دخلت الحياة السياسية التونسية سجالاً جديداً بعد إحجام الناخبين عن المشاركة في الانتخابات التشريعية التي جرت هذا الأسبوع، على نحو يرى محللون أنه قد يأخذ البلاد إلى مزيد من فقدان السيادة.
ووفقاً للهيئة العليا المستقلة للانتخابات في تونس، بلغت نسبة المشاركة في الانتخابات التي جرت يوم السبت (17 ديسمبر الجاري)، أقل من 12%، وهي الأضعف منذ 2011.
وقالت الهيئة إن دعوات الأحزاب المعارضة لمقاطعة التصويت كانت سبباً في إحجام الناخبين عن التصويت، مشيرة إلى احتمال إجراء جولة ثانية في غالبية الدوائر.
هذا الإحجام الكبير عن التصويت اعتبرته “جبهة الخلاص” المعارضة نهاية لشرعية الرئيس قيس سعيد، الذي أحكم قبضته على كل السلطات منذ يوليو 2021، فيما قال الأخير إن نسبة الإقبال تقاس بعد الجولة الثانية المقررة في يناير المقبل.
ويوم الاثنين (19 ديسمبر الجاري)، قال المتحدث باسم هيئة الانتخابات، محمد التحليلي، إن جولة الإعادة ستجري في 20 يناير المقبل، مشيراً إلى أنه ستشمل الجولة الثانية 133 دائرة انتخابية من بين 161 دائرة بعد فوز 21 مترشحاً فقط بمقاعد في البرلمان الجديد منذ الجولة الأولى.
وأوضح التليلي أن 10 مترشحين عن 10 دوائر انتخابية فازوا آلياً، نظراً لوجود مترشح واحد في كل دائرة.
سجال حول شرعية الرئيس
كانت شرعية سعيّد هي أول ضحايا الانتخابات البرلمانية، حيث قالت “جبهة الخلاص” إن امتناع التونسيين عن التصويت “أسقط شرعية الرئيس”، ودعت هي والحزب الدستوري الحر، الرئيس للاستقالة وإجراء انتخابات رئاسية مبكرة.
كما طالب رئيس حزب “آفاق تونس” المعارض، فاضل عبد الكافي، الرئيس التونسي بإيقاف ما وصفها بـ”المهزلة”، وإعلان حكومة طوارئ اقتصادية، وإجراء انتخابات رئاسية مبكرة.
بدوره، دعا رئيس المكتب السياسي لحراك “25 يوليو” الداعم للرئيس سعيّد، عبد الرزاق الخلوي، إلى انتخابات رئاسية مبكرة أيضاً، لكنه قال إن إحجام الناخبين لا ينتقص من شرعية الرئيس.
وفي السياق، قال القيادي في حركة “الشعب” الداعمة لسعيّد، محمد المسيليني، في تصريحات، إن انفراد الرئيس بالقرار هو ما أدّى إلى هذه النتائج.
وكان سعيد الذي أطاح بالحكومة والبرلمان وعطل الدستور فيما تصفه المعارضة بـ”انقلاب يوليو 2021″، يعول على هذه الانتخابات لترسيخ النظام الرئاسي الذي يحاول إرساءه منذ وصوله إلى الحكم في 2019.
واستناداً إلى الدستور الجديد الذي تم إقراره إثر استفتاء شعبي في يوليو الماضي ولم يشارك فيه نحو 70% من الناخبين، فإن البرلمان الجديد سيكون مجرداً من الصلاحيات الفعلية التي كان يتمتع بها المجلس الذي حلّه الرئيس.
ولم تحظ العملية الانتخابية برمتها بنفس الزخم الذي عاشته انتخابات ما بعد ثورة يناير 2011 التي أطاحت بالرئيس الراحل زين العابدين بن علي، والتي كان سعيد ثمرة من ثمارها.
{tweet}url=1604894140088651802&maxwidth=400&align=center&media=false{/tweet}
دعوات للحوار
وتتجه الأنظار مجدداً إلى الاتحاد الحاصل على جائزة نوبل للسلام والمعروف بوساطاته الكبرى في مثل هذه اللحظات، لتبني دعوات إحياء الحوار الوطني مجدداً لإنقاذ مستقبل البلاد، الذي يرى البعض إنه يتجه نحو مزيد من الضبابية والحكم الشمولي.
وفور إعلان نتائج الانتخابات (مساء الأحد 18 ديسمبر الجاري)، دعا رئيس جبهة الخلاص الوطني أحمد نجيب الشابي، اتحاد الشغل إلى الاضطلاع بدوره في الإشراف على حوار وطني يجمع الفرقاء، ويضع خريطة طريق تخرج البلاد من هذه الأزمة العميقة التي تمر بها.
