شبهة اليوم تدل على جهل وحمق أصحابها، إذ نظر هؤلاء إلى قوله تعالى: (وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء) (البقرة: 282)، وادعَّوا أن الإسلام جعل شهادة المرأة نصف شهادة الرجل، ودار المستشرقون وأزلامهم حول هذه الشبهة، وقالوا: هذا دليل آخر على عدم مساواة الإسلام بين الرجل والمرأة، وقال أحدهم في مقال نشرته إحدى المجلات المشهورة والمعروفة بعدائها للإسلام والمسلمين: “كيف يجعل الإسلام شهادة الرجل بشهادة امرأتين؟ ثم تساءل بعد أن ذكر أستاذة جامعية، أتكون شهادة الأستاذة الدكتورة “فلانة” نصف شهادة بواب عمارتها؟”.
أسلوب ماكر يؤثر على الدهماء من الناس ومن ليس لهم بصر في مسائل الفقه وحكمة التشريع، وهذا مطلب يسيل له لعاب العلمانيين والماركسيين الذين ينتمي إليهم هذا الكاتب، ولو كان هؤلاء طلاب حق فعلاً وليسوا مرجفين لاهتدوا إلى الحق من أقصر طريق “(1).
تفنيد هذه الشبهة وبيان بطلانها
من الجنون اعتقاد أن جنس الرجل أكمل من جنس المرأة
علق الشيخ محمد الغزالي -يرحمه الله- على هذا الفهم السقيم بقوله: “إن حواء خُلقت من آدم كما نبأنا القرآن الكريم: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) (النساء: 1)، والأولاد بعد ذلك ذكوراً أو إناثاً جاءوا ثمرة لتواصل الأبوين الأولَين: (وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء)، فمن الجنون تصور أحد الجنسين غريباً عن الآخر، أو دونه مكانة (بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ) (آل عمران: 195)(2).
إن الإسلام حين جعل شهادة الرجل تعدل شهادة امرأتين، فإن ذلك كان مراعاة لظروفها وإرشاداً إلى طريق الاستيثاق الذي يطمئن معه الناس على حقوقهم، ولقد بيَّن الله تعالى حكمة ذلك حين قال: (وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى) (البقرة: 282).
يقول الأستاذ سيد قطب -يرحمه الله- في تفسيره لهذه الآية الكريمة: “إن النص لا يدعنا نحدس ففي مجال التشريع يكون كل نص محدداً واضحاً معللاً (أَنْ تَضِلُّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى)، والضلال هنا ينشأ من أسباب كثيرة، فقد ينشأ من قلة خبرة المرأة بموضوع التعاقد، مما يجعلها لا تستوعب كل دقائقه وملابساته ومن ثم لا يكون من الوضوح في عقلها بحيث تؤدي عنه شهادة دقيقة عند الاقتضاء، فتذكرها الأخرى بالتعاون معاً على تذكر ملابسات الموضوع كله، وقد ينشأ من طبيعة المرأة الانفعالية، فإن وظيفة الأمومة العضوية البيولوجية تستدعى مقابلاً نفسياً في المرأة حتماً تستدعى أن تكون المرأة شديدة الاستجابة الوجدانية الانفعالية لتلبية مطالب طفلها بسرعة وحيوية لا ترجع فيهما إلى التفكير البطيء، وذلك من فضل الله على المرأة وعلى الطفولة وهذه الطبيعة لا تتجزأ، فالمرأة شخصية موحدة هذا طابعها حين تكون امرأة سوية، بينما الشهادة على التعاقد في مثل هذه المعاملات في حاجة إلى تجرد كبير من الانفعال ووقوف عند الوقائع بلا تأثير ولا إيحاء، ووجود امرأتين
فيه ضمانة أن تذكر إحداهما الأخرى، فتتذكر وتفئ إلى الوقائع المجردة”(3).
وقد يأتي نسيان المرأة بسبب ما تتعرض له من أحوال طبيعية تجعل مزاجها في اختلال وعقلها في اضطراب، كالحيض والحمل والرضاعة فقد أثبت العلم الحديث أن المرأة في فترة الحيض تقل في جسمها قوة إمساك الحرارة، فيزداد خروج الحرارة منه، وتنخفض درجتها فيه، وتضعف قوة التنفس وتصاب آلات النطق بتغيرات خاصة ويبلد الحس وتتكاسل الأعضاء وتتخلف الفطنة والذكاء وقوة تركيز الأفكار، وكل هذه التغيرات تدني المرأة الصحيحة إلى حالة المرض إدناء يستحيل معه التمييز بين صحتها ومرضها، وفي فترة الحمل تتخلف في المرأة ملكات الشعور والتفكير والتأمل والفهم والتعقل مما جعل كثيراً من الأخصائيين يقولون: إن الشهر الأخير من أشهر الحمل لا يصح فيه أن تكلف المرأة جهداً بدنياً أو عقلياً، أما عقب وضع الحمل فتكون المرأة عرضة لأمراض متعددة، مما يجعل المرأة شبه مريضة لمدة سنة من بدء الحمل، ثم بعد ذلك لا تكون ملكاً لنفسها أو فارغة من أعمالها، بل عليها تربية هذا المولود وتعهده بالعناية والرعاية”(4).
