لست من عشاق كرة القدم ولا من هواة متابعتها، لأسباب شتى، كنت في صباي أمارسها من خلال المدرسة، وإدارة نادي القرية الذي تحول الآن إلى ما يعرف بمركز الشباب، وكان فريق قريتنا يتقابل مع فرق القرى المجاورة، وكنا ننفق من مصروفاتنا الزهيدة على الرحلة إلى مقر الألعاب، ونحلم بالعودة مع الكأس (المعدني المتواضع صغير الحجم)، لم نكن نسميها كأس القرى، سميناها “دورة رياضية”.
لا ريب أن فكرة الدورة منقولة عن فكرة الكأس، فقد كان الشباب على عهد الصبا يتابعون الصحف اليومية وخاصة ما تنشره صفحات الرياضة، ويزداد الاهتمام بما يُكتب عقب مباريات الأهلي والزمالك والإسماعيلي والترسانة والترام والبحرية وغيرها.. في ظل موت السياسة والفكر والأدب والفنون الجميلة، يتحول الاهتمام تلقائياً إلى النشاطات الهامشية ومنها الرياضة.
فكرة الكأس العالمية لها غايات وأهداف مختلفة، منها تلاقي الأمم تحت راية قوانين دولية وأنظمة اجتماعية متعددة، فضلاً عن الفوائد التجارية والاقتصادية، ويلعب الإعلام والصحافة والتلفزة أو الميديا بصفة عامة دوراً مهماً في الترويج لأحداث الكأس التي يُطلَق عليها اسم أجنبي صار معرباً ومعولماً، وهو “المونديال”.
أول مرة
لم يحظ العرب منذ نشأة “المونديال” (1930م) بشرف تنظيم “كأس العالم” إلا في هذا العام 2022، بُذلت محاولات في العقود الماضية ولكنها أخفقت، بسبب عدم تحقيق الشروط المطلوبة، وتمكنت أخيراً دولة قطر من تحقيق هذه الشروط، واستطاعت أن تنفق كثيراً من الأموال لتوفير بنية أساسية متكاملة لإقامة اللقاءات والأنشطة والعناصر المساعدة، وكانت فرصة لنقل الدولة إلى أحدث وضع حضاري عالمي!
عندما اختيرت قطر منذ سنوات لتنظيم المونديال الحالي، بدأت الأراجيف والأباطيل والأكاذيب تزحف على صفحات الغرب الكبرى، وشاشاته الفضائية، ومؤسساته الدولية، تقليلاً من قيمة قطر، وتشكيكاً في قدرتها على التنظيم، فضلاً عن الاتهامات السخيفة بدفع القطريين رشى لينالوا شرف استضافة المونديال.. وقبل ستة أشهر بعد اكتمال التجهيزات في قطر للضيافة وممارسة النشاط الرياضي، اشتعلت الكراهية والبغضاء، واختلق الغرب مشكلات تتعلق بحقوق العمال، وعزفت أوتار الحكومات التابعة للغرب على وتر الفشل الذي ينتظر المناسبة العالمية، وامتدت الحملة لتشمل قطر والعرب والمسلمين فضلاً عن الإسلام، وأخذ الغرب الاستعماري يمارس جبروت الهيمنة الاستعمارية ليفرض ثقافته المسيحية الوثنية، فيما يتعلق بالتشريعات والسلوكيات ورفض الآخر المسلم، فراح -ومعه النخب العلمانية في البلاد الإسلامية- يقرّع العرب والمسلمين على عدم قبولهم للشذوذ الجنسي (اللواط والسحاق)، وشرب الخمر، والمظاهر الإسلامية الأخرى مثل المساجد والصلاة والحجاب، ويندد بعدم قبول أفكاره الصليبية وقيمه الوثنية وأخلاقه الانتهازية!
