انتهي المونديال وعاد كل إلى دياره حاملاً حصيلته من أحداث وذكريات.. ويوماً بعد يوم تتبخر الأحداث من الذاكرة وتتلاشي الذكريات، لكن.. بعد هدوء أمواج ذلك المونديال الفريد وصفاء مياهه تبرز الحقائق المتولدة عنه واضحة جلية، مقدمة معالم جديدة لمشروع الغرب ومعتقداته وسلوكياته في المرحلة القادمة.
وبينما انصرف الحاضرون والمتابعون كل إلى حال سبيله بعد قضاء وقت جميل، انصرفت الدوائر الغربية ومراكز البحث والتحليل والاستقراء؛ السياسية والفكرية والدينية والإستراتيجية، إلى تحليل ما جرى وبناء رؤاها وخططها حول كيفية التعامل معها في المستقبل باعتبار أن الحقائق التي تجلت تعد مؤشراً على الجديد في توجهات الشعوب ومعتقداتها وثقافتها خاصة في منطقتنا العربية.
وأول تلك الحقائق التي تجلت بقوة وبتلقائية، تزايد رفض الجماهير العربية للتطبيع مع العدو الصهيوني، وهو ما مثل مفاجأة للدوائر الرسمية والإعلام في الكيان الصهيوني بل وفي العالم.
لقد رسخت هرولة العديد من الأنظمة العربية نحو التطبيع، والسباق على استضافة قادة الكيان المحتل في عواصمهم، وعقد اتفاقيات وشراكات قام الإعلام بتغطيتها بصورة رسخت في وعي المتابعين أن العرب في غالبيتهم سقطوا في بئر التطبيع، لكن المونديال جاء فكذب ذلك، كاشفاً عن تنامي رفض الشعوب لذلك التطبيع، وكانت الصورة الأوضح متمثلة في العزوف الجماهيري شبه الكامل عن التعامل مع الإعلام الصهيوني الذي حضر لتغطية المونديال، وقد حمل الرفض نماذج فريدة وغاضبة كشفت عن الحقيقة المجردة في هذا الصدد وأكدتها الأعلام الفلسطينية التي كانت الأكثر حضوراً في سماء المونديال، فرغم أن فلسطين لم تشارك في المنافسة، فإن علمها كان الأكثر حضوراً ليس بيد جماهير شعب واحد، ولكن بيد معظم الجماهير العربية.
لقد حل الوعي والحس الوطني والإسلامي محل الهوس والانهزام، وكان ذلك مفاجئاً للأوساط السياسية والشعبية الصهيونية، وقد عبر عن ذلك شاحار بيرد يشفسكي، الكاتب في صحيفة “معاريف” العبرية بالقول: سنتذكر نتائجها (المونديال) التاريخية لسنوات عديدة قادمة، لكننا كمشاهدين “إسرائيليين”، ربما اعتقد الأشخاص السذج أن قطار التطبيع الذي يغادر المحطة كان سيغير شيئاً ما في قلوب العالم العربي تجاه “إسرائيل”، على أي حال، فإن بطولة كأس العالم الحالية أبرزَ تضامن العالم العربي ومحورية الرواية الفلسطينية فيه.
المثلية.. وكأنها دين جديد
لكن المفاجأة الصادمة التي دوت خلال المونديال تمثلت في الاحتفاء الغربي الرسمي للمثلية (الشذوذ الجنسي)، ليس احتفاء من شريحة من المجتمعات، وإنما من الحكومات والدول ذاتها؛ وبالتالي برزت المثلية أشبه بدين جديد، إذ وقع الرئيس الأمريكي يايدن في 13 ديسمبر 2022 على قانون يحمي زواج وحُقوق المثليين (الشواذ) في الولايات، وتلى ذلك بيوم واحد (14 ديسمبر)، وبينما المونديال في ذروة نشاطه وفي مشهدٍ عدّه نشطاء حول العالم مُستفزًّا، أضاء البيت الأبيض (مقر الحكم) واجهة مبناه، بألوان علم المثليّة، وذلك دعماً منه للشّواذ، والشذوذ! ناهيك أن البيت الأبيض يضم بين جنباته لأول مرة امرأة مثلية هي السيدة كارين المتحدثة باسمه!
وقد سبق الفاتيكان الولايات المتحدة في الاعتراف بحقوق المثليين، وتعج الكنيسة الكاثوليكية بعشرات الشواذ من القساوسة والكرادلة، وسبق ذلك وتلاه فضائح جمة لاعتداءات جنسية داخل الكنائس وهزت عرشها، لم يسلم منها الأطفال.
