المتأمل في حال أمتنا وما تواجهه من تحديات لا تنتهي، أغلبها يكاد يستعصي على الحل، يجزم بأن الحرب الشعواء التي تشن علينا، منذ أكثر من قرنين، ما زالت تشتد وتزداد اشتعالاً، وتأخذ صوراً جديدة ومتنوعة لا تكاد تحصى؛ فأعداؤنا الذين هزمونا عسكرياً، واحتلوا بلادنا؛ فنهبوها وقسموها وخربوها، وفرضوا على شعوبها الجهل والتخلف، لا يبدو أن خططهم قد انتهت أو كادت، فما زالوا يحاربوننا بكل الوسائل والأدوات غير الشريفة، وصدق الله العظيم القائل: (وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ) (البقرة: 217)، ولا عجب أن استخدموا في حربهم الظالمة وسائل تبدو بريئة وألفاظاً تبدو محايدة؛ فالحيات يتناسب لين ملمسها عكسياً مع السم الزعاف الذي تنفثه في دم الضحية لتقضي عليها.
ما زالت لدى أمتنا قوى كامنة، يراها أعداؤها أكثر مما نراها، ويعرفون قيمتها، أكثر مما نعرف، ويقدرون خطورتها أكثر مما نقدر، إنها قوة المجتمع الصلب المتمثل في قطبيه؛ الرجل والمرأة، والمؤسسة التي يشكلانها بمودة ورحمة وتآلف وتفاهم، مؤسسة الأسرة، المؤسسة التي صمدت وما زالت صامدة وشامخة أمام قصفهم المستمر بلا توقف من خلال مؤسسات دولية تنفذ مكرهم، وعلى رأس تلك المؤسسات والمنظمات الخبيثة الأمم المتحدة، المنظمة التي ظننا دهراً أنها تأسست من أجل السلام والتنمية، ولكنها تثبت لنا في كل مناسبة، وفي كل مؤتمر، وفي اتفاقية وكل بند من بنودها أنها مجرد أدوات للحرب على الثوابت الأخلاقية لديننا ولأمتنا.
الأمم المتحدة اعترفت بأن الأسرة بمعناها الإنساني المعروف لم يعد لها وجود إلا بالمجتمعات الإسلامية
لقد ثبت بالأدلة المتواترة أن الأمم المتحدة منظمة غير بريئة، تعمل بإيعاز من جهات خفية، لتحقيق أهداف لا أخلاقية تنتهي بتعبيد كل الشعوب لشياطين الرأسمالية، بعد أن تتحول شعوب الأرض إلى قطعان منزوعة الإنسانية، لا تنقاد إلا لشهواتها.
يقول د. رأفت محمد رشيد الميقاتي، رئيس جامعة طرابلس لبنان، وهو يقدم رسالة دكتوراة بعنوان «المواثيق الدولية وأثرها في هدم الأسرة»: «لقد أثبتت الفلسفات المادية، ثم عولمة ما بعد الحداثة، أن لا مكان فيها مطلقاً للتعددية، وأن الأحادية الحاكمة للعالم استباحت الدماء والأعراض والأموال كونها قائمة على الفوضى والعبثية وموت القيم وموت المعنى وموت الإله!
وتسربت هذه النكبة الفكرية إلى أروقة التشريع في الأمم المتحدة؛ فأنتجت سلسلة من المواثيق الدولية التي منحت لنفسها سلطة شمولية واستبدادية مطلقة في التحليل والتحريم والتبرئة والتجريم، طالبة من الحكومات والشعوب الانقياد والإذعان والتسليم، مهدرة أي آثار للتحفظات القانونية عليها، وناعية بذلك ما تبقى من معاني الحرية، وما تبقى من السيادة الوطنية، وهو ما تجلى في خطة التنمية المستدامة الصادرة عن منظمة الأمم المتحدة حيث تم النص على منع أي تحفظات!
