وإذ نعيش أجواء «مونديال كأس العالم 2022»، تتوحد أنظارُ الأمم نحو هذا الحدث الحاشد، فرأيتُ في هذا فرصة -وبلوغ العز في نَيْلِ الفُرَص- لإيصال وعرض بعض قيم الإسلام العالمية، لتتحول الأمم الحاشدة إلى أطياف شاهدة على حضارة الإسلام الإنسانية، حيث كانت للأمة الإسلامية القيادة والريادة في شتى العلوم والمعارف والمهارات، إنْ في بغداد أو الأندلس أو في بخارى أو الصين، وذلك تحت قيادة الأمويين أو العباسيين أو العثمانيين، حكمنا العالم ردحاً من الزمان، وسعد العالم بفتوحاتنا كما سعد بعدالتنا، وارتوى من منابع علومنا، وروائع حضارتنا، وسعد بجمال خلقنا وقيمنا، وانظروا إلى آثارنا بالأندلس (إسبانيا ومدنها)، وتأملوا جامع قرطبة، والأموي في دمشق، والقرويين في المغرب، والأزهر في مصر، والزيتونة في تونس، بل انظروا إلى مفاخر الحضارة الإسلامية في الهند والصين، نحن أمة عالمية، فرسولنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم أُرسل رحمة للعالمين، وكتابنا للعالم كله، بل للجن والإنس، ونحن مأمورون أن نكون الأمة الوسط؛ قدوة للأمم وإرشاداً للخير.
إن مسؤوليتنا العالمية تتطلب منا تبليغ ديننا، والدعوة لشريعتنا كاملة نقية، مبتعدين عن الحرام والباطل، متبعين الحلال والحق، ولذلك حري بنا ألا نجامل على ديننا وشرعنا، مقتنعين أن الخير بتقديم مرضاة ربنا، وإن سخط الناسُ علينا، فرضا الناس غاية لا تُدرك، فالمطلوب العرض الأمثل للقيم، قيم الإسلام العالمية، التي يحتاجها العالم اليوم، التوحيد الخالص لله وحده، والعبادة والطهارة والسلام والعفة والإنسانية والحرية والعدل والمساواة، وربط كل ذلك بالقرآن الكريم والسُّنة الشريفة.
أمة الإسلام تتحمل مسؤولية الدعوة والتبليغ، وإقامة الحجة، والفاعلية الاجتماعية، والقدرة على البيان لمضامين الأمة الوسط في واقع تتصارع الحضارات والأفكار والأمم، وتقوم أمة الإسلام بالتبليغ، وبصورة متواصلة لا انقطاع ولا فتور فيها، ما بلغها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فهو يشهد علينا أن بلغنا، ونحن بدورنا نشهد من بعده أننا بلغنا الناس ما بلغنا(1).
إن الشهود الحضاري العالمي لأمة الإسلام {خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} (آل عمران: 110)، يتطلب منا التربية والإعداد لجيل قيادي قادر على الإجابة عن مختلف التساؤلات التي قد تطرحها الجموع العالمية، والقطاعات البشرية، حول المثلية والشذوذ والتطبيع مع الصهاينة وغيرها من المحرمات القطعية في شريعتنا، التي يُفترض أن تجد لها إجابة شافية من قيادات شبابية طموحة، تعرف حقيقة أمتها، ووظيفتها الاستخلافية الحضارية ومسؤوليتها التاريخية(2).
إن المونديال لقاء رياضي عالمي، ولكنه في بلدنا العربي المسلم، وتحت قيادتنا وإدارتنا العربية المسلمة، فينبغي أن نؤدي دورنا القيادي الحضاري العالمي الشهودي بلا تردد؛ دعوة وسلوكاً وقدوة وقيماً، رغم العوامل المثبطة التي نتجاوزها، إلى عوامل مشجعة كثيرة ننميها ونزكيها، حتى تكون كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، قوة وثقة وتألقاً وعالمية، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.
ليأتِ الشهود القياديون إلى المونديال، التجمع البشري الحاشد، لشرح قضايا الإسلام العادلة، فلْيأت الشهود من فلسطين، وليكن لديهم عرض سينمائي (بما يتفق مع قوانين البلد المضيف)، وليشرحوا تاريخ الاحتلال الصهيوني وجرائمه، وليأتِ الشهود من الهند وتركستان وميانمار.. وليشرح كل مظلوم قضيته، وليتجمع الشهود المتقنون للغات المختلفة ليترجموا للجمهور، وكل ذلك بما يتسق مع قوانين البلد المضيف، وليكن لعلماء الإسلام في المونديال الشهود الشرعي، والخطاب العالمي الرحيم اللين المتسامح الواضح المبين، وليمارسوا دوراً مهماً في الحوار مع غير المسلمين، و«لنبين للعالم أن الطريق يُسرٌ أمام علاقات طيبة بين أهل الديانات والمعتقدات، وهي علاقات يمكن أن تقوم على القواعد المشتركة للبشرية جمعاء، يجمعها عهد وميثاق، حفاظاً على الحقوق وصيانة للدماء، ودرءاً للحروب ونبذاً للتعصب لدين أو لون أو عرق أو طائفة، وهذا لا يعني التغاضي عن دور الإيمان الراسخ بالغيب في «لا إله إلا الله»، وهو يعني الانقياد والاستسلام لله خالق كل شيء، وهكذا عاش المسلمون تاريخهم، وازدهرت ثقافتهم في بغداد والقاهرة والقيروان، وبلغت ذروتها في الأندلس العصر الذهبي لجميع الثقافات دون اعتبار لدين أو ملة أو جنس»(3).
