عرف الشمال الأفريقي عنفا محدوداً، باستثناء الجزائر التي كان فيها الإرهاب يمثل حالة فريدة في الواقع العربي الإسلامي، فقد كان العنف هناك رهيباً وقاسياً وشديداً، حيث استمر القتال بين العسكر والشعب عشر سنوات سميت بـ”العشرية السوداء”، وتباينت الإحصاءات عن عدد القتلى، فقد تراوح بين ربع مليون وخمسين وثلاثمائة ألف، عدا الجرحى والمصابين، والفارين من جحيم الموت والدم والتعذيب، ومن تم اعتقالهم وتغييبهم وراء الأسوار!
وبرز سؤال مهم: هل يمكن أن يكون الشعب الجزائري إرهابياً؟ وهل الربع مليون ضحية إرهابيون؟ إن إجابة السؤال تؤكد أنها حرب لأسباب أخرى، وحسابات معروفة وإن كانت غير منظورة!
سجّلتُ طرفاً من أحداث هذه الكارثة في كتابي “النظام العسكري في الجزائر” (دار الاعتصام، القاهرة، 1414 هـ/ 1993م)، عقب اشتعال الحرب بين الطرفين، بسبب الانتخابات التشريعية التي سمح بها الرئيس الشاذلي بن جديد، وهو جنرال سابق في الجيش الجزائري، (14 أبريل 1929 – 6 أكتوبر 2012م)، وكان يميل إلى الاعتدال والنظام الديمقراطي، وتداول السلطة، ولكن العسكر انقلبوا عليه، وخلعوه وحدّدوا إقامته حتى وفاته، وذلك بعد الجولة الأولى من الانتخابات التشريعية التي فاز فيها الإسلاميون بقيادة عباسي مدني، وحصلوا على أكثرية المقاعد، ولم يسمح قادة الجيش باستكمال الانتخابات، مدعومين بتشجيع بعض العواصم الإقليمية والعالمية، حتى لا يتولى الإسلاميون الحكم، وسالت أنهار الدماء طوال عشر سنوات عجاف!
المآسي والأسرار
وتناولت الصحف الأجنبية والمحللون الدوليون ما جرى في الجزائر عبر مقالات وتحقيقات ودراسات وكتب عديدة، وأصدر بعض من شاركوا في هذه الحرب واستيقظت ضمائرهم؛ كتباً كشفت كثيراً من المآسي والأسرار التي عتّم عليها الإعلام المحلي والإقليمي، أهمها كتاب “حبيب سويدية”، الضابط المظلي السابق بالقوات الخاصة في الجيش الجزائري (1992- 2000م)، حيث قدم شهادة مرعبة عن تلك الحرب البشعة بعد أن عاشها يوماً بيوم، وروى ما قام به الجنرالات من تعذيب وإعدامات عرفية واغتيالات للمدنيين، وكشف المحرمات التي حرصت السلطات العسكرية الحاكمة ألا يقترب منها أحد، وهي الخاصة بآليات عمل الجيش من الداخل، كما قدم صوراً من وقاحة الجنرالات وتقديرهم الخاطئ لعواقب ما يجري، مع إيضاح طرف من دمويتهم وآلية حشو الأدمغة التي يُخضِعون لها جنودهم، كما سلّط الضوء على يأس الجنود المكرهين على القيام بأفعال بربرية وعلى ما يفتك بهم من مخدرات وعمليات تطهير داخلية، وجاء نشر الكتاب ليحدث دوياً عالمياً، بعيداً عن التضليل الإعلامي الذي منع الرأي العام الأوروبي من إدراك أبعاد المأساة المخيفة التي تجري فيما وراء المتوسط. (حبيب سويدية، الحرب القذرة، ترجمة: روز مخلوف، ورد للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق، 2003م).
نظام الكابرانات
وهناك كتاب آخر حمل عنوان “ربيع الإرهاب في الجزائر”، صدر في فرنسا عام 2021، لم يتح لي الاطلاع عليه، وقد قرأت عنه في أماكن مختلفة، وينسب تأليفه إلى الجنرال الراحل أحمد القايد صالح (1940 – 2019م)، ولكن بعض من عرضوا للكتاب ينسبونه إلى مؤلف آخر يدعى عمر رامي، وواضح أن المؤلف الحقيقي يخشى الإعلان عن نفسه، والكتاب يرصد المخطط الذي يسعى من خلاله نظام الكابرانات (العسكر من حزب فرنسا) إعادة إشعال ملف الإرهاب في الجزائر بمناسبة الحراك في الشارع الجزائري عام 2019م، والكتاب عبارة عن شهادات حية لضباط منشقين عن المخابرات الجزائرية، فرّوا إلى فرنسا وبحوزتهم كثير من الوثائق السرية للجيش الجزائري.
