تناولنا في الحلقة السابقة من سورة «البقرة» قيمة المعرفة في تقدم الأمم، فلا عبادة بدون عمران، ولا عمران بدون استخلاف، ولا استخلاف بدون معرفة، وقد علم الله سبحانه وتعالى الأسماء كلها، فكان جديراً بالخلافة في الأرض.
تنتقل الآيات بعد ذلك في سورة «البقرة» لتكشف عن مزيد من التكريم لآدم عليه السلام، والدنيا وما فيها من ابتلاء، والطريق لتحقيق الرفاه في الدنيا والآخرة؛ (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ {34} وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ {35} فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ {36} فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ {37} قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ {38} وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُولَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (البقرة).
وقد جاء سجود الملائكة لآدم طاعة لله وليس لأمر آدم، وهذا من تكريم الله للإنسان، وفي المقابل نجد أن الشر لا ينفصم؛ فجاء رد إبليس إباء واستكباراً وحسداً بالرفض، وهذا السلوك مدمر ليس لإبليس فحسب، بل لمن اتبعه من البشر، وعجز عن إبطال روح الشر وإبطال خواطر السوء التي تحدثه بها نفسه، التي هي سبيل التنازع والتخاصم والتعدي وأكل أموال الناس بالباطل والإفساد في الأرض.
واستمر تكريم الله لآدم في عالم الاختبار فأسكنه وزوجه الجنة.. فاستعداد المرأة لا يقل عن استعداد الرجل.. والجنة هي بستان التجربة على التكليف وليست جنة الخلد، وأمده فيها بكل ما يضمن استمرار حياتهما بسعة العيش والهدوء والطمأنينة.. جنة لا يظمأ فيها ولا يضحي أو يكدّ، ولا يجوع فيها ولا يعرى.. جنة تحقق الرغد، وهو منتهى غاية النظام الاقتصادي الإسلامي.
وتكشف الآيات عن جانب مهم من حياة البشر وسُنة معاشهم؛ وهو الابتلاء والوقوع في غواية الشيطان الذي يزين لهم الباطل ويدفعهم له دفعاً، فالله تعالى فتح لآدم من أبواب الحلال والطيبات ما لا يحصى عده من المباحات، وألهمه معرفة الخير، وحذَّره من الاقتراب من شجرة واحدة من أشجار الجنة الغزيرة الوارفة، وألهمه بذلك معرفة الشر، الذي تهدى الفطرة لقبحه ووجوب اجتنابه، ولكنه ترك الكثير ووقع في الشر المحذور بملابسة الشيطان ووسوسته، فأكل من الشجرة فظلم نفسه بمعصية ربه، وخرج من الجنة.
وهو مثال لما يلاقيه الإنسان من البلاء والعناء بالخروج عن الفطرة السليمة، فكل إنسان له شجرة في حياته ممثلة في شهوات محركات ومحرمات محدودات يجب أن يتجنبها، فتلقى آدم كلمات ربه والرجوع للفطرة السليمة بالتوبة والاعتراف بالذنب والرجوع لله عند الضيق واللوذ به في الشدائد، وتوبة الله هي مفتاح الهداية والإنابة والمخرج من كل ضيق، والتفلت من شرك البلاء، فلا مناص للإنسان صاحب الفطرة السوية من البعد عن اقتراف المحرمات وهي قليلة العدد من أكل الأموال بالباطل والخبائث مقارنة بالمباحات التي لا حصر لها حتى لا يظلم نفسه بمنحها شهوة دنيوية عاجلة ويحرمها من نعيم أبدي في الآخرة.
من الراحة إلى العمل
وكان من نتيجة ذلك أن انتقل آدم إلى عهد الاستخلاف، من أرض الراحة إلى أرض العمل والابتلاء، ومواجهة عدو الله وعدوهم خليفة الشر إبليس اللعين في معركة الحق والباطل، معركة الهدى والضلال التي ميدانها الإنسان نفسه، وهو الكاسب أو الخاسر فيها إلى قيام الساعة، وجاء هذا الانتقال استقراراً لآدم وذريته في الأرض لتعميرها، لا عقاباً لهم بالحرمان من التمتع بخيراتها، مع عدم خلودهم فيها، فاستقرارهم ومتاعهم إلى حين، وهذه حقيقة الدنيا؛ فحسنتها تعميرها بما يعمرها ويعمر الآخرة معاً بالإرادة والعهد مع الله بعيداً عن الشر والفساد بالاستسلام للشهوات والبعد عن الله تعالى.
ورغم ما وقع فيه آدم من معصية، فإن ذنبه من ذنوب الغفلة والنسيان وليس من ذنوب الغرور والاستكبار التي انتهجها إبليس؛ لذا كان من آدم الانكسار وتوجه إلى الله تعالى بالتوبة فتاب عليه ربه، ووضع سبحانه قاعدة العمل الإنساني للسعادة، فسعادة الإنسان باتباع هُدى الله، وشقاوته بتركه، فمن اتبع هُدى الله لا يخاف أو يقلق مما هو آت، ولا يحزن أو يألم على ما فات، لأن اتباع الهُدى هو السبيل لاكتساب الخيرات، وسعادة الدارين، فهو الزاد لتيسير ما يستقبله الإنسان، وتهوين ما يصيبه من فقد أو ألم، فيتلقى بالصبر كل ما أصابه، وبالطمأنينة ما يتوقع أن يصيبه، لأنه يوقن يقيناً جازماً بأن الله يخلفه، وما عنده سبحانه خير وأبقى، فيكون كالتعب في الكسب، لا يلبث أن يزول بلذة ما يحققه من ربح.
إن السعادة التي هي غاية الاقتصاد الإسلامي ليست في حرية البهائم، ولكنها في الحرية المنضبطة بضوابط الشريعة، وسعادة الدنيا معلولة بالاهتداء بالدين، فعقد الاستخلاف قائم على هَدْي الله، ومفرق الطريق هو أن يسمع الإنسان ويطيع لما يتلقاه من الله أو لما يمليه عليه الشيطان وليس بينهما طريق ثالث، فإما فلاح وإما خسران، وهذا حجة على الذين يرددون أن الكافرين لهم الدنيا ولنا الآخرة، فهو قول مغلوط شرعاً وعقلاً، فمن اتبع هُدى الله لا يضل ولا يشقى ويمتعه الله متاعاً حسناً، فالمسلم الحق يجمع بين الحسنيين؛ حسنة الدنيا وحسنة الآخرة، ولا يكون مكتمل الإيمان وهو يأكل ويشرب ويلبس ويتداوى ويسلح نفسه من أعدائه، حيث إن القوة الاقتصادية هي من مرتكزات الحماية لإيمان الفرد والمجتمع والدولة.
والقرآن الكريم من خلال قصة آدم عليه السلام يعطي درساً مهماً بأن الإنسان سيد هذه الأرض، ومن أجله سخر الله له ما فيها، لذا فهو أعز وأجل من أي شيء مادي، وهو أهم عنصر في عناصر الإنتاج وبغيره لا قيمة للموارد، وليس كما عظمت المذاهب المادية من دور الآلة على حساب الإنسان، وأهملت القيم الروحية في سبيل تعظيم الربحية للمنتج والمنفعة للمستهلك، فالإنسان هو أساس التنمية بما منحه الله من هُدى وحباه من مواهب وجعله خليفته في الأرض؛ يقيم سُننه، ويظهر عجائب صنعه، وأسرار خليقته، وبدائع حكمه، ومنافع أحكامه.