بقلم: عبدالعزيز بدر القطان (*)
علمني الشك اليقين.. علمتني التجربة.. علمتني الحياة.. علمني الأساتذة والعلماء، أن أي علم يجب أن تبحر فيه إلى أن تكوّن ذاتك المعرفية، العلم بحث وتقصٍّ ورحلة طويلة، لم تكن يوماً تعاليم ملقّنة، في أمتي علماء خاضوا كل تلك العلوم وتركوا موروثاً ضخماً، لنجد أن الشك جزء من الحقيقة، وأن اليقين هو خلاصة الرحلة، لنخوض قليلاً في بحر تعاليم حجة الإسلام، الإمام أبو حامد الغزالي.
إن التعاليم التي جاءت من الله تبارك وتعالى هي وحي حق، منزّهة ومحقة ولا يعتريها أي شك أبداً، طالما القرآن الكريم ذكرها وهو المصدر التشريعي الأول لكل مسلم على هذه الأرض، من خلال التعاليم والمقاصد الشرعية في المعاملات والعبادات التي تحتاج إلى متخصص لأن بعضها يحتاج إلى تفعيل العقل، لتبسيطها وتقديمها في دنيا الناس بشكل سليم وخالٍ من أي غموض.
وللتذكير، ولد حجة الإسلام، أبو حامد الغزالي في العام (450هـ)، درس الفقه وأصوله وبرع به، إلى جانب أصول الدين والمنطق والفلسفة، وكان قد وصفه إمام الحرمين، الإمام الجويني بـ “بحر مغرق”، الإمام الغزالي جمع بين روحانية الصوفية في صفاء العبادة، وشفافية الوجدان وعمق الإيمان والزهد في الدنيا، ومؤلفاته تبين مدى اهتمامه بالعقيدة الصحيحة وهي أكبر دليل على ذلك، مثل: المنقذ من الضلال، إحياء علوم الدين، وبكل صدق وكما يقولون إن حجة الإسلام “مجدد الدين في القرن الخامس الهجري”، كما أن كان لزمانه دوراً كبيراً في الصورة التي خرج عليها الإمام سواء لكثرة ترحاله وتنقلاته وأساتذته في العلوم التي تلقاها، والتي كان لها عميق الأثر لما وصل إليه، أو لنهضة الحركة الفكرية والإسلامية آنذاك، حيث امتاز عصره بتكوّن “مكتبة إسلامية” حافلة بالمراجع القيمة، وفي هذا العصر نشأ الغزالي، فرأى المذاهب المختلفة في الفلسفة وغيرها.
وبشكل علمي، من الممكن أن نقول: إن دور التأويل بمقدوره إماطة اللثام عن كل إبهام وغموض لظواهر الألفاظ والأشياء لبعض التعاليم الإلهية، من خلال مهمة العقل أو التأويل، هذا الأمر أبرز إشكالية كبرى في تاريخ الفكر الإسلامي وهي إشكالية العلاقة ما بين النقل والعقل، وليس هناك أفضل من الإمام أبو حامد الغزالي عالم الدين الكبير والفيلسوف والمفكر وناقد للفلسفة والفلاسفة، الذي كان له رأي هام ومن الممكن القول إنه متميز في توضيح هذه العلاقة ما بين الوحي أو النقل وبين العقل، ولا بد من الإشارة هنا إلى أمر غاية في الأهمية، وهي صعوبة توضيح وملاحقة أفكار الإمام في هذا المجال، وذلك بسبب الحقبة التي عاش فيها الإمام وطبيعتها بمعنى أنه يجب مراعاة هذا العامل بطبيعة الحال، يما يخص موضوعنا سواء موقف العقل، أو علاقة العقل بالشرع.
ومن يتتبع الإمام الغزالي وبعكس ما هو شائع في هذا الموضوع، نجد أنه أعطى العقل مكانة متميزة، ففي كتابه “إحياء علوم الدين”، أبرز الإمام ما يجب أن يكون عليه الحال من تكامل ما بين الوحي والعقل، يقول الإمام: “فأما نور البصيرة الباطنة التي بها يُعرف الله تعالى، ويُعرف صدق رسله، فكيف يتصور ذمه وقد أفنى الله تعالى عليه، وإن ذم فما الذي بعده يحمد، فإن كان المحمود هو الشرع، فبما علم صحة الشرع، فإن علم بالعقل المذموم الذي لا يوفق به، فيكون الشرع أيضاً مذموماً”، وأيضاً يقول الإمام: “إن العقل ميزان الله في أرضه”.