ويؤكد مؤلف الكتاب تورط جنرالات (يذكرهم بالاسم) في توظيف ورقة الإرهاب والنعرات العرقية لإشعال فتيل حرب أهلية جديدة في الجزائر، وذكرت مصادر إعلامية مختلفة أن سلطات النظام الجزائري بفرنسا، في شخص مسؤولين بالجيش والأمن، تحركت لإقناع سلطات باريس بضرورة منع كتاب “ربيع الإرهاب في الجزائر” من النشر والتوزيع.
شهادات وحقائق صادمة
وقد ثارت ضجة في الجزائر بسبب ما يتناوله الكتاب من خفايا مثيرة، ومن أسرار سرت في الشارع الجزائري منذ الإعلان عن محتواه حول الأدوار التي مارسها جنرالات المؤسسة العسكرية الجزائرية، خلال الفترة السوداء التي عاشتها البلاد تحت جحيم الإرهاب، بشكل لم تعرفه في ماضيها وحاضرها، وقد نشر “موقع سياسي”، في 22 فبراير 2022، أن ربيع الإرهاب في الجزائر تضمن شهادات وحقائق صادمة عن جرائم الأمن والمخابرات الجزائرية جرت في العشرية السوداء، وقدم شهادات وروايات حقيقية لأشخاص تعرضوا لأبشع ممارسات التعذيب والاختطاف والاحتجاز في سجون سرية، وفي سجن شلف أو سجن عبلة سابقاً، وراح ضحيتها مئات الآلاف من الجزائريين، وذلك بسبب ممارسات ارتكبتها مصالح الأمن الداخلي والأمن الخارجي والجيش، وهي التي كانت مكلفة، حسب المؤلف، من قبل قادة الاستعلامات والأمن بتحويل مكافحة الإرهاب إلى حرب قذرة حقيقية ضد أفراد الشعب الجزائري، حيث ارتكبت جرائم التعذيب والقمع والاغتيالات وإبادة المواطنين الأبرياء.
عربدة الجنرالات
جرائم “دي.آر.إس” (DRS) ارتكبت في حق مواطنين أبرياء وهو ما جعل المؤلف الذي عاش كل أشكال التعذيب والقمع، يبسط العشرات من الشهادات الصادمة ويكشف خيوط العلاقة بين الاستخبارات والأمن والسياسيين، وهو ما دعاه لنشرها كي تكون عبرة لقيادة شباب الحراك الجزائري (عام 2021)، وهم شباب عاشوا مراهقتهم في أواخر سنوات عربدة الجنرالات.
وقد أماط الكتاب اللثام عن أسطورة مديرية الاستعلامات والأمن بالجزائر، وقال المؤلف: إنه لطالما كنا مفتونين بما يسمى الأمن العسكري أو المخابرات باعتبارنا أمة سيادة، فقد كان هذا الموضوع مذهلاً للجميع مما يسمح بنسج العديد من الأساطير حوله، غير أنها أساطير تخفي حقائق مرعبة تفوق استيعابنا، فكرست نفسي دون تردد -يقول المؤلف- لأوثّق وأدوّن في هذا الكتاب أمثلة عن جرائم تم ارتكابها عام 1992م على يد رجال الأمن العسكري التي كانت مهمتهم الأساسية هي جعل الجزائر جحيماً للجزائريين.
وأبرز مؤلف الكتاب مسؤولية ما وقع من وحشية، وأكد أن المسؤولية تتجلى في وزارة التسليح والعلاقات العامة، وهي المديرية المركزية للأمن الداخلي والمديرية المركزية للأمن الخارجي والمديرية المركزية للأمن العسكري، تعتبر المسؤول المباشر عن المأساة التي مسّت ربع مليون جزائري حسب الإحصاءات التي أعلنها رئيس الحكومة آنذاك أحمد أو يحيى، لكن التاريخ سيكشف حتماً إلى أي مدى هو رقم بعيد عن العدد الحقيقي للضحايا الأبرياء.
ضابط يبول!