وبعد اجتماع رفيع، دعا الاتحاد (الثلاثاء 20 ديسمبر الجاري) قوى المجتمع المدني والمنظمات الوطنية إلى تأدية دورها الوطني في مواجهة الأزمة الخانقة التي تعصف بالبلاد.
وقال الأمين العام للاتحاد، نور الدين الطبوبي، في خطاب جماهيري: “إن العبث بتونس لا يمكن أن يستمر”، في علامة على ما يبدو على تحركات شعبية محتملة في الفترة المقبلة.
وأضاف: “المقاطعة الكبيرة للانتخابات هي رسالة لكل الطبقة السياسية تظهر إحباط ويأس التونسيين. حان الوقت للمجتمع المدني والمنظمات الوطنية لتلعب دورها الوطني”.
وقال الطبوبي: “الصمت اليوم جريمة.. لن ندعكم تعبثون بالبلد.. لا نخاف من السجون.. الوقت انتهى وإذا لم تفهم الرسالة فإن الناس سيقولون كلمتهم من خلال النضال السلمي”.
وصبيحة إعلان النتائج، اعتقلت السلطات التونسية رئيس الوزراء الأسبق وزير الداخلية السابق علي العريض، وهو نائب رئيس حركة النهضة، على خلفية قضية “تسفير مقاتلين لبؤر التوتر في سوريا”.
ووصفت جبهة الخلاص الخطوة بـ”المتوقعة”، وقال أمينها العام في مؤتمر صحفي إن السلطة ستنقض على الصف الأول من الطبقة السياسية.
كما أوصت بعثة الملاحظين من الاتحاد الأفريقي، في مؤتمر صحفي (الاثنين 19 ديسمبر الجاري)، السياسيين والسلطات الحكومية، بـ”إعطاء الأولوية لحوار شامل ومفتوح لإيجاد حلول تهدف إلى تهدئة المناخ السياسي والتوصل إلى توافقات”.
المشاركة في الانتخابات التشريعية
واعتبر رئيس البعثة، إبراهيم ماياكي، أن ضعف الإقبال على الانتخابات “سببه غياب الإجماع السياسي بشأن المسار الانتخابي”، مبيناً “أهمية البحث عن هذا الإجماع باعتباره جانباً حاسماً في توطيد الديمقراطية والتنمية”.
وشدّد على “ضرورة إجراء حوار شامل وتوافقي من أجل العمل على مواصلة ترسيخ الديمقراطية والتنمية والاستقرار في تونس”.
وخلال مؤتمر صحفي، (الاثنين 19 ديسمبر)، دعا “مركز كارتر” إلى “ضرورة انخراط القادة التونسيين في مشاورات واسعة النطاق وشاملة، ووضع الخلافات السياسية جانباً لإحياء التحول الديمقراطي المتعثر”.
وطالب المركز “بتسريع إحداث المحكمة الدستورية، ومعالجة دستور 2022 والمراسيم الصادرة من قبل رئاسة الجمهورية”.
ووصف المركز نسبة المشاركة في الانتخابات التشريعية بـ”المتدنية جداً، وتعكس خيبة أمل الشعب التونسي من الوضع السياسي والاقتصادي في البلاد”، مؤكداً أن خريطة الطريق الرئاسية “لم تنجح في توحيد البلاد”، وأنه “لا بد من مسار مختلف”.
وقال مدير البعثة إلى تونس، دون بيسون، إن “التونسيين عبروا عن رفضهم لهذا المسار، وهو ما تعكسه نتائج المشاركة المتدنية، ووجهوا رسالة بذلك، والمسار ككل لا يستجيب للمعايير الدولية”.
وكان الناطق الرسمي باسم الخارجية الأمريكية نيد برايس، شدد في بيان (الأحد 19 ديسمبر الجاري)، على” أهمية اعتماد إصلاحات شاملة وشفافة بما فيها تعزيز القانون الانتخابي وإرساء المحكمة الدستورية، وحماية حقوق الإنسان والحريات الأساسية لجميع التونسيين”.
ووفقاً لأستاذ التاريخ المعاصر في الجامعات التونسية عبد اللطيف الحناشي، فإن “البديل الذي تقدمه المعارضة لا يقنع التونسيين”.
ونقلت قناة “الجزيرة” عن الحناشي أن العزوف الواسع عن التصويت ليس بالضرورة ضد قيس سعيّد، ويرى أن التونسيين يشعرون بإحباط كبير من الطبقة السياسية.
كيف سيكون رد فعل الرئيس؟
يعتبر أستاذ التاريخ المعاصر في الجامعات التونسية عبد اللطيف الحناشي، أن سعيّد الذي يحتكر السلطات في البلاد منذ 25 تموز/يوليو 2021، “قام بحملة واسعة بمفرده للانتخابات عبر تعدد الزيارات في المدة الأخيرة من منطلق أن لديه شعبية، غير أن النتائج خذلته ولم تظهر ذلك”.
ويتابع “خيبة أمل كبيرة جدا، كان يعول على إرادة الشعب لكنها غابت”.