وقد بلغ ذاك الإكراه التشريعي مداه بإجبار البرلمانات والمجالس التشريعية على تقنين منظومة الفوضى الجنسية بكل مفرداتها وتفصيلاتها وأدوات حمايتها القانونية والقضائية، وإعادة هيكلة وظائف المجتمع بكل شرائحه وفق المنظور الجندري القائم على إلغاء ثنائية الخلق البديع من ذكر وأنثى، وإحلال كائن افتراضي مضطرب اسمه النوع الاجتماعي مكان الثنائية المذكورة، والعمل على تصفية المؤسسة الأسرية الحضارية بإغراقها في مستنقع فوضى الأدوار وحرية التصرف بالجسد وحرية قتل الأجنة وضمان تيسير الإباحية المطلقة، مروراً بتحكم الأبناء بالآباء والأمهات على السواء، وصولاً إلى تكريس الفواحش ومنها الشذوذ الجنسي وتغيير الجنس تحت عنوان اختيار الهوية الجندرية».
وورد في تقرير صادر عن هيئة الأمم المتحدة عام 1975م بمناسبة العام العالمي للمرأة: «إن الأسرة بمعناها الإنساني المعروف لم يعد لها وجود إلا في المجتمعات الإسلامية، رغم التخلف الذي تشهده هذه المجتمعات في شتى المجالات الأخرى»(1).
ولم يُخف ممثل صندوق السكان في الأمم المتحدة (UNFPA) في هولندا «آري هوكمان» سعادته الشديدة بانهيار الأسرة على المستوى العالمي، حيث قال، في ندوة عقدت مؤخراً بالمكسيك: «إن ارتفاع معدلات الطلاق، وكذا ارتفاع معدلات المواليد خارج نطاق الأسرة، يُعدُّ نصراً كبيراً لحقوق الإنسان على النمط الأبوي القديم»(2).
مؤامرات ومؤتمرات
تحت عناوين براقة مثل المساواة وحرية المرأة وحقوق المرأة والطفل والسكان، عُقدت عدة مؤتمرات في أنحاء العالم لفرض أمر واقع يُنحّي الدين والأخلاق، ويفرض ليبرالية متطرفة تدعو إلى فوضى أخلاقية وجنسية، وتحولت الأمم المتحدة من مؤسسة عالمية لتحقيق السلام والتفاهم بين الأمم، ونزع فتائل الحروب والصراعات، إلى مؤسسة أيديولوجية تحاول فرض رؤية أحادية مستمدة من أيديولوجية ليبرالية مغالية في التطرف.
يقول عمر عبيد حسنة، المفكر الإسلامي السوري أستاذ الدراسات الإسلاميّة بجامعة قطر: «الحقيقة التي لا بد من إبرازها هـنا، أن هـذه المؤتمرات، خاصة المؤتمرات المتعلقة بالمرأة، ابتداء من المؤتمر العالمي الأول للمرأة، وكان شعاره «رفع التمييز ضد المرأة»، الذي انعقد في مكسيكوستي عام 1975م، ومروراً بمؤتمر كوبنهاجن عام 1980م، ومؤتمر نيروبي عام 1985م، ومؤتمر السكان والتنمية في القاهرة عام 1994م، ومؤتمر بكين عام 1995م، ووصولاً إلى مؤتمر إسطنبول للإسكان والإعمار عام 1996م، تنطلق من أهداف محددة، وتحكمها فلسفة واحدة، وتلتزم إستراتيجية طويلة المدى في تطوير وسائلها، وتستظل بمظلة الأمم المتحدة، وحراسة النظام العالمي الجديد، بكل ما يمتلك من قدرات مالية، وخبرات إعلامية، وسلطان سياسي قاهر، قادر على أن يفرض ما يريد من قيم ومبادئ، تعمل على نسخ ثقافات الشعوب الأخرى وحضاراتها، وتهميشها؛ لتصبح جزراً صغيرة في المحيط الكبير، القائم على التسلط والإغراق الثقافي، باسم العالمية، دون أن يمثل هـذا النظام الذي تدعى له العالمية شيئاً من المشترك الإنساني»(3).
