“يجب على الولايات المتحدة وأفريقيا العمل معًا كشريكين متساويين لمعالجة بعض المشكلات الأكثر إلحاحًا في العالم”، هكذا قال وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، في خطاب ألقاه في جامعة بريتوريا في جنوب أفريقيا، في أغسطس الماضي.
من الواضح أن الولايات المتحدة تُعيد ترتيب أوراقها، وتغيير نظرتها للقارة السمراء؛ التي تشهد تنافسًا محمومًا بين المعسكر الغربي من جهة، وكل من روسيا والصين من جهة أخرى.
في ضوء القمة الأمريكية الأفريقية المقرر عقدها في منتصف ديسمبر الحالي، نناقش أهداف واشنطن من هذه القمة، وكيف ينظر القادة الأفارقة إلى الولايات المتحدة في ظل المستجدات على الساحة الأفريقية؟ وإلى أي مدى يؤثر التمدد الروسي على الحضور الأمريكي في القارة؟
القارة أصبح لها ثقل كبير في ميزان السياسة الأمريكية لاحتواء الصين وللحد من النفوذ الروسي فيها
عَوْد على بدء
أعلن الرئيس الأمريكي جو بايدن، في يوليو الماضي، عزمه استضافة عدد من قادة الدول الأفريقية بالعاصمة واشنطن خلال الفترة من 13 – 15 ديسمبر الحالي، وأشار إلى أن القمة تُظهر التزام الولايات المتحدة تجاه أفريقيا، وتؤكد زيادة التعاون بشأن الأولويات العالمية المشتركة.
وأضاف أن القمة تساعد في تعزيز المشاركة الاقتصادية، والالتزام بالمشترك تجاه الديمقراطية وحقوق الإنسان، كما تساهم في إدارة آثار فيروس كورونا والأوبئة المستقبلية، وتعزيز السلام والأمن، والاستجابة للتغير المناخي، وتعزيز الصحة الإقليمية والعالمية، ودعم الأمن الغذائي.
وكانت نائبة الرئيس الأمريكي كاميلا هاريس أعلنت أن هذه القمة ستُظهر التزام أمريكا الدائم تجاه الأفارقة، وستستند إلى مبادئ الاحترام المتبادل والمصالح والقيم المشتركة، وأشارت أن القمة تهدف إلى تعزيز العلاقات الاقتصادية.
وتأتي هذه القمة وسط إقبال دبلوماسي أمريكي لافت نحو القارة في الفترة الماضية، ما يثير تساؤلات عن تغيير الولايات المتحدة إستراتيجيتها تجاه أفريقيا، وعن المستجدات التي تدفع واشنطن للانخراط من جديد في القارة السمراء.
سياسة بايدن
تقول خبيرة الشئون الأفريقية بمركز الأهرام للدراسات الإستراتيجية د. أميرة عبدالحليم: إن اهتمام الولايات المتحدة بعقد القمة المشتركة يرتبط بالتطور الذي لحق بسياسات إدارة بايدن في أفريقيا، الذي استهله بإرسال جنود إلى الصومال، لتجاوز التجاهل الذي تعرضت له القارة في عهد ترمب.
التأثير الروسي كان واضحًا في التصويت الأفريقي على قرار إدانة روسيا بالحرب على أوكرانيا في مارس 2022
وأضافت د. أميرة لـ”المجتمع” أن القارة أصبح لها ثقل كبير في ميزان السياسة الأمريكية؛ لاحتواء الصين، وكذلك للحد من النفوذ الروسي في القارة، ومنع شركة “فاغنر” من الانتشار.
كما أكدت أن الحرب الروسية الأوكرانية زادت من الاهتمام الغربي لتحقيق نفوذ أكبر في القارة، إما لتأمين مصادر الطاقة والموارد الطبيعية، أو للحد من استغلال موسكو لعلاقتها مع دول القارة من أجل تخفيف حدة العقوبات المفروضة عليها.
وعن الزيارات التي قام بها مسؤولون أمريكيون في الفترة الماضية، أوضحت د. أميرة أنها مؤشر على تزايد أهمية القارة في إطار السياسية الخارجية الأمريكية؛ فـخلال هذه الزيارات أوضح المسؤولون الأمريكيون حرصهم على علاقات قائمة على مبدأ الشراكة مع دول القارة، وهذا تطور نوعي في الفكر الأمريكي إزاء القارة الأفريقية.