ووصف مؤلف الكتاب بدقة ما كان يعانيه في أثناء جلسات التعذيب، وما شاهده بعينيه، من قبل ضباط القيادة العسكرية العليا مثل ما قام به عباس غزيل بشكل مقرف وهو يتبول على الجسد العاري الغائب عن الوعي لأحد المعتقلين الذي تم رميه تحت قدميه أمام المعتقلين وجلاديهم، ذلك الشاب الجزائري الذي كان قد بقي ساعات طويلة واقفاً عارياً في برد ليل فصل الشتاء، ثم أكملوا فعلتهم الشنعاء برشه بالماء المثلج والركلات إلى الرأس والصدر، فتكالب عليه أولئك الحثالة إلى أن لفظ أنفاسه الأخيرة.
وأكد مؤلف الكتاب أن سبب تأليفه هو الحاجة الماسة إلى إعادة المؤسسة العسكرية إلى مكانها الطبيعي في المجتمع بعد أن أحكمت قبضتها بقوة السلاح على السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية.
وقال المؤلف: إن من بين سكان الجزائر البالغ عددهم أربعة وأربعين مليون نسمة، لم يعش معظمهم مأساة العشرية السوداء إلا من خلال وسائل الإعلام والدعاية المفبركة على الطريقة الروسية، ولا يوجد غير مليونين أو ثلاثة ملايين ممن يعرفون النسخة الحقيقة للأحداث وهي تلك النسخة التي تحاول المؤسسات التي سيطرت عليها الشرذمة السياسية إخفاءها بشكل يائس.
السلم والمصالحة
لقد وضعت الحرب أوزارها بعد محاولات، ومبادرة من الرئيس بوتفليقة سميت باسم “ميثاق السلم والمصالحة الوطنية”، وتضمنت هذه المبادرة بعض المواد التي تحظر نشر الحقائق، وتناول دور السلطة في إذكاء نار القتال، بالكلام أو الكتابة، فقد تضمنت المادة (46) من الميثاق الذي يسمح بعودة من يسميهم “المتشددين” إلى المجتمع في حال تخلوا عن العمل المسلح، نصاً يقول: «يعاقَب بالحبس من ثلاث إلى خمس سنوات، وبغرامة من 250 ألفاً إلى 500 ألف دينار جزائري، كل من يستعمل من خلال تصريحاته أو كتاباته أو أي عمل آخر، جِراح المأساة الوطنية، أو يعتد بها للمساس بمؤسسات الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية، أو لإضعاف الدولة، أو للإضرار بكرامة أعوانها الذين خدموها بشرف، أو لتشويه سمعة الجزائر في المحافل الدولية، وتباشر النيابة العامة المتابعات الجزائية تلقائيًّا، وفي حالة العودة تُضاعَف العقوبة المنصوص عليها في هذه المادة».
التعب والإذعان
والنص واضح في تحصين السلطة ضد أيّ انتقاد، وقبول الشعب به هو إذعان للأمر الواقع، فليس لدى المواطنين العزل، أو حتى من يطلق عليهم الجماعات المتشددة المسلحة طاقة بمواجهة القوات المسلحة لبلادهم التي لم تتوقف عن القتل والاعتقال والمطاردة، وكان الطرفان فيما يبدو قد تعبا من المواجهات الدامية، وآن لهما أن يجنحا إلى المهادنة والتعايش السلمي، ولهذا يفسر بعضهم سطحية معالجة الإرهاب في الرواية الجزائرية بهذا النص في ميثاق السلم والمصالحة، مع أن أحد الكتاب -أمين الزاوي- قد أحصى عدد الروايات التي كتبت عن الإرهاب في الجزائر طوال العقدين الماضيين فوجده يصل إلى 370 رواية كتبت بالعربية والفرنسية، يتبنى كتّابها وجهة نظر السلطة العسكرية، والعداء للجماعات الإسلامية، أو الإسلام نفسه، لأن معظمهم يساري الهوى أو ينتمي لما يطلق عليه حزب فرنسا (الفرانكفون)، أو يمالئ النظام خوفاً وطمعاً، والقليل من هذه الروايات حمل جمالية وبناء أدبيين حقيقيين.
وبصفة عامة، فقد انشغل كثير من الأدباء في شمال أفريقيا بالكتابة حول الإرهاب، وتغصّ الصحف بكثير من المقالات والموضوعات التي تتناول الإرهاب، إلى جانب الفنون الأدبية وفي مقدمتها السرد، حيث صدرت كما سبقت الإشارة مئات الروايات وآلاف القصص القصيرة فضلاً عن المسرحيات، وإن كان عددها قليلاً بحكم طبيعة المسرح.