الترويج للشذوذ
لقد جاءت بعض الفرق الأوروبية تحمل عجرفة القوة الاستعمارية لتروّج للشذوذ -الذي يسمونه مثلية- وحملوا شاراته (الرينبو أو قوس قزح)، وانتقدوا الدولة المضيفة التي لم تتسامح معهم وفرضت عليها الإرادة الإسلامية طرد دعاة الشذوذ الذين لم يحترموا الضيافة، ولا قيم المجتمع المضيف.
وزيرة الداخلية الألمانية نانسي فيزر التي حضرت لمشاهدة المونديال، تحايلت على منع شارات الشواذ، فارتدت سترة تخفي الشارة التي ربطتها فوق ذراعها حتى دخلت إلى مقاعد المتفرجين، وخلعت السترة فظهرت الشارة بألوان قوس قزح (الرينبو)، وقالت في غطرسة وسوء أدب لرئيس “فيفا” إنفانتينو: انظر: إن الأمر ليس بهذا السوء كما تتصور! وفي بداية مباراته التي خسرها أمام اليابان، وضع أفراد الفريق الألماني أيديهم على أفواههم عند عزف سلامهم الوطني احتجاجاً على قرار منع شارات الشواذ الذي أصدره “فيفا” (الاتحاد الدولي لكرة القدم)، وقد سخر بعضهم من هزيمة الفريق الألماني أمام المنتخب الياباني برسم كاريكاتوري معبر يظهر فيه اللاعبون الألمان وقد امتلأت أدمغتهم بعلم الشواذ (قوس قزح)، بينما كانت كرة القدم تشغل رؤوس لاعبي اليابان! وأعلنت بعض الملاهي الليلية في لندن مقاطعة المونديال دعماً للشواذ، ومنع عرض المباريات تلفزيونياً في صالاتها، وقال أحد العنصريين الأوروبيين متهكماً على المسلمين: إن قطر فيها الكثير من المساجد!
تناقض الغرب
نشرت صحيفة “نيويورك تايمز” تقريراً جاء فيه أن “رود ستيورات” عندما عرض عليه مليون دولار للغناء في احتفالات افتتاح حفل مباريات كأس العالم رفضها، وقال ستيورات لصحيفة “صانداي تايمز”: “لم يكن صائباً الذهاب”، وكان واحداً ممن قاطعوا أو عبروا عن شجبهم لقطر، لكنه لم يعبر عن شجب مماثل عندما غنى في دبي عام 2010، وأبو ظبي عام 2017، وهما المدينتان القريبتان من الدوحة، وهذا النوع من التناقض أحبط كثيراً من القطريين الذين قالوا: إن ما رأوه هو ازدواجية في المعايير، ويتساءلون عن السبب الذي يجعل أوروبا تقبل على شراء الغاز الطبيعي من بلدهم لو كانوا يعرفون بسجلها الحقوقي لدرجة أنهم لا يستطيعون متابعة مباريات كرة القدم في الدوحة، ولماذا لم تتحدث الرموز الدولية ضد قطر بنفس الطريقة عن الإمارات العربية المتحدة؟ وفي حديثه مع صحيفة ألمانية، قال وزير الخارجية القطري الشيخ محمد بن عبدالرحمن آل ثاني: إن بعض النقد الموجه لبلاده يعبر عن عنصرية وغطرسة.
على كل حال، لم تُظهر بعض المنتخبات الغربية هذه المشاعر العنصرية البغيضة، فقد أعلن قائد منتخب فرنسا هوجو لوريس أنه لن يرتدي شارة الشواذ؛ لأنه يريد إظهار الاحترام، وقال مراسل “أوروبا 1”: العالم يعرف منذ 12 عاماً أن قطر ستنظم كأس العالم 2022، لا أفهم هذا الهجوم في الأشهر الستة الأخيرة، وأضاف أنه يتفق مع إيمانويل ماكرون، رئيس فرنسا، الذي رفض “تسييس” الرياضة، وذكر أنها “فكرة سيئة”، وكان ماكرون أعلن من قبل أنه سيذهب إلى قطر لتشجيع منتخب بلاده، إذا تأهل الفريق للدور نصف النهائي.
