خلف جدران عدد كبير من منازل اللبنانيين قصص لا تعد ولا تحصى عن المعاناة من فقر استشرس في السنوات الأخيرة، تسلل من دون استئذان ليسيطر على حياتهم، ويحرمهم من أبسط مقومات العيش الكريم.
زكريا السيد، واحد من الآباء الذين يعجزون عن تأمين حاجيات عائلته المؤلفة من أربعة أولاد، بل ويعجز حتى عن تأمين دوائه باستمرار، وهو المصاب بالسرطان منذ عام 2004، فقد ألقت الظروف الاقتصادية التي يمر بها لبنان بثقلها عليه، اضطر إلى التوقف عن العمل، باع وشقيقه المحل الذي كانا يمتلكانه لبيع اللحوم المثلجة، ليجد نفسه من دون مدخول.
يتكّل زكريا على فاعلي الخير، وعلى زوجته التي تعمل كمعلمة “احتياطية” في إحدى مدارس ببنين في عكار شمالي لبنان، والذي لا يزيد ما تجنيه عن المليون ليرة شهريا، حيث أن ساعة التدريس بثلاثين ألف ليرة أي أقل من دولار واحد.
“الوضع أصعب مما يمكن شرحه”، كما يقول زكريا مضيفا “أصبحت أنتظر صندوق الإعاشة، نسينا طعم اللحوم والدجاج والأجبان والألبان، قلبي يكاد ينفطر حين يشمّ أولادي رائحة الشواء من عند الجيران، إذ بالكاد أستطيع شراء الخضروات وربطة الخبز لهم، وأحزن كثيرا حين يقفون أمام واجهة محل ملابس يتأملون ما هو معروض وهم يعلمون أنهم لن يتمكنوا من شراء أي قطعة، أرى الدمعة في أعينهم دون أن أستطيع فعل شيء لهم”.
أعلنت منظمة “هيومن رايتس ووتش” في تقرير نشرته قبل يومين، تحت عنوان “تزايد الفقر والجوع وسط الأزمة الاقتصادية في لبنان” أن غالبية سكان لبنان عاجزون عن تأمين حقوقهم الاجتماعية والاقتصادية وسط أزمة اقتصادية متفاقمة، حيث تتحمل الأسر ذات الدخل المحدود العبء الأكبر، وحضت الحكومة اللبنانية والبنك الدولي على اتخاذ إجراءات عاجلة للاستثمار في نظام حماية اجتماعية قائم على الحقوق ويضمن مستوى معيشيا لائقا للجميع.
{tweet}url=1602615775642238977&maxwidth=400&align=center&media=false{/tweet}
ألقى البحث الجديد الذي أجرته المنظمة الدولية، الضوء على المستويات المقلقة للفقر وانعدام الأمن الغذائي في لبنان بسبب تراجع النشاط الاقتصادي، وعدم الاستقرار السياسي، وارتفاع تكاليف المعيشة.
ويبلغ عدد سكان لبنان حوالي 6.7 مليون نسمة، كما أشارت المنظمة الدولية، مضيفة “قدرت الأمم المتحدة في أواخر العام 2021 أن نحو نصفهم، أي قرابة 3.28 مليون شخص، دُفعوا إلى فقر الدخل منذ بدء الأزمة الاقتصادية في لبنان عام 2019. وازداد الوضع سوءا بالنسبة للآخرين الذين كانوا أصلا يعانون لتأمين حقوقهم الاقتصادية الأساسية، بما في ذلك الحق في الغذاء، أو التعليم، أو الرعاية الصحية”.
مصارعة الموت
تمضي عائلة السيد الليل على ضوء الشمعة، فحتى الاشتراك بأمبير واحد في مولد خاص يفوق قدرتها، أما التدفئة فتحاول أن تستمدها من البطانيات، إذ يستحيل عليها شراء المازوت والحطب كون أسعارها باهظة.
ويؤكد زكريا أنه “حتى عام 2020 كان الوضع لا يزال مقبولا، إذ كانت الليرة اللبنانية لا تزال تحافظ ولو قليلا، على قيمتها أمام الدولار، لكن بعد أن تخطى سعر صرف الأخير في السوق السوداء الـ27 ألف ليرة، ساء الوضع كثيرا لا سيما وأن غالبية التجار معدومو الضمير يسعّرون بضاعتهم بحسب ما يحلو لهم، في ظل غياب الرقابة الجدية من قبل وزارة الاقتصاد”.
