ظلمت المرأة حين قيدت بالتقاليد الراكدة، وحين أريد لها أن تذوب في التيارات الوافدة، وظلمت أكثر حين حرمت من حقوقها باسم الله وبدعوى أن ذلك حكم الإسلام.
وقد كثرت الكتابات حول المرأة منذ اتصال الشرق بالغرب، اتصال المغلوب بالغالب، وإلا فقد سبق هذا الاتصال قرون من التجاور كانت الغلبة فيها للإسلام وقيمه ومواريثه، والمغلوب كما يقول ابن خلدون مولع أبداً بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده.
تتأسس مكانة المرأة في السلم الاجتماعي على نصوص قرآنية ونبوية، منها:
قوله تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران: 195]، وقوله تعالى: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [الزمر: 6]، ويرفع الإسلام من شأن المرأة حين يجعل ميلاد الأنثى هبة من الله تعالى كما أن ميلاد الذكر هبة من الله تعالى: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ} [الشورى: 49]، ويحقر مشاعر الاستياء التي تنتاب البعض حين يتلقى خبر ولادة أنثى هي من شأن أهل الجاهلية {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ } [النحل: 58].
وعلى ذلك يتضح خطأ من اتهم الإسلام بأنه دين ذكوري يعلي من شأن الذكر ويحتقر المرأة، ولعل هؤلاء الذين ظلموا أنفسهم وظلموا المرأة وظلموا الإسلام لم يطلعوا على نصوصه وغرهم ما رأوا من تصرفات بعض المسلمين، فظنوا أن ذلك هو حكم الإسلام وتشريعاته، وهذا هو موقع المرأة في السلم الاجتماعي، وكأن كل ما يفعله المسلمون يقومون به بدافع من دينهم.
إن كثيراً من التصرفات التي يقوم بها المسلمون نابعة من تقاليد وعادات وأهواء لا تلتزم بأحكام الإسلام بل لا تبحث عن حكمه.
وفي بيان عظيم أجر العناية بها ورعاية مشاعرها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من كانت له أنثى، فلم يئدْها، ولم يُهنها، ولم يؤثر ولده عليها -يعني الذكور- أدخله الله الجنة” (المستدرك وصححه الحاكم ووافقه الذهبي)، وقرر لها حقوقاً في الميراث {لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا}، فمن انتقص من هذا النصيب المرفوض كماً أو كيفاً فهو عاص لله تعالى.
وهي موعودة بالأجر الجزيل على عملها؛ {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}.
والعقوبة التي توقع عليها إن هي أخطأت نفس العقوبة التي توقع على الرجل إذا هو أخطأ؛ {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2]، وهذه الآية تقرر خطأ من يتصرفون بازدواجية مع المرأة حين تزني فيقتلونها ومع الشاب فيقولون طيش شباب ويسامحونه.
هذه المرأة التي يحتقرها البعض قدمت واحدة من بنات جنسها مشورة للنبي صلى الله عليه وسلم كانت سبباً في حل أزمة دينية وسياسية، بل أعادت الصحابة رضوان الله عليهم إلى جادة الصواب وحمتهم من نزول العقوبة الإلهية، فبعد صلح الحديبية دعا النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه لكي يتحللوا من العمرة بحلق رؤوسهم ونحر الهدي فلم يستجب له أحد؛ فدخل صلوات الله وسلامه عليه على أم سلمة مغضباً وهو يقول: “هلك الناس”، فتطيب أم سلمة رضي الله عنها من خاطر النبي صلى الله عليه وسلم حين تلتمس للصحابة المعذرة وتقدم مشورتها، يقول المقريزي في “إمتاع الأسماع”: “فاشتد ذلك عليه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فدخل على أم سلمة فقال: “هلك المسلمون! أمرتهم أن يحلقوا فلم يفعلوا”، قال: فجلى اللَّه تبارك وتعالى عنهم يومئذ بأم سلمة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها.
قالت أم سلمة: يا نبي اللَّه! أتحب ذلك؟ اخرج ثم لا تكلم أحداً منهم، فإنّهم قد دخلوا في أمر عظيم لما أدخلت على نفسك من المشقة في أمر الصلح، ورجوعهم بغير فتح، فأشارت عليه أن يتحلل لينتفي عنهم هذا الاحتمال.