رفض الشذوذ
وإذا كانت ألمانيا واليابان وبريطانيا، على سبيل المثال، يدعمون قوانين الشذوذ أو المثلية الجنسية بصورة كاملة، إلا أن هذه المسألة تواجه انتقاداً ورفضاً تاماً واسع المدى داخل الدول الغربية نفسها، فقد رفضته روسيا وإسبانيا وأستراليا، وقد أدان الفاتيكان قوانين الشذوذ، وأرسل في يونيو 2021 رسالة إلى الحكومة الإيطالية يطالب فيها بعدم الموافقة على مشروع القانون الذي تسعى لإصداره من أجل تجريم انتقاد المثلية الجنسية في البلاد، وقالت الكنيسة الكاثوليكية” إن اعتماد هذا القانون يعد انتهاكاً واضحاً للاتفاقية المبرمة بينها وبين إيطاليا في عام 1920، وتضمن للكنيسة حرية الرأي والفكر.
ورأى الفاتيكان أنه إذا تم التصديق على هذا القانون سيتم إجبار المدارس على تنظيم فعاليات مثل “العيد القومي للمثلية الجنسية” يحتفل فيها الأطفال بالمثليين.
الصليبيون الجدد
لقد كشفت بعض الممارسات الغربية في مونديال قطر عن خبايا ما تحمله ثقافة الغرب المسيحية الوثنية، حيث ظهرت جماهير غربية بملابس الصليبيين الذين بدؤوا عدوانهم على المسلمين في نهايات القرن الحادي عشر الميلادي، ونشرت “الأهرام”، في 26 نوفمبر 2022، أن الاتحاد الدولي لكرة القدم أصر على منع الجماهير الغربية من ارتداء ملابس الصليبيين في مباراة إنجلترا أمام الولايات المتحدة الأمريكية، التي أقيمت مساء 25 نوفمبر 2022 ضمن مباريات كأس العالم لكرة القدم.
وتم إبلاغ المشجعين الذين كانوا يحملون سيوفاً بلاستيكية ودروعاً عليها صليب القديس جورج بأنه لن يُسمح لهم بدخول إستاد البيت في الخور شمال الدوحة، الذي استضاف المباراة، وفقاً لصحيفة “تايمز” البريطانية، ونقلت الصحيفة عن الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) قوله: «الأزياء الصليبية في السياق العربي يمكن أن تكون مسيئة للمسلمين».
من جانبها، نصحت مجموعة «كيك إت أوت» البريطانية، المناهضة للتمييز، المشجعين بعدم ارتداء أزياء تنكرية تمثل الفرسان أو الصليبيين، مما يذكر بالحروب الدينية التي شنها المسيحيون ضد المسلمين في العصور الوسطى.
وقال جاستن مارتن، الأستاذ المشارك في الصحافة بمعهد الدوحة للخريجين: يقوم الكثير من الصحفيين بوضع كل الدول العربية في سلة واحدة، وهو ما يدل على الجهل الكبير والاستعارات الاستشراقية، والقطريون الذين يتقبلون النقد لتحسين وضعهم والتطوير شعروا بالغضب من التغطية الإعلامية حيث يعتقدون أنها قائمة على التحيز والعنصرية و”الإسلاموفوبيا” والاستشراق، ففي مقال نشرته صحيفة “تابلويد” بريطانية شجبت قوانين قطر “المتوحشة”، وهي إشارة تم تغييرها لاحقا لـ”القاسية”!
النخب العربية
وعلى تلفزيون “تولك تي في” الذي يملكه روبرت ميردوخ، وهي قناة صغيرة بعدد قليل من المشاهدات، تساءل مقدم برنامج قائلاً: كم من الاحترام الواجب علينا تقديمه لثقافة نعتقد أنها، بصراحة، بغيضة؟ وكان يعلق على لقطة تلفازية حول معاملة قطر للشواذ اللوطيين.
