لا يوجد مجال للشك أن الكيان الصهيوني لم يعد قادراً على احتواء موجة عمليات المقاومة التي تتعاظم يوماً بعد يوم في أرجاء الضفة الغربية، وباتت تنتقل من ساحة جغرافية إلى أخرى بسرعة كبيرة، رغم استثمار قوات الاحتلال إمكانيات عسكرية هائلة في محاولة إخمادها وعدم ترددها في قتل وجرح عدد كبير من المواطنين الفلسطينيين.
موجة عمليات المقاومة التي تفجرت قبل عدة أشهر في جنين -أقصى شمال الضفة الغربية- انتقلت إلى نابلس ثم إلى منطقة غور الأردن، ووصلت مؤخراً إلى مدينة القدس ومحيطها، وهناك تقديرات استخبارية صهيونية تفيد أن منطقة الخليل -أقصى جنوب الضفة- باتت مرشحة للانفجار أيضاً.
ورغم أن جيش الاحتلال يصر على أنه يواصل حملة «كاسر الأمواج» العسكرية التي شرع بها منذ 6 أشهر بهدف احتواء موجة العمليات، فإن كل المؤشرات تدل على أنه لم يعد بإمكان الكيان الصهيوني إعادة عقارب الساعة إلى الوراء مطلقاً في ظل تطور الفعل المقاوم وزيادة جرأة المقاومين، ولعل عملية «شعفاط» البطولية التي نفذها شاب فلسطيني، في 9 أكتوبر الماضي، تمثل دليلاً آخر على شجاعة المقاوم الفلسطيني وبسالته ورباطة جأشه؛ فكما أظهر الفيديو الذي التقطته كاميرات المراقبة، فقد ترجل الشاب الفلسطيني من السيارة التي أقلّته حتى الحاجز العسكري، وأغلق باب السيارة بهدوء وتوجه بخطى ثابتة إلى مجموعة من جنود الاحتلال كانوا يتمركزون فيه وأفرغ فيهم جعبة مسدسه؛ ما أدى إلى مقتل مجندة وجرح 3 جنود آخرين، ثم انسحب برويّة، في حين جبن جنود الاحتلال الذين ظلوا أحياء عن ملاحقته.
تجربة ناجحة
في الوقت ذاته، باتت عمليات الاقتحام التي ينفذها جيش الاحتلال للمدن والبلدات الفلسطينية بالغة الصعوبة بسبب طابع المقاومة القوية التي تواجه بها هذه القوات، التي باتت تقودها مجموعة «عرين الأسود»، وهي مجموعة ينتمي عناصرها إلى جميع الفصائل الفلسطينية التي انطلقت أولاً في جنين ثم في نابلس، ونظراً لنجاح تجربة هذه المجموعة، فقد تداعى الشباب الفلسطيني في مناطق أخرى لتشكيل خلايا تحت قيادة هذه المجموعة وفي إطارها.
اللافت أن مظاهر العجز الصهيوني عن احتواء عمليات المقاومة جاءت حتى بعد أن استأنفت سلطة محمود عباس التعاون الأمني مع الاحتلال، وشرعت بالفعل في تنفيذ عمليات اعتقال في جنين ونابلس بهدف مساعدة الاحتلال على وقف المقاومة، على الرغم من أن انضمام عناصر كثر من حركة «فتح» يصعب على سلطة عباس مهمة التصدي لخلايا المقاومة.
ويعي الكيان الصهيوني أن نجاح عمليات المقاومة ذات الطابع الفردي يغري مزيداً من الشباب لتنفيذ المزيد من العمليات، مع العلم أنه من الصعوبة بمكان على الاستخبارات الصهيونية جمع معلومات، بإمكانها إحباط هذه العمليات قبل تنفيذها.
ومما يفاقم الشعور بالإحباط لدى المستوى السياسي الحاكم والمؤسسة العسكرية الصهيونية حقيقة أن عمليات القمع التي يواصل جيش الاحتلال تنفيذها في مدن وبلدات ومخيمات اللاجئين في الضفة الغربية توفر بيئة مناسبة لازدهار المقاومة؛ على اعتبار أن مزيداً من الشباب الفلسطينيين الذي يعيشون القهر ويلحظون حجم العدوان والعربدة الصهيونية يلتحقون بركب العمل المقاوم للرد على الجرائم الصهيونية.
ومما لا شك فيه أن الاعتداءات على المسجد الأقصى والإصرار على تدنيسه وتجاوز كل الخطوط الحمراء، وضمن ذلك أداء الصلوات التلمودية فيه، وتجرؤ نواب صهاينة على النفخ بالبوق في محيطه وغيرها من استفزازات توفر بيئة لتوسيع دائرة العمل المقاوم.