إن تسييس القيم نسف واضح ودمار للتواصل والتراحم والتعارف بين الناس، المبني على الكرامة الإنسانية، والتراحم البشري الأخلاقي، ذلك التراحم الذي لا يوقفه دين ولا لون ولا عرق ولا حدود وأعراف سياسية، والاعتداء على الإنسان بلا حق، وسلبه حقه المشروع محرم ولا يجوز، بل والسكوت عن المظلوم وتركه للظالم والبشرية تنظر بلا تدخل أو إنكار؛ يأذن بفساد كبير في الأرض.
لنعلّم الأجيال مساعدة المحتاج، وإغاثة المكروب، والتنفيس عن المهموم، لنعلّم الأجيال ألا نعيش لأنفسنا وذواتنا، فتبلُّد الإحساس يُنسي النعم، ويُولّد نسيان الضعفاء ولو كانوا والدين، ولنكسب من الجزاء أضعاف أعمارنا، فنعيش لفكرة عظيمة؛ وهي فكرة الإسلام، ولنعش لكائن كريم؛ ألا وهو الإنسان، لنعش لهدايته وكرامته ورحمته ومساعدته.. والمتأمل في القرآن الكريم يدرك أنه دعوة عالمية، محدودة التكاليف، يسيرة الرسالة، بالغة الأثر، وإنما كثرت سوره، واستبحرت آياته لكي يتسنى عرض الحقائق الدينية في أسلوب عامر بالإقناع، فياض بالأدلة، ولأنه يريد أن يهدم الأسس الفكرية للمناهج الباطلة، ويبني النفوس بناءً نفسياً قائماً على مبررات جديدة، فيها كل مقومات العمل الإيجابية، وكذلك جاءت السُّنة النبوية لتزود المسلم بمسوغات وجوده، ولتذكره دائماً بدوره ورسالته في الحياة، يقول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لأحد الصحابة: «لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حُمر النعم»(4).
لا بد من الحوار في هذا المونديال الجماهيري العالمي الحاشد وإطلاق قدراتنا الإنسانية ومواهبنا البشرية المستوحاة من قرآننا وديننا وقيمنا وشريعتنا، «فمن ثمار الحوار الوقوف معاً لمواجهة أعداء الإيمان الديني، ودعاة الإلحاد في العقيدة، والإباحية في السلوك، من أنصار المادية ودعاة العري، والتحلل الجنسي، والإجهاض، والشذوذ..»(5).
كما أن القرآن يرسم صيغة للتعارف والتعايش بين البشر مبنية على الأمن والتسامح والسلم، ويركز على القواسم المشتركة بين المسلمين وغيرهم وبخاصة أهل الكتاب، ولهذا قال تعالى: {وََ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إَِّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إَِّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ۖ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَٰهُنَا وَإِلَٰهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (العنكبوت: 46)، ففي مجال الحوار ينبغي ذكر نقاط الاتفاق، لا نقاط التمايز والاختلاف، ومما ينبغي أن تتضمنه هذه الدعوة إشاعة روح السماحة والرحمة والرفق في التعامل بين أهل الأديان.
أسأل الله تعالى أن يوفق دولة قطر الشقيقة وقيادتها لتحقيق قيم الخير والسلام والإنسانية والشهود الحضاري لأمة الإسلام، وأن يأخذ بأيدي أهل قطر إلى كل خير، وأن يجنبهم الشر والسوء، وأن يحفظ سائر البلاد والشعوب، والحمد لله رب العالمين.
___________________________________________________
(1) الشهود الحضاري للأمة الوسط في عصر العولمة، عبدالعزيز برغوث (بتصرف).
(2) المرجع السابق.
(3) جسور التواصل الحضاري بين العالم الإسلامي واليابان، سمير عبدالحميد نوح.
(4) شخصية المسلم، سيد جمعة سلّام.
(5) جسور التواصل الحضاري بين العالم الإسلامي واليابان، مرجع سابق.