لم يتغير شيء جوهري في حارة دعبس!
رواية «الكرنك» –لكاتبها نجيب محفوظ- نُشرت مسلسلة في «الأهرام» عام 1971م، وصدرت في كتاب عن مكتبة مصر عام 1974م، وتحولت إلى فيلم من إخراج علي بدرخان عام 1975م، وأحدثت عند ظهورها سينمائياً عاصفة في المجتمع المصري على عهد الرئيس السادات؛ حيث كشفت عن وحشية الأجهزة الأمنية الناصرية في تعاملها مع المخالفين للسلطة، ولو كانوا شباباً غضّاً يحلم بوطنٍ حرٍّ تتلاقى فيه الآراء والأفكار من أجل العدالة والحرية والأمل.
ورغم أن اليساريين وأشباههم ممن يتصدرون المشهد الثقافي عانى بعضهم شيئاً من وحشية الأجهزة أقل بكثير مما عاناه أصحاب التيار الإسلامي؛ فلم يحتفوا بهذه الرواية القصيرة التي تندرج تحت مسمى «النوفيلا»، قليل منهم أو من غيرهم، اهتم بها قراءة ودرساً، وبعضهم أدانها ووصفها أنها من أضعف رواياته! والمفارقة أن كثيراً من اليساريين دافعوا عن النظام الوحشي، وذابوا هياماً في حب الحاكم الذي حلّ أحزابهم وأدخل بعضهم المعتقلات، وما ذلك إلا لانتهازية عريقة في تكوينهم، فقد شعروا أن النظام كافأهم على ولائهم مكافأة جيدة حين وضع بأيديهم المؤسسات المؤثرة في صناعة المخ والوجدان؛ فقد سلّم لهم مؤسسات التعليم والثقافة والفكر والسينما والمسرح والصحافة والأدب، والتنظيمات السياسية الرسمية والسرية.. وغيرها.
بعد نشر «الكرنك» -مسلسلة في «الأهرام» عام 1971م- فإن الرقابة من خلال رئيسها الراحل طلعت خالد، يرحمه الله تعالى، كانت على اتصال مستمر (شبه يومي) بالمؤلف لحذف كلمة أو جملة أو فقرة أو تغييرها لتنشر في كتاب؛ ما اضطر نجيب محفوظ أن يطلب من الناشر عدم نشرها لإحساسه أن الرواية أفرغت أو شوهت، فقال له الناشر (عبدالحميد جودة السحار): إن عدم النشر يفرض عليه أن يتحمل نفقات الطبع الكبيرة؛ لأنه تم طبعها، فاستسلم محفوظ للأمر الواقع، وهو ما يجعلنا نحن القراء نستشعر أن الرواية مع جرأتها في حينه، وأهمية موضوعها، لم تظهر كما أراد المؤلف بكامل هيئتها، وقد يرى بعض القراء أن الرواية تعاني تشويهاً أو بعض الفجوات (رجاء النقاش، نجيب محفوظ: صفحات من مذكراته وأضواء جديدة على أدبه وحياته، مركز الأهرام للترجمة والنشر، القاهرة، 1419هـ/ 1998م، ص 133).
في عام 1975م، كان سقف الحريات قد ارتفع إلى حد كبير لم تعرفه الفترة الناصرية، وشهدت الرواية مصورة سينمائياً نجاحاً كبيراً؛ حيث شاهد الفيلم أعداد ضخمة تمثل أضعاف عدد القراء الذين طالعوا الرواية مطبوعة، وأثار الفيلم ضجة كبرى لأنه كشف وحشية النظام المهزوم، وقمعه للحريات؛ فقد توشح بخصلة من أقبح الخصال التي تعافها الحيوانات، وهي تعذيب أصحاب الرأي والمخالفين تعذيباً همجياً أدى إلى موت بعض المعتقلين.