الإمام.. وعلم الحديث
تعرض الإمام الغزالي للعديد من الانتقادات والاستهجانات، رغم شهرته وسعة علمه في شتى الفنون الإسلامية، فكان كلامه قليلاً عن علم الحديث بالنظر إلى علومه الأخرى، وبالتالي اختار التعمق أكثر نحو متطلبات العصر في زمانه، لكنه لم يهمل الحديث، حيث قدّم رأياً وموقفاً من عند نفسه من الأحاديث وأصوله عبر الكتب المؤلفة في الفقه وأصوله وفي التصوف والفلسفة مما هو منقول في الكتب المعتبرة عند العلماء حتى تبوأ مكانة مختصة به في مجال الحديث الشريف.
وعلى الرغم من أن علماء عصر الإمام تكرسوا على البراهين والحجج من الآيات والأحاديث، حتى طلع الغزالي بفن منفرد من معاصريه ومن قبله، وهذه السمات المختصة له، أدته إلى أن يكون “شخصية فذة”، فكان الحديث في روايته وتسجيله في مؤلفاته قليلاً بعض الشيء من مبدأ تركه لأهل الاختصاص، ومن جانب أصول الفقه أبو حامد الغزالي يتولى منصب العالم العملاق حتى يستحق لقب “الشافعي الثاني”، كما لا يخفى لكل من يبحث حول شخصيات كبار يمتازون بخدمتهم للإسلام، أن الغزالي مهما تراكمت التساؤلات والاستفهامات حوله إنه ليس كشخص فهم قشر الإسلام وترك لبه بل هو شخص أنجز كل مشروعات ووفى كل تخطيطات، حتى لقب بحجة الإسلام ومجدد القرن الخامس من الهجرة، فأما علم الحديث رواية ودراية يتبلور في معالم أواخر حياته لكنه كان مولعاً به أيام تأليفه كتب الأصول والكلام.
وإذا تتبعنا بالدراسة في مؤلفات الغزالي المطولات والمختصرات من الرسائل والمقالات لا نجد منها كتاباً خاصاً في علم الحديث، ولكن إذا اطلعنا على هذه المؤلفات ودرسناها بدراسة دقيقة فنجد فيها بيانات وإشارات تدل على أن الإمام الغزالي اعتنى بعلم الحديث وناولها عبر كتبه المتعددة، وكذلك عدة مقالات ورسائل توضح منهجه وكيفيته في علم الحديث، ففي بعض المؤلفات كـ”المستصفى من علم الأصول”، و”المنخول من تعليقات الأصول” أورد فيها الغزالي دراسة دقيقة عن علم الحديث مع أن كتابه “المنخول” إنما كتبه لأجل ما طلب منه تلاميذه، فمن الضرورة أنه لا يستطيع وضع قواعد ومعايير في علم الحديث إلا بعد الاطلاع عليه، وكتبه في الفقه كـ”الوجيز” و”الوسيط” و”البسيط” و”الخلاصة” أيضا تحتوي ما يدل على اطلاعه على علم الحديث لكونه يوضح المسألة ويثبتها في ضوء الحديث، وإقباله على سماع الأحاديث الشريفة بعد أن وصل إلى قمة الشهرة في العلوم الإسلامية والفلسفية، وقد لقب بحجة الإسلام والمسلمين وإمام أئمة الدين، يدل على حبه الشديد لعلم الحديث وعلمائه وتواضعه لهم، وبذلك أصبح قدوة حسنة للباحثين والدراسين في طلب العلم من المتخصصين وأسوة للاستفادة من الغير بالحب والإخلاص(1).
الشك المنهجي
من الدلالات الكبيرة للإمام أبو حامد الغزالي هو وضعه لطريقة الشك المنهجي، هذه الطريقة ببساطة هي منهج عقلي جل الاعتماد فيها وأحد أهم ركائزها العقل في المقام الأول، ما يعني أن الشك حالة صحية وأمر ضروري خاصة لرواد العلم الذين يتلقوا المعارف، لا بد لهم من لحظات شكوك حتى تتجلى الحقائق ويبرز الحق، ولا يمكن لإنسان على هذه الأرض إلا وأن اعتراه الشك في كثير من الأمور سواء كانت دينية أو دنيوية، يؤكد الغزالي فكرته هذه كما جاء في كتابه “ميزان العمل”: (إن الشكوك هي الموصلة إلى الحق، من لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر بقي في متاهات العمى) هذا القول باختصار بسيط جداً هو إعمال للعقل، وهو ما يمكن أن نسميه في عصرنا البحث عن المصادر الحقيقية كما في الأحاديث النبوية الشريفة، كما في دقة الفتاوى الشرعية كما حكم أي مسألة شرعية، كما في أي بحث يتطلب منا الدقة وذكر المصادر وهذا كله مرده للإنسان العاقل الذي يفعل العقل في سبيل إبراز الحقيقة المجردة.