واضح أن الغرب يعبر عن ثقافة تحفر عميقاً في جذوره الوجودية وتقوم على كراهية الإسلام والمسلمين، وتدفعه من خلال إحساسه بالقوة والهيمنة، ومعرفته بضعفنا وتمزقنا، وهو يسعى جاهداً لفرض هويته على المسلمين بإخراجهم من الإسلام، وإدخالهم في عالمه الوثني الهمجي، وإن بدا أحياناً أن المسألة تدور حول كرة القدم وتنظيم المونديال، ومن المؤسف أن النخب العربية الموالية للغرب كانت أشد بؤساً وخيبة وهي تزايد على الغرب الوثني في صراع الهوّيات، وتحاول أن تنتقص من جهود بلد عربي مسلم في تنظيم كأس العالم، وتقلّل من محاولاته التمسك بهويته الإسلامية، واحترام قوانينه وتقاليده العربية، وقد تجاهلت طلائع الاستشراق، أو قناصل التبشير -على حد تعبير العلامة محمود محمد شاكر- أن الغرب الوثني عدو الإسلام يسوق للشذوذ والإباحية بأشكالها كافة لتخريب البنيان الاجتماعي في دول الإسلام، وتفتيت الإرادة الإسلامية، حتى يفقد المسلمون كل أثر للمقاومة، ويدفنوا هويتهم في أعماق الهزائم والتخلف والتردي!
مخالفة الشريعة
لقد أفتى أحد أفراد النخبة العلمانية في بلادنا أن منع الأجانب من تناول المشروبات الكحولية في قطر مخالف للشريعة الإسلامية! ونسي صاحبنا أنه قال منذ فترة قريبة: إنه لا يوجد شيء اسمه الشريعة الإسلامية!
وأفتى آخر أن الذين يفاخرون بأن المنظمين القطريين قد أعلوا راية الإسلام بمنع المشجعين الوافدين من شرب الكحوليات في محيط الملاعب يخلطون خلطاً كبيراً؛ لأن شرب الكحوليات كان ممنوعًا من الأصل على الأراضي القطرية، بينما مع بدء فعاليات كأس العالم سمحت قطر بشرب وتداول الخمور(؟)، بل صار لديهم محال كبرى للبيع، ولم يتم المنع إلا في نطاق ضيق!
لم يكتف العلمانيون العرب بفتاواهم الضالة المضلة، بل استنكروا أن يفخر العرب والمسلمون بانتصارهم في إقامة المونديال، والتعبير عن هويتهم الإسلامية، وهم الذين يبعثون الهويات المنقرضة؛ طائفية أو عرقية أو مذهبية أو خادمة للهوية الوثنية الغربية! لقد تجاهلوا أن الشعوب العربية والإسلامية توحدت خلف قطر والمظاهر الإسلامية التي تجلت في أماكن الأنشطة الرياضية، وتناست الخلافات الفوقية، ولاحظت ذلك “الجارديان” البريطانية، كما ذكرت وكالات الأنباء، في 25 نوفمبر 2022، حين حملت عنواناً يقول: العالم العربي يتوحد خلف قطر في كأس العالم، ولفتت الانتباه إلى التحول في المزاج العربي بخصوص كأس العالم الذي “أتى بشكل متأخر حيث أصبح فرحة للجميع”.
المؤسف أن العلمانيين العرب لم ينبسوا بكلمة حول ممارسات الدول الصليبية في قمع الإسلام والمسلمين، ومنعهم من التعبير عن هويتهم، وعلى سبيل المثال؛ فقد قررت السويد في ظل الضجيج الذي أثاره الغرب حول المونديال حظر المدارس الإسلامية بمزاعم الحد من التطرف!
إنهم يتجاهلون أن الحرب الصليبية لم تنتهِ بعد!