وعرف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم صواب ما أشارت به ففعله، فلما رأى الصحابة ذلك بادروا إلى فعل ما أمرهم به، إذ لم يبق بعد ذلك غاية تنتظر.
وكما قدمت أم سلمة المشورة قدمت خولة بنت ثعلبة النصيحة للخليفة عمر بن الخطاب، وهو من هو التزاماً بالحق وقبولاً للنصح مر بها عمر بن الخطاب “فسلَّم عليها، فقالت له: إيهًا يا عمر، عهدتك بالأمس في سوق عكاظ تدعى عُميرًا تَزَع الصبيان بعصاك، ثم لم تذهب الأيام والليالي حتى سميت عمر، ثم لم تذهب الأيام والليالي حتى سميت أمير المؤمنين، فاتق الله في الرعية، واعلم أن من خاف الوعيد قرب عليه البعيد ومن حذر الموت خشي الفوت. فبكى عمر، فقال لها الجارود: لقد أغلظت لأمير المؤمنين، فقال له عمر: مه، دعها، أما تعرفها؟ هذه خولةُ التي سمع الله كلامها من فوق سبع سماواته، فعمر أولى أن يسمع كلامها” [مرآة الزمان في تواريخ الأعيان].
ومن تكريم الإسلام للمرأة وجميل أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم ينس ما كان لخديجة رضي الله عنها من جهد مشكور، فكان يذكرها ويذكر آثارها الطيبة وما قدمت في سبيل الله حتى بعد وفاتها بسنوات، قال صلى الله عليه وسلم عن خديجة رضي الله عنها”قد آمَنَتْ بِي إِذْ كَفَرَ بِي النَّاسُ، وَصَدَقَتْنِي أذ كَذبَنِي [النَّاس]، وآستني بِمَالِهَا إِذْ حَرَمَنِي النَّاسُ” [السيرة النبوية لابن كثير].
إذا كانت النصوص الشرعية تعلي من شأن المرأة فلماذا نتألم جميعاً من هذا الواقع المزري للمرأة حين تميل عن الصراط المستقيم فتتحول إلى سلعة أو مروجة للسلع ومعرض متنقل للأزياء، وحين يكون كل همها مناطحة الرجل والانفراد بالمواقع التي تراها مؤثرة في السلم الاجتماعي أو الوظيفي، بينما تترك مواقعها التي لا يمكن لأحد أن يقوم بدورها، أو حين تميل من طرف آخر عن الصراط المستقيم فتعطل مواهبها في المعرفة والقدرة على العطاء ودورها في صناعة الأجيال وتكوين إنسان صالح نافع لنفسه ولأسرته ولأمته؟
من المسؤول عن هذا الوضع الذي لا نرضاه جميعاً:
العلماء حين لم يبينوا للناس ما أنزل إليهم ولم يحددوا الموقع الصحيح للمرأة ومكانتها عند الله؟
والعامة الذين عرفوا الحق ولم يعملوا به بل غلبوا أهوائهم وغلبوا التقاليد على الشرع أو سايروا تيار الحداثة دون أن يسألوا عن حكم الله تعالى في هذا التيار وأن يدركوا أخطاره عليهم وعلى المجتمع؟
استمعت إلى أستاذة جامعية تدرس الفلسفة وهي تستنكر عناية المرأة بمهام البيت وتربية الأبناء، وتذكرت ما سمعته عن امرأة مسنة تقول عن ابنها: قدمت للإنسانية كنزاً لا يفنى حين علمته وأهّلته ليكون إنساناً صالحاً ينتفع به كل من جالسه طالباً لنصيحة أو علم أو مواسياً للناس حين تنزل به المصائب ومثبتاً لهم على الصراط المستقيم، لقد رأت هذه المرأة التي لم تتلق تعليماً أولياً الأثر الكبير لإنسان صالح وما يمكن أن يقدمه لمجتمعه من إضاءات توفر عليه عناء الصراعات أو السير في الطرق الخاطئة، بينما الأستاذة التي تدرس مادة تضع للعقل قوانين التفكير الصحيحة لم تستفد من دراستها، ولم تر فرقاً بين تربية الدواجن وتربية الإنسان، فكلاهما في نظرها يحتاج إلى غذاء ودواء ولا شيء غير ذلك من عناية وحرص على تنمية المواهب والشعور بالمؤانسة والمصاحبة التي توفر فرصة للإصلاح والتأهيل للمعالي وانتقال العادات الحميدة.