واعتمد مشروع سعيد لإعادة تشكيل النظام السياسي على الشرعية الشعبية التي لاحت من فوز ساحق في انتخابات 2019 ضد نبيل القروي، واحتفالات عفوية في الشوارع عندما أغلق البرلمان.
وفي الأسابيع الأخيرة التي سبقت الانتخابات، بدا ظهور سعيّد متعددا تمثل أساسا في زيارة بعض الأحياء الشعبية ولقاء المواطنين، وكأنه في حملة انتخابية “بالوكالة” عن المرشحين للانتخابات البرلمانية.
بالتزامن مع ذلك، تواجه تونس أزمة اقتصادية حادة، بارتفاع مستوى التضخم في حدود 10%، كما زادت تداعيات الحرب في أوكرانيا من غلاء أسعار المواد الأساسية كالقمح والمحروقات.
ويقول الباحث السياسي حمادي الرديسي “لقد أظهر أن لديه تأييدا شعبيا، ولكن اتضح أنه ليس هناك لا شرعية دستورية أو انتخابية”.
ما مصير الدعوات للرحيل؟
من جهتها، دعت قوى معارضة على غرار “جبهة الخلاص الوطني” والحزب الدستوري الحر سعيّد للاستقالة وإلى تنظيم انتخابات رئاسية مبكرة.
لكن الرديسي يؤكد أنه “لا توجد آلية لإجباره على الرحيل”. كما يرى الباحث يوسف الشريف أنه من الصعب “استقالة الرئيس أو حتى الاعتراف بفشل هذه الانتخابات”.
ويضيف الشريف أنه حتى إثر الاستشارة الوطنية التي اقرّها الرئيس مطلع العام وشارك فيها نحو 600 ألف تونسي، “رفض (الرئيس) الاعتراف بالفشل”.
وأقرت الهيئة العليا للانتخابات بأن النتائج “متواضعة”، في انتظار الدورة الثانية مطلع آذار/مارس المقبل.
ماذا بإمكان المعارضة أن تفعل؟
وتبقى المعارضة السياسية التي يتقدمها حزب النهضة منقسمة، لأن خلفياتها الإيديولوجية متضادة، وسعت منذ أن احتكر الرئيس السلطات إلى تعبئة الشارع، ودأبت على تنظيم التظاهرات داعية سعيّد “المنقلب” إلى الرحيل.
لكن “البديل الذي تقدمه لا يقنع التونسيين”، وفقا للحناشي الذي يقدر أن “العزوف الواسع ليس بالضرورة ضد قيس سعيّد، بل لأن التونسيين يشعرون باحباط كبير وقرف من المشاركة السياسية ومن الطبقة السياسية”.
ورغم أنها مدعومة بما تقول إنه رفض لسعيّد في الانتخابات التشريعية، تواجه المعارضة السياسية في تونس معضلات تبدو مزمنة.
فالعديد من قادتها لا يتمتعون بشعبية بسبب الشلل السياسي والركود الاقتصادي واتهامات شعبية لهم بخدمة مصالح ذاتية فقط عندما كانوا في الحكومة. وهي منقسمة بين أحزاب تزدري بعضها البعض بقدر رفضها لسعيّد.
ولم تُظهر قدرة عالية على تعبئة الاحتجاجات الجماهيرية في الشوارع التي تقول إنها تؤيدها.
والطرف الوحيد الذي يملك القدرة على إحداث تغيير في البلاد هو “الاتحاد العام التونسي للشغل” المركزية النقابية، بالنظر إلى كونه الطرف الاجتماعي الأكثر تنظيما وكان له دور كبير في ثورة 2011.
ما موقف القوى الخارجية؟
وعد سعيّد الأطراف الخارجية “بخارطة طريق وتم تنفيذها”، وفقا للحناشي.
وجاء بيان الخارجية الأمريكية ليدعم ذلك، حيث اعتبر المتحدث باسم الوزارة نيد برايس أن الانتخابات البرلمانية في تونس “خطوة أولى أساسية نحو استعادة المسار الديموقراطي في البلاد”، مؤكدا في الآن نفسه أن نسبة الامتناع عن التصويت المرتفعة تظهر الحاجة إلى مزيد من “المشاركة السياسية” على نطاق أوسع.
أما الخارجية الفرنسية فقد أشارت في بيان الاثنين إلى “انخفاض مستوى المشاركة”، ودعت إلى استئناف المفاوضات بين تونس وصندوق النقد الدولي.
ويُعد دعم الشركاء الأجانب حاسما بالنسبة لتونس المثقلة بالديون، والتي طلبت من صندوق النقد الدولي قرضا رابعا لعشر سنوات يبلغ نحو ملياري دولار، وهو ما سيمكن من فتح الباب أمام مساعدات أخرى سواء من أوروبا أو دول الخليج العربي.