«سيداو» أم الخبائث
«سيداو» تعتبر أهم معاول الأمم المتحدة التي تستخدمها في تدمير الأسرة بأنحاء العالم
«سيداو» (CEDAW)(4) هي الحروف الإنجليزية الأولى من اتفاقية للأمم المتحدة بعنوان «اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة»، وقد وقَّعت عليها أغلب الدول الأعضاء في منظمة الأمم المتحدة (190 دولة، واعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة هذه الاتفاقية في عام 1979م على أنّها مشروع قانون دوليّ لحقوق المرأة، وتم التوقيع عليها في عام 1980م، ودخلت حيّز التنفيذ عام 1981م، وهذه الاتفاقية يمكن أن نطلق عليها «أم الخبائث»؛ لأن «سيداو» تعتبر أهم معاول الأمم المتحدة التي تستخدمها في تدمير الأسرة بجميع أنحاء العالم بصفة عامة، وفي بلدان المسلمين بصفة خاصة، وهذه بعض الدعوات الخبيثة التي تنص عليها الاتفاقية:
1- تنص المادة (2) على أنه يجب على الدول الموقعة إبطال كافة الأحكام واللوائح والأعراف التي تميز بين الرجل والمرأة من قوانينها، حتى تلك التي تقوم على أساس ديني.
2- المادة (3) تدعو لرفض تفريق الشريعة بين دور الرجل والمرأة بالعدل وإعطاء كل منهما حقه، وتطالب بالمساواة المطلقة، وتطالب برفض أحكام الشريعة في الزواج؛ كإعطاء المرأة مهراً، وجعل الطلاق بيد الرجل، ووضع عدة للمرأة، وتقسيم الميراث.
3- المادة (6) تبين عدم معارضة عمل النساء في الدعارة لحساب أنفسهن! ولكن المشكلة عندهم أن يتم استغلالهن جنسياً.
4- تقول المادة (15) في أحد بنودها: «تمنح الدول الأطراف الرجل والمرأة نفس الحقوق فيما يتعلق بالقانون المتصل بحركة الأشخاص وحرية اختيار محل سكناهم وإقامتهم»، وهذا يحرض المرأة على التمرد على أسرتها، ويدعوها للسفر والسكن حيثما شاءت!
5- المادة (16) تدعو لاعتماد الزواج المدني العلماني، فتسمح بزواج غير المسلم من المسلمة، وتمنع تعدد الزوجات، وتلغي عدة المرأة، وترفض قوامة الرجل على زوجته، وترفض موافقة الولي على زواج وليته، وتمنع الزواج تحت سن 18 سنة.
إن الأمم المتحدة وهي المنظمة السياسية التي لم تقم، في الأساس، إلا لنشر السلام والحرية، ومقاومة الجوع والفقر والجهل والمرض، ترى القمع والدكتاتورية والنهب المنظم لأغلب شعوب الأرض، ولا تحرك ساكناً، اللهم إلا بيانات وقرارات فارغة، وغير مشمولة بالنفاذ.
هذه المنظمة التي ملت الشعوب جعجعاتها الفارغة، الحرية عندها هي حرية ممارسة الجنس للكبار والصغار، والحقوق عندها حقوق الشواذ والفاسدين أخلاقياً، هكذا شاخت المنظمة العالمية، التي لم نرَ منها خيراً لا في طفولتها ولا في شبابها ولا في شيخوختها، إلا محاولات بعض الفاسدين لفرض أجندات ليبرالية فوضوية على شعوب لم يبق لديها بعد نهبهم وتخريبهم إلا بقية من أخلاق يمكن أن تقيلهم من عثراتهم إن هم تمسكوا بها ولم يخسروا معركتهم الأخيرة، معركة المحافظة على تماسك وأخلاق الأسرة.
____________________________________
(2) المصدر السابق.
(3)
(4) https://www.un.org/womenwatch/daw/cedaw/text/0360793A.pdf.