كل ما يتمناه زكريا ألا يمرض أحد من أفراد عائلته، لأنه لن يقدر على شراء الدواء لهم، كما يتمنى ألا تفرغ قارورة الغاز، “فأنا دائم التفكير في كيفية تأمين ثمنها، إذ أن كل سلعة يتخطى سعرها الـ 300 ألف ليرة أحتاج إلى معجزة كي أتمكّن من شرائها”.
شمل المسح الذي أجرته “هيومن رايتس ووتش” بين نوفمبر 2021 ويناير 2022، عينة تمثيلية شملت 1,209 أسرة في لبنان، وذلك لجمع معلومات حول الظروف الاقتصادية للأفراد وقدرتهم على تحمل تكاليف الطعام والأدوية والسكن والتعليم. سأل الباحثون أفراد العائلات إن كانوا يتلقون دعما ماليا أو عينيا من الحكومة أو الجماعات الدينية أو السياسية أو المنظمات غير الحكومية، وتحدثوا مع الأسر حول تأثير نقص الدخل الكافي.
تسلط نتائج المسح الضوء على خطورة الوضع، وتشير إلى أن نظام الحماية الاجتماعية الحالي عاجز عن مواجهة الأزمة بالنسبة لكثير من الناس، حيث قالت قرابة 70 في المئة من العائلات إنها واجهت صعوبة في تغطية نفقات أفرادها أو إنهم تأخروا دائما عن دفع النفقات الأساسية في العام السابق.
ينخر الفقر عائلة عبد الوهاب خالد، الذي خضع قبل أيام لعملية استئصال كليته (بعدما جمع تكلفة الفاتورة الاستشفائية من فاعلي الخير)، ما أجبره على التوقف عن عمله في صيد السمك لحين تحسن وضعه الصحي، وبالتالي حرم من مدخوله البسيط الذي لا يتجاوز المئة ألف ليرة يوميا، في وقت يظل أولاده الثلاثة عاطلين عن العمل.
ويقول بحرقة: “أشتري أدويتي بالدين من الصيدلية، وأعجز عن متابعة علاج ابنتي التي تعاني من كهرباء في الرأس، فأنا أعيش على الاستدانة وما يقدمه الخيّرون لي، كي لا نموت من المرض والجوع”.
أشارت “هيومن رايتس ووتش” في تقريرها إلى بيانات منظمة العمل الدولية المتعلقة بفترة ما قبل الأزمة (2018)، “حيث لم يكن لدى حوالي نصف السكان (52.8 في المئة) أي نوع من الحماية الاجتماعية.
ووجد تقرير حديث صادر عن منظمة “هيلب إيج إنترناشيونال”، وهي منظمة غير حكومية تدعم حقوق المسنين، أن الافتقار إلى الحماية الاجتماعية للمسنين في لبنان يعني أن 80 في المئة يعتمدون على أسرهم للحصول على الدعم المالي أو يعتمدون على ما لديهم من مدخرات”.
وكما عائلة السيد فإن عائلة خالد محرومة من اشتراك الكهرباء ومن وسائل التدفئة، ويشدد عبد الوهاب “تقدمت بطلب من أجل الحصول على بطاقة مساعدة من وزارة الشؤون الاجتماعية دون أن أصل إلى نتيجة”.
تقاطعه ابنته قائلة: “الرطوبة تنهش منزلنا، والمياه تتسرب إليه من كل زاوية، أعارتنا عمتي سجّادتين لنشعر بالدفء ولو قليلا، نعيش في ظروف لا يتحملها إنسان، بحثت كثيراً عن وظيفة لمساعدة والدي، لكني فشلت، أحلم بالسفر خارج البلاد لكن جواز السفر يشكّل عائقا أمامي، فبدل تكلفته والمدة التي يستغرقها إنجازه كفيلان بتحطيم خشبة خلاصي”.
مأساة “عامة”
من خلال احتكاك زاهر الكسار اليومي بالمواطنين، كونه مختار بلدة ببنين ورئيس اتحاد روابط مخاتير عكار، ورئيس جمعية “عكار الزاهر الخيرية”، يقدّر أن “90 في المئة من الشعب اللبناني يعاني من الفقر، فمن كان قبل الأزمة الاقتصادية من الطبقة الوسطى أو الميسورة حُجز على ودائعه في المصارف، كما أن الموظفين والعمال في القطاعين العام والخاص التي كانت رواتبهم تكفيهم للعيش عيشة كريمة، لم يعد لها قيمة الآن”.