وهكذا يتبين أن المرأة بحسب ما يعتريها من دورة شهرية وحمل ورضاعة تكون أشبه بالمريضة مما يؤدي إلى انحراف مزاجها واضطراب أجهزتها مما يستتبع عدم تركيزها فيؤدي بدوره إلى نسيانها للواقع المشهود.
وإضافة إلى ما سبق “أننا إذا لاحظنا أن الإسلام مع إباحته للمرأة التصرفات المالية يعتبر رسالتها الاجتماعية هي التوفر على شئون الأسرة، وهذا ما يقتضي منها لزوم بيتها في غالب الأوقات، أدركنا أن شهادة المرأة في حق يتعلق بالمعاملات المالية بين الناس لا يقع إلا نادراً، وما كان ذلك فليس من شأنها أن تحرص على تذكره حين مشاهدته، فإنها تمر به عابرة لا تلقي له بالاً، فإذا جاءت تشهد به أمام القاضي كان احتمال نسيانها أو خطأها ووهمها، فإذا شهدت امرأة أخرى بمثل ما تشهد به زال احتمال النسيان والخطأ”(5).
فالمسألة ليست مسألة إكرام وإهانة وأهلية، وعدمها وإنما هي مسألة تَثَبُت في الأحكام، واحتياط في القضاء بها، وهذا ما يحرص عليه كل تشريع عادل.
الإسلام ساوى بين شهادة الرجل والمرأة في غير التداين
ومما يدل على أن جعل شهادة المرأة على النصف من شهادة الرجل إنما هو من أجل تأدية الشهادة على وجهها الصحيح، ووصول الحقوق لأصحابها ولا علاقة له بنقص إنسانية المرأة أو انحطاط قدرها، أن الإسلام ساوى بين شهادة المرأة وشهادة الرجل في خصومات أخرى غير خصومة التداين، وذلك في شهادات اللعان حين يتهم الزوج زوجته بالزنا ولم يكن لديه شهود على الواقعة إلا نفسه، ففي هذه الحالة يشهد هو أربع شهادات بالله على صدق ادعائه، ثم تشهد هي أربع شهادات بالله أنها ما زنيت، فإن امتنع الزوج عن الحلف بالله لم تثبت الجريمة، وإن هي امتنعت عن الرد عليه أقيم الحد عليها(6).
وفى هذا قال تعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاء إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ. وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَيَدْرَأُ. عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ. وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ) (النور: 6-9)، كما أن هناك مواضع وقف الإسلام فيها الشهادة على المرأة وحدها دون الرجل وذلك في الخصومات التي لا يطلع عليها إلا النساء كالبكارة والولادة وعيوب النساء في الأحوال الباطنية التي لا يطلع عليها الرجال، فعند حدوث نزاع حول ثيوبة فتاة أو بكارتها ينتدب للاطلاع على حقيقة الأمر من يوثق فيه من النساء، وإذا ادعى زوج أن بزوجته عيباً في الأجزاء التي يجب سترها من جسمها، فالقول والشهادة في إثباته ونفيه للنساء لا للرجال.
وهكذا نجد أحكام الشريعة الإسلامية تتوخى العدالة بكل الطرق المناسبة في حسم النزاعات، فليست المسألة مسألة ذكورة أو أنوثة كما يتوهم المرجفون وإنما هي مسألة تحرر وتدقيق يبعثان في نفس “القاضي” الاطمئنان ولو مع غلبة الظن الذي لم يبلغ مبلغ اليقين ليصدر حكمه في المسألة المعروضة عليه على أساس ما تَجَّمَع بين يديه من بيانات عادلة(7).
وهكذا ترتد هذه الشبهة إلى صدور أصحابها ويتبين لنا أن وصف الأنوثة لا علاقة له بالتقليل من شأن الشهادة، وإنما يدور الحكم في ذلك على مدى قوة العلاقة أو ضعفها بين شخص الشاهد وبين الموضوع الذي تجرى بسببه الخصومة.
__________________________________
(1) بتصرف من كتاب: “المرأة في عصر الرسالة بين واقعية الإسلام وأوهام المرجفين”، د. عبدالعظيم المطعني، 1/121 – ط: دار الفتح الإعلامي.
(2) كتاب “حقوق الإنسان بين تعاليم الإسلام وإعلان الأمم المتحدة”، المؤلف: الشيخ محمد الغزالي، 1/104.
(3) في ظلال القرآن الكريم، سيد قطب، 1/336.
(4) بتصرف من كتاب “الإسلام واتجاه المرأة المسلمة المعاصرة”، د. محمد البهي، 1/45:44.
(5) بتصرف من كتاب “المرأة بين الفقه: والقانون”، المؤلف: د. مصطفى السباعي، 1/33.
(6) انظر: فقه السنة، السيد سابق، 2/459 وما بعدها.
(7) للمزيد انظر: كتاب “المرأة في عصر الرسالة”، المؤلف: د. عبدالعظيم المطعني، 1/124-125.