وقد عالج كتاب الرواية في المغرب وتونس قضية الإرهاب مثل رفاقهم في الجزائر، فكانوا أقرب إلى الجماليات من الدعايات والسطحيات التي طبعت الرواية الجزائرية، ونشير في هذه المناسبة إلى بعض ما كتب هناك (في المغرب وتونس).
محمد الأشعري، القوس والفراشة، «المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 2010م:
عبر الكاتب اليساري المغربي محمد الأشعري في روايته «القوس والفراشة» عن الإرهاب بطريقة خيالية، من خلال نجل بطل الرواية الذي يتحول إلى إرهابي يفجر نفسه وأباه(!).
طارق بكاري، القاتل الأشقر، دار الآداب، بيروت، 2019م:
يتناول المغربي طارق بكاري في روايته “القاتل الأشقر” تنظيم القاعدة من حيث بنيته وتكوينه وآليات عمله، وطريقة تجنيد أعضائه وصنع خلاياه، وأسلوب ممارساته الدموية المتوحشة، وأحداث الرواية تدور حول شخصية قاتل محترف أنتجته ظروف خاصة، وحولته إلى كائن متوحش متجرد من الإنسانية، لا يرتبط بأخلاق ولا فضائل، ولا قيم، ونتعرف على هذه الأحداث في زنزانة تجمع صحفياً لبنانيًا مع القاتل الأشقر، ومن خلال قصة كل منهما نعلم طبيعة الممارسات الإرهابية التي أدت إلى القتل الوحشي، في التنظيم الإرهابي. محمد عيسى المؤدب، جهاد ناعم، دار زينب للنشر والتوزيع، تونس، 2017م.
في الرواية يتقاطع التاريخ مع الواقع والمتخيل في رحلة امتدت لخمس سنوات من أحداث الحوض المنجمي إلى عام 2013م، والتّاريخ هو مادة حية متفاعلة مع الراهن والمتحول في رحلة خمس سنوات، رحلة الشباب العربي والأفريقي نحو المجهول، شباب من تونس والجزائر والمغرب ومصر والسنغال.
تسلط الضوء على تونس.. الإرهاب والبطالة والجنس.. وصولاً إلى الحرقة، والحرقة مصطلح في اللهجة التونسية يطلق على من يجتاز الحدود البحرية خلسة في اتّجاه أوروبا.
وتقدم الرواية سيرة ذاتية لشخصيتها الرئيسة “نضال” في سعيه للانتقال بين ضفتين يحدهما البحر المتوسط شمالاً وجنوباً، ورصد الصراع بينهما حيث الهجرة السرية واستقطاب الشباب المهمش والسيطرة عليه لاستخدامه في مساعدة “المافيا” على نهب كنوز بلدانهم وتهريب الآثار وترويج المخدرات، ثم تحويل أجساد هؤلاء إلى كتل مأجورة دون عقل في الجهاد وجهاد النكاح(!).
عفيفة سعودي السّميطي، غلالات بين أنامل غليظة، دار البدوي للنشر، تونس، 2014م:
تتناول الرواية أسرة تونسيّة تتكوّن من الأمّ “سحر” والزوج “عبدالله” والابن الضرير “عمر”، تعمل الأم “سحر” صحفية، ويعمل زوجُها في النشاط السياسي، ويلتحق بإحدى الجماعات السلفيّة الجهادية مع قريبه “زيد”، بعد أن تمّ تجنيدهما من قبل من يوصف بالإرهابيّ “طلحة”، ويقومون بأعمال انتقامية، وترعى الأم ابنها الضرير، في غيبة زوجها الذي تحول إلى إرهابي على أمل أن يعود إلى أسرته.
يقبض على الزوج في إحدى العمليات، ويودع السجن فترة يتمكن بعدها من الفرار، ويُعلن تخليه عن الإرهاب والسياسة، والعودة إلى أسرته والعيش مع ذوية عيشة طبيعة هادئة.
منيرة درعاوي، أرصفة الضباب أو الطريق إلى داعش، الثقافيّة للنّشر، سليانة- تونس، 2017م:
في هذه الرواية نرى شابّا تونسيّاً جامعيّاً رمزي عبدالرحمن، ضاقت به الدنيا وقهره الفقر، فيتزوج عجوزاً إيطالية ويسافر معها إلى وطنها، ويكتشف بعد عشر سنوات أن زوجتَه أخفت عنه رسائل أهله إليه.