واستمد الفيلم صدقه وإقناعه أن صنّاعه كانوا من الناصريين الأقحاح المتيّمين بحكم عبدالناصر؛ فالمخرج والمنتج والممثلون الأساسيون ناصريون يساريون: علي بدرخان، ممدوح الليثي، نور الشريف، سعاد حسني، محمد صبحي، تحية كاريوكا، صلاح ذو الفقار، شويكار، علي الشريف.. وهذه الضجة التي عبر عنها استنكار المصريين للنظام المهزوم لقيت غضباً يسارياً ناصرياً على نجيب محفوظ؛ لجرأته على من منحهم المنّ والسلوى، مع أنه سجنهم وعذبهم من قبل، ورأينا بعض اليساريين العرب إلى وقت قريب، لا يغفر لنجيب محفوظ تناول الموضوع/ الجريمة؛ فقد كتب إبراهيم العريس («إندبندنت» عربية، الأحد 24 يناير 2021م 18:25): «إن رواية محفوظ كانت ولا تزال تعتبر من أعماله الضعيفة؛ متناً وسياقاً وتركيباً، وتكاد تكون «خطية»، لا شك أن الفيلم المأخوذ عنها أتى مميزاً ليس في سياق سينما علي بدرخان فحسب، بل في سياق السينما المصرية السياسية بصورة عامة، ناهيك بأن أداء سعاد حسني، ونور الشريف، أتى مميزاً.
وأشار إلى أن توقيت صدور الرواية لم يكن ملائماً، إذ إن محفوظ لم يتوانَ عن كتابتها وإصدارها بعد شهور من موت جمال عبدالناصر، وفي معمعان المعركة الشرسة التي كان يخوضها خليفته الرئيس أنور السادات ضد خصومه من ناصريين ويساريين.
والحق أن محفوظاً كتب رمزاً قصصاً وروايات عقب الهزيمة وقبلها يهاجم الدكتاتورية والطغيان والقمع، وما زلت أذكر قصته «الحاوي خطف الطبق» التي نشرها ملحق «الأهرام» (5/4/1968م) بعد الهزيمة بأقل من عام، وكانت تلمح بوضوح إلى الخيبة التي حلت بنا لأسباب متعددة؛ فمحفوظ كان مشغولاً بقضية أساسية، وهي قضية الحرية والوعي، ولم يكن معنياً بخلافات السادات مع الشيوعيين والتنظيم الطليعي، ولا دخل للأمر بفنّ الرجل وإصراره على مهاجمة الدكتاتورية الفاشلة.
أحداث الرواية
تدور أحداث الرواية في أماكن ترمز إلى مصر وما يجري فيها وأبرز ملامحها الاجتماعية والإنسانية، وهي: المقهى والرّبْع أو الحارة، والسجن والميدان، وأبرز الأماكن في الرواية مقهى «الكرنك» الذي حملت الرواية اسمه، يقول عنه الراوي: «مع صغره وانزوائه في شارع جانبي صار مجلسي المفضل» (ص 3)، «وموقع المقهى في وسط المدينة الكبيرة يصلح استراحة لجوّال مثلي، وثمة عناق حار بين الماضي والحاضر، الماضي العذب والحاضر المجيد» (ص 4)، «والمقهى يضم شيوخاً: محمد بهجت، ورشاد مجدي، وطه الغريب، وشباباً: زينب دياب، وإسماعيل الشيخ، وحلمي حمادة، وهناك زين العابدين عبدالله (مدير العلاقات العامة بإحدى المؤسسات)، وإمام الفوال (الجرسون)، وجمعة (ماسح الأحذية)» (ص 9)، «ومن أسرار المقهى أنه كان وما زال مجمع أصوات عظيمة الدلالة، تفصح نبراتها العالية والخافتة عن حقائق التاريخ الحي..» (ص 10)، «يغيب الشباب عن المقهى فيظن زين العابدين أنهم انتقلوا إلى مكان آخر أنسب لهم» (ص 17)، ولكنهم أخُذوا قسراً إلى مكان غير مناسب.
يُلحق بالمقهى الملهى الليلي وفيه تحدث مواقف غريبة جاءت في سياق الحكي بين قرنفلة والراوي، من هذه الأحداث قصة «عارف سليمان» موظف المالية الذي تحول إلى ساق من وراء البار، ويقف مترهلاً أبيض الشعر، بسبب عشقه قرنفلة إلى حد الجنون، فصار الملهى مأوى للفاشلين في الحب والحياة.
أما الحارة فتضم الربع الذي يسكن فيه إسماعيل، وزينب دياب، واسمها حارة دعبس.
– هل سمعت عن حارة دعبس بالحسينية؟
ونظر إليَّ بتجهم وهو يقول:
– لم يتغير شيء جوهري في حارة دعبس حتى اليوم.
ولكنه يستدرك:
– غير أن المدارس فتحت أبوابها، تلك نعمة لا يمكن إنكارها.. (ص 44).