وإلى جانب العدوان على الأقصى، فإن العمليات الإرهابية التي ينفذها المستوطنون على القرويين الفلسطينيين صبت المزيد من الزيت على النار، سيما أنه يتم توثيق هذه الاعتداءات ونشرها مصورة على مواقع التواصل، وتعي النخبة الصهيونية الحاكمة أن إرهاب المستوطنين يوفر بيئة لازدهار المقاومة، لكن هذه النخبة غير قادرة على التعرض لهؤلاء المستوطنين بسبب ما يحوزونه من نفوذ في الحكومة والبرلمان.
الفاتورة الأمنية
ونظراً للانتخابات الصهيونية العامة التي أجريت مطلع نوفمبر الجاري؛ فإن المستوطنين كثفوا اعتداءاتهم الإرهابية على الفلسطينيين من أجل تفجير الأوضاع مما وفر بيئة تصعيد تخدم الأهداف الانتخابية لليمين الديني اليهودي.
ومن فرط توجهاتهم الإرهابية والعنصرية بات المستوطنون اليهود يبررون جرائمهم بالقول: إنها تهدف إلى «عدم السماح للعرب برفع رؤوسهم»، ولقد باتت الدعوة إلى تنفيذ العمليات الإرهابية ضد الفلسطينيين محور إجماع صهيوني واضح؛ فقد استقبل طلاب مدرسة «بليخ» في مستوطنة «رمات غان» الصهيونية التي تعد من مدارس الصفوة في «إسرائيل» الإرهابي «بن غفير»، زعيم الحركة الكهانية، الذي تعهد بطرد الفلسطينيين بعد الانتخابات بهتاف «احرقوا قراهم»، في إشارة إلى الفلسطينيين.
لكن على الرغم من أن حكومة جيش الاحتلال تسمح لجيشها وللمستوطنين بمواصلة عمليات العربدة الممنهجة في أرجاء الضفة الغربية والقدس، فإنها تعي قيمة الفاتورة الأمنية التي يتوجب على الكيان الصهيوني دفعها؛ فقد طلبت رئاسة أركان الجيش وقيادة شرطة الاحتلال من الصهاينة حمل السلاح أثناء الأعياد وتحديداً عند التوجه لأداء الصلوات في الكنس.
وهناك ثمن عسكري خطير آخر يدفعه الكيان الصهيوني، ويتمثل في حقيقة أن عمليات المقاومة التي تتسع في الضفة باتت تقلص من قدرة جيشه للتفرغ لمواجهة التحديات على الساحات الأخرى، سيما ساحتي الجنوب والشمال.
فقد اضطر جيش الاحتلال حتى الآن إلى الدفع بـ22 كتيبة من ألوية الصفوة في سلاح المشاة للتمركز في أرجاء الضفة الغربية للمشاركة في العمليات الهادفة إلى احتواء موجة عمليات المقاومة، ومن الواضح أن اتساع دائرة العمليات يعني شل مركز ثقل سلاح المشاة الذي تعتمد عليه «تل أبيب» في جهدها الحربي إذا اندلعت مواجهة في الشمال أو غزة أو أي ساحة أخرى.
باختصار، فإن اشتعال الضفة الغربية يعني استنزاف القوة الضاربة للقوات النظامية في جيش الاحتلال وإجباره على القيام بأعمال «شرطية»، مع كل ما ينطوي عليه الأمر من إغفال التدريب والمناورات؛ ما يجبر «تل أبيب» على المرونة السياسية في ملفات تتعلق بساحات أخرى خشية اشتعالها دون أن تكون مستعدة لذلك.
ليس هذا فحسب، بل إن موجة عمليات المقاومة تأتي في ظل التقديرات المتواترة التي تؤكد أن جيش الاحتلال غير مستعد لمواجهة اندلاع حروب وتصعيد عسكري شامل؛ ففي مقال نشرته صحيفة «هاآرتس» كرر الجنرال «إسحاق بريك»، القائد السابق للكليات العسكرية في جيش الاحتلال، تحذيره من أن «الإسرائيليين» يمكن أن يفقدوا دولتهم في الحرب القادمة لعدم جاهزية الجيش لها.
ويعي صناع القرار أن المجتمع الصهيوني غير جاهز أو مستعد لتقديم التضحيات التي يتطلبها الجهد الحربي رغم توجهاته المتطرفة؛ فقد أظهر استطلاع للرأي أجري لصالح القناة «13» أن 65% من الصهاينة يرفضون شن حرب على غزة لضمان تحقيق هدوء يستمر 15 عاماً إن كانت ستسفر عن مقتل 300 جندي فقط، ومن الواضح أن اندلاع انتفاضة ثالثة في الضفة الغربية سيسفر عن مقتل عدد أكبر بكثير من هذا العدد؛ ما يعني أن موجة عمليات المقاومة ستسفر عن المزيد من مظاهر تهاوي صمود المجتمع الصهيوني.