لا مبالغة في القول: إن نتائج الانتخابات الصهيونية الأخيرة تحمل في طياتها طاقة كامنة لفتح صفحة جديدة في الصراع مع هذا الكيان، فقد عبر الناخب الصهيوني وبجلاء ووضوح عن رغبته بحسم الصراع بأسرع وقت وبكل الوسائل المتاحة.
مما لا شك فيه أن الحكومة التي سيشكلها زعيم الليكود رئيس الوزراء الأسبق «بنيامين نتنياهو» ستكون حكومة حرب ستقدم على خطوات بالغة الخطورة في كل ما يتعلق بالصراع.
فالحكومة العتيدة ستكون تحت التأثير الطاغي لليمين الديني في نسخته الأكثر تشدداً وتطرفاً، حيث سيشارك فيها تحالف الكاهانية والصهيونية الدينية والأحزاب الدينية الحريدية.
ونظراً لأن تحالف الكاهانية والصهيونية الدينية سيكون ثاني أكبر مركب حزبي في الائتلاف الحاكم الجديد، فإن منطلقاته الأيديولوجية وتعهدات قادته في الحملة الانتخابية ستودي دوراً في تحديد بوصلة الحكومة القادمة.
فقد سبق لـ»بتسلال سموتريتش»، زعيم الصهيونية الدينية، الذي سيتولى منصباً وزارياً رفيعاً في الحكومة القادمة أن قال بوجوب تطبيق فتوى الحاخام «موشي بن ميمون»، الذي عاش في القرن الـ12، على الفلسطينيين، بحيث يكون أمامهم 3 خيارات: المغادرة، أو العمل كخدم لليهود، أو القتل.
ويكفي أيضاً أن نشير إلى ما ورد في البرنامج السياسي للحركة الكاهانية الذي نص بشكل صريح على وجوب طرد «أعداء إسرائيل» (أي الفلسطينيين) إلى الدول العربية المجاورة، ولا تفرق الكاهانية بين الفلسطينيين في الضفة الغربية وفلسطينيي الداخل، حيث تدعو الحركة إلى تشجيع فلسطينيي الداخل على الهجرة إلى الدول العربية وأوروبا.
تعهدات «بن غفير»
وقد تعهد زعيم الكاهانية «إيتمار بن غفير» بسن قانون يشرع طرد كل فلسطيني يحرِّض ضد «إسرائيل»، ويتبنى منها مواقف معادية، ونشر خلال حملته الانتخابية فيديو يظهر فيه وهو يقتحم طائرة مدنية خالية من الركاب، حيث حدد عدداً من المقاعد في مقدمتها، مؤكداً أنها ستكون مخصصة للنواب العرب في الكنيست عندما سيتم طردهم إلى أوروبا بعد سن القانون.
إلى جانب ذلك، فقد التزم «بن غفير» بسنِّ قانون يشرع فرض حكم الإعدام على المقاومين الفلسطينيين الذين يشاركون في عمليات مقاومة؛ وإحداث تغيير جذري على أوامر إطلاق النار المعمول بها في الضفة الغربية، بحيث يمنح الضباط والجنود حرية مطلقة لاستهداف كل ما يعتبرونه مصدر خطر.
إلى جانب ذلك، فقد وعد «بن غفير» بتمرير قانون يمنح حصانة لضباط وجنود الجيش والشرطة الذين يقتلون أو يجرحون فلسطينيين أثناء أداء مهامهم العسكرية والأمنية، إلى جانب ذلك، فقد أكد بأنه سيوظف ثقله في الحكومة لتتبنى سياسة أكثر قمعاً تجاه الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال وحرمانهم من كل الحقوق التي حازوها بعد تقديمهم تضحيات كبيرة.
وأوضح «بن غفير» أنه سيعمل على إلغاء اتفاقيات أوسلو وحل السلطة الفلسطينية ورفع أي قيود على الأنشطة الاستيطانية في الضفة الغربية والقدس والتصدي للبناء الفلسطيني، وهذا يعكس توجهاً واضحاً لتفكيك البنى السياسية التي يمكن أن تهدد مستقبلاً منظومة الهيمنة اليهودية في فلسطين التاريخية.