وكأنه يريد الإشارة إلى القصور في تحقيق التغيير المنشود الذي صنعته الحكومة، ويشير إلى حضور شخصيتين مهمتين في ذهن جمهور الحارة:
– ثمة وظيفتان معروفتان في حارتنا؛ الشرطي، ووكيل النيابة. (ص 45).
فالشرطي ووكيل النيابة رمز الضبط والربط، وربما يتحولان إلى شيء آخر يمارس القمع والقهر بعد أن يؤدي إلى السجن أو المعتقل!
الحارة في روايات نجيب محفوظ تشير بعامة إلى الوطن وما يجري فيه، أو ما يحدث للأكثرية الفقيرة المقهورة على الأقل، وقد عبر عنها محفوظ من خلال صور شتى، واقعية وخيالية، وبثّ من خلال أحداثها وشخصياتها مشاعره وأفكاره ورؤاه وتصوراته، وحارة دعبس لا تخرج عن هذا السياق الذي يكشف مأساتها وأحلامها في واقع مليء بالمتاعب والآلام.
والسجن في الرواية يرتبط بالقيود والسدود والظلم والظلام، وهو ظلام كثيف، لا يوجد في حجرة السجن شيء، لا كرسي، ولا حصيرة ولا أي قائم، الظلام والفراغ والحيرة والرعب، الزمان في الظلام والصمت يتوقفان تماماً (ص 51)، وهو في كل الأحوال رمز لفقدان الحرية والأمل وانقطاع الصلة بين السجين والأحياء! لقد تلظى بظلام السجن الشباب الثوري في حارة دعبس وغيرها، وفي الوقت نفسه فإنه يهدّد كل صوت حرّ يرى رأياً مخالفاً للنظام!
ويأتي الميدان في الرواية ليعبر عن جموع الشعب وفئاته وأحواله وانكساراته: «وكانت الدنيا قد عبرت ذروة النكسة، وأفاقت من الذهول الأول فوجدت الميدان مكتظاً بالأشباح والأحاديث والحكايا والشائعات والنكات.. وانعقد الإجماع على أننا كنا نعيش أكبر أكذوبة في حياتنا. (ص 69)، صوت الميدان يؤكد الأكذوبة التي عاشها الشعب حتى استيقظ على الهزيمة القاتلة، والضياع الذي هزّ كل ركن في البلاد.
زمان الرواية
لأن الزمان الروائي التاريخي محدود بفترة قصيرة قبيل الهزيمة المريرة وبعدها بقليل، فقد ركزت الرواية على الزمان في إطلاقه ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، وعلاقته بأشخاص الرواية وأحداثها وأماكنها، ولأن الموضوع الروائي يبدو شائكاً، وملامساً لمصائر الأمة ومستقبلها، فقد جاء الزمان كأنه حلم جميل أو كابوس ثقيل، أو تهويمات غامضة لا يدرك أحد كنهها.
يصف الراوي مشاعره عندما يرى الراقصة المعتزلة قرنفلة: «حركت قسماتها الدقيقة جذور ذاكرتي؛ فتفجرت ينابيع الذكريات.. حلم الأربعينات الوردي.. هكذا مرقت إلى الكرنك بقوة سحر مبهمة وفؤاد طروب.. جذورها الخفية توغل في الماضي على مدى ثلاثين عاماً أو أكثر..» (ص 7).
ومرور الزمن دون أن يتحقق المراد يغير الطبع والسلوك، كما جرى لقرنفلة وهي تنتظر الشباب دون أن يظهر لهم أثر بعد اختفاء طوال يوم وليلة، فراحت تنتقل بين الداخل والخارج في عصبية والحزن يقتلها قتلاً لغيابهم. (ص 17).
وكرت الأيام والأسابيع حتى أوشكت قرنفلة على الجنون، وحزنْتُ لها كما يقول الراوي حزنا بالغاً. (ص، 18)، والزمن أيضاً كفيل بمحو الماضي من الذاكرة كما تعلق قرنفلة على ذكرى بعض محبيها: هكذا الماضي ينسى! (ص 9).
وهو ما حدث مع الشيوخ فقد نسوا المعتقلين وتناسوا الرعب والسياسة وعكفوا على همومهم الشخصية، وكأنه لم يعد لهم من عمل إلا انتظار الأجل، وراحوا يبكون الأيام الماضية ويتبادلون وصفات غريبة بقصد خفي واحد هو تأجيل الموت. (ص 31)، كأنهم يهربون من الزمن إلى الأمام!
أما في السجن فيتوقف الزمن تماماً؛ «أدركت أنني فقدت موقعي من الزمن» (ص 52).