إذاً، إن العقل عند أبو حامد الغزالي هو أدلة للمعرفة ووسيلة للمعرفة، لكن وبمفهوم الغزالي أنه حتى هذه الأداة من الممكن التشويش عليها، من جهات عدة كالخيال أو الحواس أو الوهم، وهنا على الإنسان أن ينبذ هذه الأمور ويبعدها عن تفكيره كي يصل إلى ضالته، وهذا هو دور وعمل المنهج الشكي.
الغزالي.. وديكارت
هناك تقاطع بين مدرسة الغزالي الشكية ومدرسة رينيه ديكارت الفيلسوف الفرنسي، وكنت قد ذكرت في بحث مستقل حول ذلك بعنوان: (بين الغزالي وديكارت.. علمني الشك اليقين)، لكن لا بد من توضيح نقطة أن الغزالي انطلق من خلفية دينية، بينما ديكارت كانت انطلاقته من خلفية فلسفية ورياضية.
هنا الغزالي اهتم بالبحث عن مصادر المعرفة التي تبنى عليها أحكامنا على الأشياء، خاصة المصادر اليقينية التي يتم عليها بناء الأحكام الدينية، التي هي أسمى وأهم أنواع المعرفة، من خلال المصادر التي اعتمدها وهي الوحي الإلهي أو النص الديني، ومن ثم الحق المعقول والذي من الممكن تسميته “العقل الإنساني”، والمصدر الثالث، هو ما يخص به الله تبارك وتعالى عباده من نور وهداية ومحبة للعلم والدين ومنفعة الناس من خلال كشف حقائق وخبايا أي غموض في أي علمٍ من العلوم، فمثلاً انتقد الغزالي في مقدمة كتابه “الاقتصاد في الاعتقاد”، تهميش البعض لدور العقل في النظر حول المسائل الشرعية، من جهة الإمام الغزالي يدعو إلى استخدام العقل لتبيان الأحكام السديدة، وبطبيعة الحال العقل هو ما يميز البشر عن سائر المخلوقات، وقد ميزنا الله به لنستخدمه في الاتجاهات الصحيحة في كل الميادين، الإمام الغزالي، هناك من اتهمه ببعض الأمور التي ما كان يقصد منها تقليلاً من الأمور الأخرى، فهو أيضاً انتقد الغلو والمغالين في استخدام العقل والاكتفاء به وأهمل الشرع، كما فعل من وجهة نظره الفلاسفة وغلاة المعتزلة، وبالتالي هنا نشهد نقيضان، التفريط والإفراط ما يجعل المعرفة غير موحدة ومتشرذمة ولعلنا اليوم نعاني من وجهة نظر أبو حامد الغزالي، مع الانقسامات الكبيرة الحاصلة في الآراء والتباينات بين متشدد ولا متشدد وبين محق ومخطئ يريد إثبات وجهة نظره بالاستمرار بالخطأ.
العلاقة بين النقل والعقل يجب أن تتمتع بانسجام فيما بينها، قال أبو حامد الغزالي: “العقل لن يهتدي إلا بالشرع، والشرع لم يتبين إلا بالعقل، فالعقل كالأساس والشرع كالبناء، ولن يغني الأساس ما لم يكن بناء، ولن يثبت بناء ما لم يكن الأساس”، ما يعني أن العقل والنقل كلاهما يصلان إلى المعرفة الإلهية بحسب الغزالي أي معرفة الله تبارك وتعالى، لكن على الرغم من أن العقل يبحث عن إجابات لكثير من التساؤلات مثل من خلق الدنيا والكون والناس والحياة والهواء ورفع السماء والكواكب، كلها أسئلة مشروعة يضعها العقل لكل إنسان أياً كانت ديانته وأياً كان موقعه، لكن هناك مسلمات لا يمكن للعقل البت بها والتساؤل حولها مثل الأمور الغيبية من مسألة البعث والآخرة وعقاب وملائكة وما تحت القبور، هذه الأمور احتاجت إلى شهادة والشهادة كانت القرآن الكريم وبالتالي هذه الأمور أصبحت يقين لا يُسمح للعقل بالتشكيك قيد أنملة فيها ليس ما طرحناه فقط، بل كل ما جاء في كتاب الله العزيز هو يقين راسخ، دور العقل فيه تبسيط مقاصده ونقلها إلى دنيا الناس. وبالتالي كانت فكرة الغزالي في هذا الشأن أن وضع الخط الأحمر ما بين المعرفة العقلية وحدودها في العالم الحسي، وما بين المعرفة الدينية وما تضم من غيبيات.
