فجَّر الرئيس الروسي «فلاديمير بوتين» مفاجأة من العيار الثقيل حين اقترح استئناف توريد غاز بلاده لدول القارة الأوروبية عبر تركيا، إثر تعرض خط الغاز الرئيس لأوروبا عبر ألمانيا «نورد ستريم» لأضرار بعد تعرضه لعمليات تفجير متكررة.
وكان الرئيس الروسي قد أشار لإمكانية استمرار التوريد عبر الأجزاء غير المتضررة من «نورد ستريم»، مقترحاً بديلاً لذلك وهو إنشاء مركز غاز على الأراضي التركية يصل الغاز الروسي من خلاله لأوروبا، حيث يرى أن هذه الفكرة لها جدوى اقتصادية واضحة فضلاً عن أن تركيا طرف موثوق بالنسبة للجانبين، وأن الخيار التركي سيكون أكثر أمناً، على حد تعبيره.
سريعاً أتى أول رد فعل أوروبي عبر بيان للرئاسة الفرنسية هاجم تصريح «بوتين» بحدة، إذ قال: إن هذا المقترح لا معنى له في ظل سعي الدول الأوروبية لتقليل اعتمادها على الغاز الروسي على هامش الحرب الروسية – الأوكرانية، حيث تحدثت بعض التقارير عن تراجع الاعتماد الأوروبي على روسيا في موضوع الغاز تراجع من حدود %40 قبل الحرب لما يقرب من %7 حالياً.
أما تركيا، فقد رحبت بالمقترح الروسي على لسان وزير الطاقة والموارد الطبيعية «فاتح دونماز» الذي قال: إن المشروع ممكن، رغم أن بلاده تفاجأت بمقترح «بوتين» الذي لم تسمعه من قبل، ولكن الوزير حرص كذلك على التأكيد على ضرورة دراسة المشروع من الزوايا الاقتصادية والسياسية والقانونية وغيرها.
في المقابل، كان الرئيس التركي «رجب طيب أردوغان» -كعادته- أكثر مبادرة وأسرع تحركاً، حيث أكد استعداد بلاده للمشروع، مشيراً إلى منطقة «تراقيا» شمال غربي البلاد قرب الحدود مع بلغاريا بعدِّها المنطقة الأكثر مناسبة له، ومعطياً تعليماته لوزارة الطاقة والموارد الطبيعية لبدء العمل على المشروع والتواصل والتنسيق مع المؤسسات الروسية المعنية بهذا الشأن.
فهل يبدو المشروع قابلاً للتنفيذ؟ وما تداعياته وارتداداته على تركيا والأطراف الأخرى؟
إن الفارق بين موقف وزير الطاقة والموارد الطبيعية وموقف الرئيس «أردوغان» هو الفارق بين دراسة الجدوى الاقتصادية واقتناص الفرصة السياسية، فقد ركز الوزير على التفاصيل الفنية، بينما اهتم الرئيس بالدلالات الإستراتيجية والرمزية للمقترح.
ففي المقام الأول، حتى ينتقل الموضوع من مساحة المقترح والفكرة الأولية لمساحات التخطيط والتنفيذ ينبغي التأكد من جدوى المشروع أولاً، ومن العوائق والعقبات التي يمكن أن تقف في طريقه من جهة ثانية.
وفي المقام الثاني، ستفكر القيادة التركية ملياً في مشروع من هذا النوع قد يزيد من اعتماد البلاد على الغاز الروسي، وهو ما يعاكس سياساتها حتى اللحظة.
وثالثاً: هناك سؤال الإمكانات الذي ستبحث فيه الوزارة ومدى استعداد تركيا لتنفيذ مشروع بهذا الحجم، ولعل «أردوغان» قد قدم مبدئياً جزءاً من الإجابة حين أشار إلى حيازة بلاده مركزاً للغاز على المستوى المحلي، وحاجتها لبناء مركز بمواصفات دولية ليقوم بمهمة نقل الغاز الروسي إلى أوروبا، ولكن بالنظر لعموم المشروع، فقد تحدثت بعض التقارير الفنية عن قدرة تركيا بخطوطها الموجودة وفي إطار المشروع المرتجى على تزويد جنوب أوروبا وشرقها بالغاز.
من جهة ثانية، تحدث بعض الخبراء عن الحاجة لمد خطوط جديدة وليس فقط إنشاء مركز للغاز، وهو ما قد يحتاج لأشهر أو سنوات لإنهائه فضلاً عن التكلفة المالية المرتفعة والمتطلبات اللوجستية الضرورية لمشروع من هذا النوع.