ويضيف “أصبحوا بحاجة لتأمين أبسط متطلبات الحياة من طعام وشراب وأقساط مدرسية وأدوية واستشفاء، وللأسف غالبية اللبنانيين يطرقون أبواب الجمعيات، وإن كانت تبعد عن منازلهم مئات الكيلومترات، يقفون في الطوابير للحصول على ربطة خبز أو صندوق إعاشة” بحسب موقع الحرة.
في بلد فيه إحدى أعلى نِسب التفاوت في الدخل والثروة في المنطقة كما تشير “هيومن رايتس ووتش”، “يقول الأكاديميون ووكالات الأمم المتحدة إن الأزمة الاقتصادية وسّعت الفجوة، حيث اختفت مدخرات الأسر ذات الدخلين المتوسط والمحدود، وشحّت فيه فرص الارتقاء”.
يشدد الكسار على أنه “وصلنا إلى مرحلة أصبح فيها اللبناني يحتفل إذا ما حصل على قارورة غاز أو غالون من المحروقات، ويحتار بين إطعام أولاده وشراء علبة دواء، نسي الرفاهية ورضخ للعيش من دون كهرباء وتدفئة ولشرب المياه الملوثة وللموت وهو على قيد الحياة، فحتى إن قرر السفر للخلاص من هذا البلد، سيتعرض للإذلال نتيجة اختفاء الطوابع من الأسواق، فعلى سبيل المثال فإن طابع العشرين ألف ليرة الذي يحتاجه المواطن لإخراج القيد، غير متوفر إلا في السوق السوداء بسعر مئتي ألف ليرة وما فوق، والمسؤول الأول عن هذه المعاناة هي وزارة المالية التي لا تقوم بواجبها في تأمين الطوابع، فاسحة المجال أمام تجّار السوق السوداء للتحكم بالناس”.
وبعد أن كان اللبناني كما يقول مختار ببنين “يخجل من طلب المساعدة علنا لم يعد يبالي في ذلك، حيث وجد في وسائل التواصل الاجتماعي وسيلة لإيصال صوته ومعاناته، وهذه المأساة لا تستثني أيا من المناطق اللبنانية، ولولا المساعدة البسيطة التي يحصل عليها بعض المواطنين من وزارة الشؤون الاجتماعية لسمعنا فعلا عن أشخاص لقوا حتفهم جوعا وبردا”.
وسبق أن توصل مسح أجرته “اليونيسف” في شهر يونيو إلى أن “ما يصل إلى 70 في المئة من الأسر تقترض المال لشراء الطعام أو تشتريه بالدين. وقالت إنه يتم إرسال المزيد من الأطفال للعمل لإعالة أسرهم، ويتم تزويج الفتيات الصغيرات لتخفيف النفقات المالية”.
يتعرض الحق في الغذاء لتهديد شديد في لبنان في مختلف شرائح المجتمع، كما أشارت المنظمة الدولية حيث تقول الأسر إن “نقص الأموال أو الموارد الأخرى كان السبب الرئيسي لتفويت الوجبات أو نفاد الطعام. في أكثر من أسرة واحدة من بين كل أربع أسر، كان على شخص بالغ أن يفوّت وجبة بسبب نقص المال الكافي أو الموارد الأخرى للحصول على الطعام. كما نفد الطعام لدى 20 في المئة من الأسر في الشهر السابق بسبب نقص الموارد”.
وأضافت “يواجه أصحاب الدخل المحدود بشكل خاص انعدام الأمن الغذائي. 43 في المئة من الأسر التي شملها المسح والتي يقضي فيها شخص بالغ يوما كاملا دون تناول الطعام كانت ضمن شريحة الـ 20 في المئة الأدنى دخلا. كانت الأسر التي لديها أطفال والأسر التي تعيلها نساء أكثر احتمالا من غيرها أن تقول إنه لم يكن هناك، في بعض الأحيان أو في كثير من الأحيان، ما يكفي من الطعام في الشهر السابق”.
أما تغطية برامج المساعدة الاجتماعية الحالية، الممولة جزئياً من البنك الدولي، فضئيلة كما تشير “هيومن رايتس ووتش”، شارحة في تقريرها أنها “تستهدف بشكل ضيق للغاية الأسر التي تعيش في فقر مدقع، ما يترك شرائح كبيرة من السكان غير المؤهلين معرضين للجوع، وعاجزين عن الحصول على الأدوية، ويخضعون لأنواع أخرى من الحرمان التي تقوّض حقوقهم مثل الحق في الغذاء والصحة، وتشدد “لم تعتمد الحكومة بعد استراتيجية وطنية للحماية الاجتماعية تضمن الحق في الضمان الاجتماعي للجميع”.