لكن مما لا شك فيه أن أخطر تعهدات «بن غفير» تتعلق بمستقبل التعاطي مع المسجد الأقصى، حيث أوضح أنه معني بفرض التقاسم الزماني والمكاني بين المسلمين واليهود في المسجد، في خطوة تمهد لتهويده تماماً، وقد عبر زملاء «بن غفير» عن هذه التوجهات عندما نفخ النائب «سمحا روطمان»، الذي يرجح أن يتولى منصباً وزارياً في الحكومة القادمة، بالبوق عند الحائط الشرقي للمسجد الأقصى بعدما دنس مقبرة إسلامية هناك.
ومن نافلة القول: إن «بن غفير» وزملاءه في الكاهانية والصهيونية الدينية والأحزاب الحريدية الذين يؤمنون بعقيدة الخلاص يعتبرون التصعيد مع الفلسطينيين مساراً نحو تحقيق هذا الخلاص، ويعتقد هؤلاء أن تحقق الخلاص ونزول المخلص المنتظر الذي سيجعل اليهود قادة للعالم يتوقف على بناء الهيكل على أنقاض المسجد الأقصى، وما يتبعه من تفجر حرب «يأجوج ومأجوج».
ويجاهر تحالف الكاهانية والصهيونية الدينية بعزمه إحداث تحول كبير على بنية النظام السياسي والقانوني في «إسرائيل» بشكل يحولها عملياً إلى «دولة شريعة»، فقد أعلن زعيم الصهيونية الدينية «سموتريتش» أنه سيعمل على إحلال أحكام الشريعة اليهودية محل القانون الوضعي المعمول به حالياً.
مخاطر إستراتيجية
لكن تبني الكيان الصهيوني هذه المنطلقات بالغة التطرف سينطوي على مخاطر إستراتيجية هائلة لهذا الكيان، فتصفية وجود السلطة الفلسطينية، كما يروج «بن غفير»، ستفتح الطريق أمام تحمل «إسرائيل» المسؤولية عن تبعات احتلالها المباشر للضفة وغزة أمام المجتمع الدولي، فضلاً عن أن هذا التحول سيوفر ظروفاً تسمح بتوحيد الصف الفلسطيني دون الحاجة إلى المحاولات اللانهائية التي أخفقت في تحقيق المصالحة الوطنية وإنهاء الانقسام.
وستكون علاقة «إسرائيل» بالأردن الأكثر تضرراً بسبب مسؤوليته كصاحب الوصاية على الأماكن المقدسة، وقد يؤثر صعود الكاهانية حتى على توجهات نظم الحكم الأكثر حماساً للتطبيع مع «إسرائيل»، فقد كشف موقع «واللاه» أن وزير خارجية دولة خليجية وقعت اتفاق تطبيع مع «إسرائيل» أعرب عن قلقه الشديد في لقاء جمعه بـ»نتنياهو» من تشكيل حكومة برئاسته تشارك فيها جهات متطرفة، في إشارة إلى الكاهانية.
وعلى الصعيد الداخلي، فإن نتائج الانتخابات ستفضي إلى ثورة بكل ما تعني الكلمة من معنى، فقد تعهد ممثلو الليكود واليمين الديني المتطرف الذين سيشاركون في الحكومة القادمة أنهم سيمررون قانون ينزع من المحكمة العليا حق مراجعة القوانين التي يسنها الكنيست؛ لضمان سن التشريعات التي تسهم في تكريس الطابع اليهودي للدولة وتساعد على حسم الصراع مع الشعب الفلسطيني.
وستتحمل «إسرائيل» كلفة اقتصادية باهظة جراء تشكيل الائتلاف الذي يضم الحريديم وتحالف الصهيونية الدينية والكاهانية، فقد توعدت الأحزاب الحريدية بأن تضمن أي اتفاق ائتلافي مع الليكود التزاماً بزيادة المخصصات المالية لمؤسساتها الدينية والتعليمية والاجتماعية، فضلاً عن توسيع مخصصات الضمان الاجتماعي للعوائل الحريدية.
قصارى القول: نتائج الانتخابات الصهيونية تنطوي على مخاطر كبيرة، لكنها في الوقت ذاته تحمل في طياتها فرصا مهمة؛ فإن كانت هذه الانتخابات ستوفر بيئة تسمح للصهاينة بالتصعيد ضد الشعب الفلسطيني، فإنها في الوقت ذاته ستظهر ضعف هذا الكيان ومدى هشاشته وتوفر للفلسطينيين المسوغ الموضوعي لوحدة الصف.