حجة الإسلام كان يعتمد بعلومه الشرعية على الدين كمصدر أساسي لها من حيث أنها أصول كلية، والعلوم الأخرى هي غير شرعية لكن يرشد إليها العقل والتجربة، فالإمام وضع العقل في مقام محمود لديه حيث كان يستخدم العقل وأدلته في شرح أصول الدين وأحكام الشريعة الإسلامية، وأيضاً كان يستعمل العقل للرد على المخالفين والغلاة في عصره، وما يفهم من رحلة الإمام الغزالي هو أنه حصر العقل مع الشرع، العقل بالنسبة للإمام هو وسيلة وأداة للفهم والتحليل والتعليل والاستنباط والاستدلال.
عندما نتحدث عن الغزالي الفيلسوف، نتحدث عنه كفقيه وصوفي لمزجه الأمور بعضها ببعض، إلى جانب معركته في قضية العقل والنقل، التي شرحناها بإسهاب، لا بد من تبيان أن لحجة الإسلام طريقته الخاصة به وفلسفته مستمدة من التراث الإسلامي، يقول الإمام الغزالي: “من لا يحيط بالمنطق فلا ثقة بعلومه أصلاً”، البرهان المنطقي من وجهة نظر الإمام قاصر عن أن يصل بالإنسان إلى اليقين خاصة بالقضايا الإلهية كما أسلفنا أعلاه، أي “الغيبيات”، لأنها أعمق وأعظم من أن تدركها عقولنا، وبالتالي كانت إسهامات الإمام في الفلسفة واضحة، رغم نقد الكثيرين له، لكنه ظل دائماً منحازاً للفلسفة الإسلامية الخالصة، فكانت فلسفته من منطلق ديني لا من منطلق رواد هذا المجال كما الغرب، لكنه تعمق بالكل ليصل إلى حججه المنتمية إلى قناعاته المطلقة، وموقفه من الفلسفة كان موقفاً نقدياً يتناولها من حيث اتفاقها واختلافها على أصول الدين.
من هنا، كان شك الإمام الغزالي، صاحب فضل عليه فهو الذي دفعه إلى البحث وطلب الحقيقة والتماس الإيمان، لذلك درس كل العلوم الدينية والفلسفية الموجودة كانت في عصره، فلا عجب أنه حجة الإسلام، لطالما بحث عن البرهان في علومه ليحاجج خصومه وكل من يحاول نقد ما قام به، وبالتالي عرف الغزالي ما كانت تتوق إليه نفسه من المعارف وأدركها إدراكاً يأمن معه الخطأ.
الإمام أبا حامد الغزالي كان حجة الإسلام، كان عالمياً أصولياً وفقيهاً وفيلسوفاً ومنطقياً، التصوف لديه روح الإسلام، مهما تكن النتائج التي وصل إليها الإمام الغزالي فإن الذي نريد أن نتوقف عنده هو منهج الغزالي في محاولة فهم الآخر على حقيقته وتقديمه للآخرين على حقيقته ومحاورته ومحاججته على حقيقته أيضاً.
عندما بحثت في فكر حجة الإسلام، الإمام الغزالي وجدت الفلسفة والتصوف بين الروح والعقل، حيث جمع بين الريادة الفلسفية والموسوعية الفقهية والنزعة الصوفية الروحية، ما يحكمه في كل تلك العلوم إطار محكم من العلم الوافر والعقل الناضج والبصيرة الواعية والفكر المتقد وهو كان ولا يزال علماً من أعلام المسلمين الموسوعيين الذين نستهل من علومهم إلى يومنا هذا.
___________________
(1) انظر: “زعموا أن الغزالي لا يعرف علم الحديث”، صبغة الله الهدوي، أكتوبر 2017م.
(*) كاتب ومفكر كويتي.