لها سياسيًّا، وجغرافيا مفتوحةً لها للدَّعم ماليًّا وعسكريًّا، فكانت سورية -ولا تزال- من الدول الصَّامدة ضمن محور المقاومة، بالرَّغم من هوْل الضَّريبة التي تدفعها إقليميًّا ودوليًّا في سبيل ذلك.
نحن مطمئنون إلى الخيارات الإستراتيجية الكبرى لحركة “حماس”، ما دامت وفيَّةً لخيار المقاومة والجهاد في سبيل الله، وهي التي تخوض سباقًا مع الزمن في معركة الإعداد رغم معوِّقات الإمداد، بما تضمنه لها القوانين الدولية والشرائع السَّماوية، وما يزيد في ثقتنا هو أمانة وكفاءة قياداتها المسؤولة، التي تتقدَّم الصفوف في ميادين الجهاد والاستشهاد، وتبنِّي مبدئية الشورى في صناعة القرار، وآلية الديمقراطية المؤسَّسية في اتخاذ القرار، وهي الأولى في صوابية الرأي في هذا الاختصاص.
إننا معنيون جميعًا بالمحافظة على “حماس” مدرسةً نموذجيةً متكاملةً، تجمع بين المبدئية الشَّرعية والمصلحية السِّياسية، بتوازنٍ فكريٍّ بديع، وتخطيطٍ إستراتيجيّ واضح، وحكمةٍ سياسيةٍ بالغة.