وعلى عكس سياسة التجاهل التي انتهجها الرئيس السابق ترمب نحو القارة، تسعى إدارة بايدن لتعزيز شراكتها مع أفريقيا، لعودة النفوذ الأمريكي مرة أخرى، والحرص على تكريس الديمقراطية وحقوق الإنسان، فضلاً عن مكافحة الإرهاب، ومواجهة نفوذ روسيا والصين.
لكن الجهود التي قادتها الولايات المتحدة والزيارات المكثفة لحشد الدول الأفريقية، لعزل روسيا دبلوماسيًا واقتصاديًا باءت بالفشل، وهو ما كان كاشفًا عن تراجع النفوذ الأمريكي في الفترة الأخيرة.
من جهتها ترى د. أميرة أنه لا يمكن التأكيد حتى الآن على أن تمدد روسيا في القارة يأتي خصمًا لنفوذ واشنطن، لكن روسيا بالفعل تملأ الفراغات التي تتركها أمريكا لتحل محلها، وخاصة من الناحية العسكرية.
وأضافت أنه في عام 2014، رفضت واشنطن تصدير سلاح إلى نيجيريا؛ نظرًا لسجل حقوق الإنسان الخاص بها، فدخلت روسيا مكان الولايات المتحدة، وأشارت إلى أن التأثير الروسي كان واضحًا في التصويت الأفريقي على قرار إدانة روسيا في الحرب على أوكرانيا في مارس 2022.
بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا غدت القارة الأفريقية ميدانًا حقيقيًا للحرب الباردة الجديدة
أين يقف الأفارقة؟
كان بلينكن قد سلط الضوء في الخطاب الذي ألقاه في بريتوريا في جنوب أفريقيا على إستراتيجية أمريكية جديدة ترمي لتعزيز الأهداف المشتركة مع الدول الأفريقية.
وأشار إلى أنه لا يمكن للولايات المتحدة والدول الأفريقية تحقيق أي من الأولويات المشتركة إذا لم يتم العمل معاً كشركاء متساوين، سواء لخلق فرص اقتصادية واسعة النطاق، أم معالجة أزمة المناخ، أم لتنشيط الديمقراطيات وتعزيز النظام الدولي الحر والمفتوح.
ورغم أن الغالبية العظمى من الأفارقة يفضلون الديمقراطية، فإن ضمان ثمار الديمقراطية للمواطنين يمثل تحديًا تواجهه البلدان في القارة الأفريقية، كما قال بلينكن.
بين الخوف والرجاء
إلا أن الباحث السوداني المتخصص في الشأن الأفريقي عباس محمد صالح يرى أن أمريكا كقوة عظمى ينظر إليها من قبل القادة الأفارقة بشعور يتفاوت بين الخوف والرجاء؛ خوف من يدها الباطشة، ورجاء في نموذجها الناجح وأموالها، وباعتبارها قوة عظمى يُحسب لها ألف حساب سواء من الأنظمة الحليفة والقريبة منها، أو تلك المعادية والمناهضة لها.
من الجدير بالذكر أن القارة الأفريقية أصبحت ساحة للتنافس الدولي بين القوى العالمية والإقليمية، التي تجلت خلال الأزمة الروسية الأوكرانية، عندما سعت الأطراف المتحاربة لمحاولة استقطاب الدول الأفريقية في صفها.
وكان لِزامًا على القادة الأفارقة تحديد انتمائهم لأي طرف في ظل هذا الاستقطاب الشديد، خاصة وأن الحرب الأوكرانية كشفت عن النظرة الأمريكية التي لا تأخذ بعين الاعتبار مصالح القارة وسكانها، إذ فرضت واشنطن وحلفاؤها عقوبات على روسيا وعلى من يتعامل معها دون استشارة الأطراف المتضررة جديًا من هذه الإجراءات.
وعليه تضرر الأمن الغذائي لعدد كبير من دول القارة، حتى أعلن الأمين العام لمنظمة الوحدة الأفريقية الرئيس السنغالي ماكي سال أن العقوبات المفروضة على روسيا زادت الأوضاع سوءًا.