انعكاسات “مدمرة”
منذ عام 2019 والوضع، كما يقول الخبير الاقتصادي، لويس حبيقة، نحو مزيد من الانحدار، موضحا أن “أسباب عدة أدت إلى ارتفاع نسبة الفقر في لبنان، من بينها الحالة الداخلية السياسية والاجتماعية وانهيار قيمة العملة المحلية. تراجع دخل اللبنانيين وارتفعت كلفة المعيشة ما أدى إلى افقار اللبنانيين بنسب متفاوتة”.
وفيما إن كان رفع الدولار الجمركي سيساهم أكثر في إفقار اللبنانيين، قال: “لن يطال الفقراء كما يعتقد البعض، كونه لا يشمل المواد الغذائية الأساسية، وقد تم إقراره لتأمين إيرادات للدولة، إذ قبل أسبوع أعلن وزير المال أن خزينته فارغة، بالتالي كيف سيؤمن رواتب موظفي القطاع العام”.
أما “هيومن رايتس ووتش” فأشارت إلى أن “ارتفاع معدلات البطالة، وانخفاض قيمة العملة المحلية، والارتفاع الهائل في معدلات التضخم ورفع الدعم عن الأدوية والوقود، أدى إلى زيادة الصعوبة التي يواجهها الكثير من الناس لتلبية احتياجاتهم الأساسية”.
ووجد المسح أن “تقريبا أربع من كل خمس أسر لديها معيل، فقد العمل منذ بدء الأزمة في 2019، مع بقاء حوالي 15 في المئة عاطلين عن العمل منذئذ. كانت الأسر التي لا يزال أحد أفرادها عاطلا عن العمل أكثر عرضة لمواجهة صعوبة في تلبية احتياجاتها”.
ولفتت إلى أن “متوسط الدخل الشهري للأسر بلغ 122 دولار أميركي فقط، واستمر التضخم في الارتفاع بشكل كبير منذ إجراء المسح. متوسط حجم الأسرة هو أربعة أشخاص، بينهم طفل واحد عمره أقل من 18 عاما. نسبة الأسر التي تعيش على دخل محدود للغاية كانت مرتفعة: على الصعيد الوطني، يكسب 40 في المئة من الأسر تقريبا 100 دولار أو أقل شهريا ويكسب 90 في المئة من الأسر أقل من 377 دولار شهرياً”.
انعكاسات الفقر على المجتمع اللبناني مدّمرة، كما تقول الأستاذة الجامعية والباحثة الاجتماعية، وديعة الأميوني، فهو يهدد “الأمن الأسري والاجتماعي والقومي”، وتشرح “على المستوى الأسري والاجتماعي، يسود التشنج والضغوطات بين الزوجين وبينهما وبين الأولاد، ما قد يؤدي إلى الطلاق وتفكك الأسرة، وعلى صعيد الأمن القومي يساهم الفقر في تلاشي الضوابط الأخلاقية وتجاوز القوانين، فترتفع نسبة جرائم السرقة والقتل، كما ينتشر تعاطي المخدرات فيغيب الأمن والأمان”.
تزايد مستويات الفقر في لبنان يدفع اللبنانيين كما تقول الأميوني “إلى فقدان الأمل ببلدهم، من هنا نرى أن عدد المهاجرين، لا سيما من فئة الشباب، ارتفع بصورة كبيرة في السنوات الأخيرة، علماً أن محاربة الفقر ليست بالأمر الصعب، خاصة وأن لبنان بلد صغير وغني بموارده البشرية والطبيعية والاقتصادية، فالأمر يحتاج فقط إلى أن تعمل السلطة السياسية بضمير وأن تضع وتنفذ استراتيجيات وخططا اقتصادية للنهوض، عندها فقط يمكن بناء وطن يستحقه اللبنانيون، يواكب التطورات وينافس أعظم البلدان”.
للخروج من هذا النفق المظلم، يجب بحسب حبيقة، “البدء بمعالجة الأمور السياسية من خلال انتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة وتوقيع اتفاقية مع صندوق النقد الدولي، وإلى حينه فإن الانحدار مستمر، واذا كانت القوى الأمنية والجيش اللبناني متماسكان إلى حد الآن، نتيجة التعاطف الذي يتلقيانه داخليا وخارجيا وتخصيص جزء بسيط من رواتب عناصرهما بالدولار، إلا أن ما أخشاه هو انحلال الدولة والانفلات الأمني، وهذا أمر خطير يجب الانتباه له، لا سيما أننا في بلد الانقسام فيه طائفي ومذهبي”.