الموقف الأوروبي
ولكن ثمة عقبة رئيسة أمام المشروع تتمثل في الموقف الأوروبي، حيث أشرنا لبيان الرئاسة الفرنسية، وقد أضيف له موقف مشابه وإن بصياغات أهدأ من المفوضية الأوروبية؛ ما يطرح علامات استفهام حول ما إذا كان هذا موقفاً فرنسياً أم أوروبياً، لكن وبكل الأحوال تدرك تركيا صعوبة تسويق مشروع كهذا في ظل الحرب الروسية – الأوكرانية التي تراها العديد من الدول الأوروبية حربها أو حرباً يمكن أن تطالها، فضلاً عن السياسة المعتمدة في الاتحاد الأوروبي لتقليل درجة الاعتماد على الغاز الروسي.
كما أن أنقرة تدرك أن رفض باريس للمشروع لا ينبع فقط من كونه رد فعل على موسكو، ولكن أيضاً رفضاً لأن تمارس أنقرة ذاتها هذا الدور، من زاوية الحساسية التي تتابع بها باريس تنامي الأدوار التركية في السنوات الأخيرة، ولا سيما على هامش الحرب الروسية – الأوكرانية.
وعليه، قد تكون المهمة التركية الأصعب هي إقناع الأوروبيين بجدوى المشروع والانخراط به، لا سيما وهم يرون أن المقترح في الأساس محاولة من «بوتين» للتحايل على سياسة الرفض الأوروبية وتقليل استيرادها للغاز الروسي.
عوامل مؤثرة
ولعله من المهم الإشارة إلى أن الآفاق العملية للمشروع تعتمد في الأساس على تفاعل عدة ظروف وعوامل، في مقدمتها مسار الحرب الروسية – الأوكرانية ومآلاتها، والقصد هنا هو احتمالات تفاقمها وتحولها لمواجهة مباشرة بين روسيا و«الناتو» (وخصوصاً الدول الأوروبية) مقابل سيناريوهات الهدوء وتراجع حدة العمليات العسكرية وربما الانخراط مجدداً في مسار سياسي.
ومن العوامل المؤثرة كذلك مدى قساوة الشتاء المقبل على القارة الأوروبية في ظل سياسة تقليل استيراد الغاز الروسي وخطط التقشف والاقتصاد في عدد من هذه الدول، وتحديداً مدى تقبل الشعوب الأوروبية للأمر، ومنها كذلك تقدير الأضرار التي لحقت بخط «نورد ستريم» عبر بحر البلطيق وألمانيا، ومدى القدرة على استخدامه مرة أخرى ودرجة الأمان في ذلك وبأي سعة وقدرات، ومنها أيضاً علاقات تركيا بدول الاتحاد الأوروبي ونظرتهم لدورها على هذا الصعيد، فضلاً عن مدى وحدة الموقف الأوروبي في هذا الشأن ولا سيما بعد صعود اليمين في أكثر من دولة أوروبية.
وأخيراً، فإن التبعات السياسية وخصوصاً ما يتعلق بعلاقات تركيا مع مختلف الأطراف عامل مهم جداً في التقييم؛ ذلك أنه من الوارد جداً بل من المرجح أن تنظر الولايات المتحدة الأمريكية وبعض الدول الأوروبية لهذا المشروع على أنه استمرار لنهج تركيا في دعم «بوتين» أو فتح قنوات خلفية له للالتفاف على العقوبات الغربية، ولا سيما أن لهم تحفظات أعلنوا عنها على عدم مشاركة تركيا الفاعلة في هذه العقوبات، وهو ما ترجعه أنقرة لأسباب مبدئية وسياسية واقتصادية.
ومن زاوية أخرى، فإن المشروع إن قيّد له أن يرى النور سيكون له انعكاسات مهمة على علاقات أنقرة بموسكو؛ إذ سيساهم في ترسيخها وتعميقها، وكذلك ببروكسل حيث ستمتلك تركيا أوراق قوة إضافية لدى التعامل مع الاتحاد الأوروبي والغرب عموماً.
وعوداً على بدء، هل يرى المشروع النور؟ نظن أن الخطوة الأولى في الإجابة عن السؤال تكمن في دراسة الجدوى الاقتصادية التي ينتظر أن تعلن عنها تركيا في أقرب وقت.