في هذا الصدد، أوضح صالح، في حديثه لـ”المجتمع”، أن الإدراك الأفريقي للتنافس الغربي والروسي الصيني يتفاوت من دولة لأخرى، منها دول تحتاج لـ”الفيتو” الروسي الصيني، وأخرى تحتاج القروض أو نمط التنمية الصيني غير المشروط، أو الدول الأفريقية التي تنظر إلى روسيا كبديل للغرب.
أمريكا تحاول دعم النموذج الديمقراطي المأمول والسعي لوقف مدّ الانقلابات وتعزيز مؤسسات المجتمع المدني
القارة البِكر في قلب الصراع
زادت أهمية أفريقيا بسبب الحرب الروسية الأوكرانية وتبعاتها على أزمة الغذاء العالمية، حيث تمتلك القارة موارد طبيعية ومساحات واسعة وأراضي خصبة صالحة للزراعة والاستثمار في مختلف القطاعات، مما يُمكِّن دول القارة من ممارسة دور مهم في مواجهة أزمة الغذاء العالمية، وأن تتحول إلى سلة غذاء للعالم في حال توظيف قدراتها.
كما يمتلك عدد من الدول الأفريقية ثروات من الغاز الطبيعي، على غرار نيجيريا التي تمتلك 3% من احتياطيات الغاز العالمية المؤكدة، في الوقت الذي تتجه فيه الدول الأوروبية للبحث عن مصادر أخرى للحصول على الغاز الطبيعي لتقليل اعتمادها على روسيا.
وأكد الباحث السوداني عباس محمد صالح أن بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا غدت القارة الأفريقية ميدانًا حقيقيًا للحرب الباردة الجديدة، حيث تكثف القوى الغربية من تحركاتها الرامية لاحتواء روسيا والصين، حيث يحتل احتواء النفوذ الروسي طليعة الأولويات بالنسبة للولايات المتحدة، خاصة في ضوء تزايد نشاط شركة “فاغنر” في العديد من البلدان الأفريقية.
وأضاف صالح أن إستراتيجية الأمن الأمريكية الأخيرة شددت على الأهمية الجيوسياسية للقارة الأفريقية، في سياق التصدي للصعود العالمي لروسيا والصين في القارة الأفريقية، وفي ضوء تداعيات الحرب الروسية في أوكرانيا التي ستُعيد نتائجها تشكيل النظام الدولي.
وأردف أن المزاعم بشأن وقوف روسيا خلف العديد من الانقلابات العسكرية وتحديدًا في الساحل الكبير يدفع بمزيد من التحركات المضادة من الولايات المتحدة للاستجابة لهذا التهديد الكامن والمتنامي.
فـبينما تتّسم سياسات موسكو تجاه أفريقيا بالاعتماد على الأنشطة العسكرية بأشكالها المتنوعة، إذ تُعَدّ أكبر مُصدّر للسلاح إلى القارة الأفريقية خلال العقد الماضي، وتتمدد شركاتها الأمنية الخاصة، وفي مقدمتها مجموعة “فاغنر”، في عدد من الدول الأفريقية كالسودان ومالي وليبيا وغيرها.. على الجانب الآخر تحاول الولايات المتحدة من خلال إستراتيجيتها الجديدة دعم النموذج الديمقراطي المأمول، والسعي إلى وقف مدّ الانقلابات ودعم المؤسسات القارية ومؤسسات المجتمع المدنية لتعزيز القيم الديمقراطية، ومنح الأولوية لموارد مكافحة الإرهاب بما يعزز الأمن والاستقرار الضروريين لتنشيط التحول الديمقراطي.
وختامًا، تبقى الولايات المتحدة أمام تحدٍّ كبير؛ بداية من فشل حلفائها الأوروبيين في منطقة الساحل في مواجهة التمردات العنيفة في المنطقة، وما ترتب على ذلك من انقلابات عسكرية، إلى موسكو التي لا تكترث لنظام الحكم في الدول الأفريقية للتمويل وبيع الأسلحة، وهو ما يجعلها بديلاً لدى الحُكام الأفارقة، إلى الصين وما تقوم به من سياسة إقراض الدول الأفريقية وإقامة مشاريع ضخمة دون شروط.
في حين يتراجع نفوذ الولايات المتحدة، هل تجد الإستراتيجية الأمريكية الجديدة نفوذًا لها في القارة السمراء، أم تجد الدول الأفريقية مآربها في تحالفات أخرى؟