وفي يوم الجمعة 26 يونيو 2021، افتتح الرئيس الأمريكي جو بايدن ملهى بالس للمثليين في أورلاندو بولاية فلوريدا، وأزاح الستار عن نصب تذكاري يعدونه نصباً وطنياً تكريماً لـ94 من المثليين قُتلوا في إطلاق نار عشوائي فيه عام 2016، ويومها حث الكونجرس على سن قوانين تحمي بوضوح الحقوق المدنية للمجتمع المثلي.
وقال بايدن، وهو يوقّع قانون تأسيس نصب بالس التذكاري الوطني في فلوريدا، بحضور ناجين من الهجوم وأعضاء الكونجرس الذين عملوا لسن القانون: “لن نتعافى بالكامل أبداً، لكننا سنظل نتذكر”.
إذاً لم تكن بعض المظاهر الداعية للمثلية والمؤيدة لها خلال المونديال تصرفات فردية، وإنما تصرفات مقصودة ومخطط لها وتحميها دول كبرى، وهو ما يعني أن الشذوذ بات أشبه بدين جديد في الغرب تحميه وتروج له الدول الكبرى وفي مقدمتها الولايات المتحدة بما يعني فرضه على العالم!
وفي هذا السياق، أخذت بريطانيا زمام المبادرة بالإعلان عن ذلك عبر قيام وزيرة الرياضة البريطانية بالتجوال في أرض المونديال حاملة شارة المثلية، لكن المسألة لم تمر، حيث تمنع قيم الدولة المضيفة ذلك وفقاً لمبادئ وقيم دينها الإسلامي الحنيف، فتم منع الوزيرة البريطانية على الفور من التجوال بالشارة الملعونة ومن قبل أعادت الحكومة القطرية طائرة الفريق البريطاني بسبب هبوطها حاملة شعار المثلية.
وفي المقابل، برزت القيم الإسلامية معلنة عن نفسها وأهمها قيمة “العائلة “بظهور أمهات لاعبي الفريق المغربي إلى جوار أبنائهن الذين حققوا نتائج مبهرة، فكان خير رد على الدعوات المروجة للشذوذ وأثبت الفريق المغربي أن قيم الإسلام ومبادئه تصنع الانتصارات وبصورة أذهلت العالم، في وقت كانت الدعوة الإسلامية الواسعة للتعريف بالإسلام بصورة متحضرة جذبت المئات لاعتناق الإسلام.
شارة الحروب الصليبية تتحدى
ولم تكن شارة المثلية وحدها تتحدى قيم الدولة المضيفة، ولكن أيضاً برزت شارة الحروب الصليبية، فرغم منع “فيفا” جماهير كرة القدم البريطانية من ارتداء ملابس تحمل شعار “الحملات الصليبية” خلال مباريات المونديال، قام أفراد من الجماهير الإنجليزية قبل مباراة إنجلترا وفرنسا برسم الصليب على أنوفهم وأجزاء من وجوههم، تحايلاً على المنع، وذلك في إصرار غريب على التذكير والاعتزاز بتلك الحملات الدينية الأوروبية على بلادنا بزعم الدفاع عن “الصليب” ضد المسلمين، رغم أن المسلمين كانوا في ديارهم آمنين، وتم غزو بلادهم وتخريبها على يد تلك الحملات التي تمت بين عامي 1095 و1291م، على الشرق الإسلامي للاستيلاء على القدس والمنطقة المحيطة بها من الحكم الإسلامي.
على العموم، فقد دحر القائد المسلم صلاح الدين الأيوبي هذه الحملات وانتصر عليها في موقعة “حطين”، لكن نوازع تلك الحروب ما زالت تغلي كلما حانت الفرصة.
إنهم لا يتركون فرصة أو مناسبة حتى ولو كانت رياضية إلا ويتفاخرون بثقافتهم وسلوكياتهم الشاذة ويتباهون بتاريخهم الملطخ بالدماء!
وفي المقابل، قام الإعلام الألماني بالتحريض على لاعبي المغرب واصفاً إياهم بالتطرف والدعوة إلى الجهاد بسبب رفعهم أصبع السبابة (إشارة التوحيد)، بعد انتصارهم على البرتغال في نصف نهائي المونديال، لكن هذا التحريض قوبل بسخط واسع من قبل مغردين قاموا بنشر صور لشخصيات غير مسلمة ترفع الأصبع ذاته، وبينهم بابا الفاتيكان، والمستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل.. وكل أدرى بدوافع إشارته التي لا علاقة لها بالتطرف.. وإلى ما ستكشفه الأيام من وقائع بناء على ما جرى خلال ذلك المونديال الفريد.
__________________________________
(*) مدير تحرير “الشعب” المصرية، و”المجتمع” الكويتية– سابقاً.